إغلاق
 

Bookmark and Share

حول مكاشفات فضل الله ::

الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/04/2008


أفكار حول ثوابت التقارب ومجالاته ومستوياته
تمكنت من الاطلاع على أجزاء من المكاشفات مع محمد حسين فضل الله، المرجع الشيعي اللبناني، وقد سرني ما وقفت عليه من آراء مستنيرة له وأحسب أنه يمكن لنا البناء على مثل تلك الآراء الجسورة. وأنا هنا لست بصدد التعليق على أفكار جزئية طرحت في تلك المكاشفات المطولة، فما يهمني هو نفسها العام حيث عكست رقياً فكرياً وسعة فقهية واستيعابا ذكياً للتحديات، وفي هذا السياق أود أن أسجل بعض الأفكار حول مسألة التقارب بين السنة والشيعة، لاسيما في وقت بدأنا نشهد فيه تحشيداً لآراء المتطرفين والمتشددين من الفئتين في بيئة فكرية ومناخ سياسي، لسنا وحدنا من يتحرك فيه أو يصنع أحداثه أو شخوصه!، حيث ُتوجه العديد من الأحداث وتصنع الكثير من المواقف والاتجاهات بطريقة تخدم أهدافا خارجية كنظرية الفوضى الخلاقة وغيرها، مما يؤكد على أن خيار التقارب الحقيقي خيار وحيد، ومن ثم فلا قرار لنا سوى المضي في سبيل تحقيقه لاسيما على مستوى العامة، أما النخب الثقافية فهي تحمل -في عمومها- انفتاحاً وتسامحاًً كبيراً حيث تتأسس على مرونة ذهنية عالية ومعان إنسانية راقية وفهم متعمق للتحديات الكبار التي تواجه العالم العربي والإسلامي. ومن أجل الاختصار أجعل أفكاري المبدئية في نقاط ثلاث، هي:

أولاً: ثوابت التقارب:
قد حان الوقت للرجوع إلى الرصيد المعرفي والخبراتي المتراكم حول مسألة التقارب للاتفاق على ما يمكن أن نعده ثوابت التقارب، والتي من أهمها في نظري ما يلي:
1. أن التقارب يقوم على مبدأ التسامح، فالتسامح هو لب التقارب، مبتدأه ومنتهاه!
2. لا يستهدف التقارب بالضرورة إحداث التجانس أو التوافق أو حتى التقارب المذهبي، بقدر ما يستهدف إبعاد أو تحييد العوامل التي قد تسبب الفرقة أو الخصام أو النزاع.
3. يتأسس التقارب على ثوابت دينية ووطنية، فالثوابت الدينية تتعلق بأصول الإسلام العامة، أما الثوابت الوطنية فترتبط بتوثيق الولاء الوطني وترسيخ مبدأ أن الوطن لجميع مواطنيه وفق سيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية.
4. يقتضي التقارب الحقيقي الاتصاف بالصدق الكامل والشفافية العالية والقدرة على نقد الذات قبل نقد الآخر.

ثانياً: مجالات التقارب:
لا يسوغ الاقتصار على البعد العقدي أو الشق الديني في عملية التقارب بل لابد من إدخال الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأحسب أن تلك الأبعاد تحمل في طياتها مسارب جديدة قد تفلح في نقل جهود التقارب إلى آفاق أرحب، بل قد تعين على تلمس مخارج حين ينغلق البعد العقدي أو الديني. وقد يكون ملائماً أن نرحب مثلاً بالزواج بين الفئتين المبني على التراضي والتفاهم، فضلاً عن المشاريع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تبعد الأجواء عن نسمات التحشيد والتعصب، وتجسد مواقف عملية للتسامح والتآلف في دائرة الإسلام الرحبة وتحت القبة الوطنية.

ثالثاً: مستويات التقارب:
من الخطأ الاعتقاد بأن التقارب يعكس مستوى واحداً، بل هو مستويات متعددة، والظروف والملابسات والثقافة السائدة هي التي تحكم بتغليب هذا المستوى عن الآخر في هذا الموقف أو ذاك، ولنا أن نتصور المستويات الثلاثة التالية:

1. مستوى التعايش السلمي. وهو أقل المستويات وأدناها وهذا المستوى يجب أن يصار إليه كحد أدنى في حالات الحروب والفتن والقلاقل، كالحالة العراقية، حيث لا يجوز بحال من الأحوال أن ينال كل طرف من الآخر بغض النظر عن الأسباب، بل يجب الاتفاق على تجريم كل فعل يضر بالفئة الأخرى بقتل أو تعذيب أو تهجير أو مصادرة لحقوق وممتلكات. وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا بإبعاد المتشددين والغوغائيين من كل طرف. كما يجب العمل على توفير مقومات تحقيقه كإجراء وقائي يمنع من حدوث العنف أو التراشق، بمختلف صوره.

2. مستوى التعايش الفكري. وهو مستوى متوسط، حيث تسود فيه أجواء التفاهم والحوار البناء والمشاريع المشتركة في إطار وطني يحفظ للجميع حقوقه المدنية وفق ثوابته واشتراطاته، ويمكن أن ُيصار إلى هذا المستوى في حالات كثيرة، ويمثل ذلك الحد الأدنى في الأوضاع المستقرة، وهو أمر يحتاج إلى جهود كبيرة تبدأ بإبعاد المتشددين في كل طرف وتستمر في إبعادهم وتنتهي بتنحيتهم تماماً عن تشكيل طرائق التفكير وتصنيع الاتجاهات داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية!

3. مستوى الاندماج. ويمكن تحقيق هذا المستوى المتقدم في أوضاع تتقارب فيه الأفكار ويشتد فيه التفاهم ، وهذا المستوى يمكن أن يكون حلماً ُيراد تحقيقه في الظروف الملائمة، ولكن لا يسوغ القفز إلى هذا المستوى دون تحقيق قدر من التعايش الفكري، كما لا يسوغ أيضاً أن نتصور أن عدم تحقيق هذا المستوى في بعض البيئات يمثل فشلاً لجهود التقارب، حيث يحتاج الاندماج إلى مقومات خاصة وظروف مواتية قد لا تكون ضمن الحدود التي يسيطر عليها القائمون بجهود التقريب، ولو نظرنا إلى بعض البيئات العربية لوجدنا حالات وصلت أو قاربت مستوى الاندماج، فالحالة العراقية -قبل تلغيمها من قبل المحتل الغاشم ومن يدور في فلكه- كانت مثالاً فريداً حيث تحصل المصاهرة والمتاجرة والصداقات المتجذرة، وفي اليمن أوضاع مشابهة لهذه.

بقي أن أؤكد على أن التقارب بين الشيعة وإخوتهم السنة أمر لا مفر منه، وتبقى المسؤولية كبيرة على المثقفين بترسيخ روح التسامح والصدق، وسأظل أحمل تفاؤلاً وأنا أرى أمثال محمد حسين فضل الله، راجياً أن تكون شعبية هذا العالم ومرجعيته لدى عموم الشيعة في مستواها المأمول، لاسيما أن المرجعية لدى الشيعة تلعب دوراً محورياً في التفكير والاتجاهات والممارسة، وهذه خطورة يجب تقديرها في سياق التقارب، وننتظر مكاشفات أخرى مع معتدلين آخرين في الإطار السني والشيعي، لتسهم في اكتمال أجزاء الصورة.

كما نشر في جريدة عكاظ
(الخميس 19/03/1429هـ) 27/ مارس/2008 العدد: 2475

واقرأ أيضًا:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة
أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة
حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله
متى نشخِّص الثقافة؟  

القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!   
وعينا متوعك!! 
المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!

ما وراء (التشخيص الثقافي)!
الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!
أسئلة حول (الثقافة القلقة)!  
سمات عَشْر للثقافة القلقة!



الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/04/2008