إغلاق
 

Bookmark and Share

"شوية" مصريين ماتوا في حادثة و"شويه" أصيبوا ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 03/11/2009


أصبح من المعتاد في حوادث السكة الحديد (المتكررة جدا في مصر) أن تتضارب الأقوال حول عدد القتلى والجرحى, ولهذا ربما يكون من المتوقع قريبا أن يتم استبعاد مسألة العدد نظرا لصعوبتها (أو التعتيم عليها), والإكتفاء بقول: "شوية مصريين ماتوا في الحادثة وشوية مصريين أصيبوا", ومصدر هذه الفكرة هو ما قالته الأستاذة أمينه خيري مقدمة برنامج "اقرأ الحادثة" تعليقا على حادث قطار العياط, وربما تكون قد استلهمته من شعر جمال بخيت القائل فيه: "مش باقي مني غير شوية لحم في أكتافي.. بلاش يتحرقوا في قطر الصعيد في العيد".

وإذا أردنا بعض الدقة فربما نستعيض عن العدد بالوزن كأن نقول: "خمسه طن من المصريين ماتوا في حادث قطار".. "ثلاثون طن ماتوا تحت الصخور في الدويقه".. "عشرون طن من المصريين غرقوا في العبارة سالم اكسبريس".. "ثمانية عشر طن من المصريين غرقوا مع العبارة السلام بينما نجا طن ونصف", فالوزن هنا أسهل من العد خاصة وأن أشلاء الضحايا الممزقة أو المحترقة بين عربات القطار أو المبعثرة في البحر يصعب تحويلها إلى أفراد يمكن عدهم, ولكن من السهل وضع هذه الأشلاء في كيس كبير ووضع الكيس على الميزان (الطبلية) وتحديد الوزن بواسطة قبّاني (وزّان) محترف, فالشعوب التي لا تعد توزن, وما داموا قد ماتوا فلا جدوى من التفرقة فكلهم مصريون وكلهم إلى التراب يصيرون. فحادث احتراق قطار الصعيد تراوحت أعداد قتلاه (أو بالأدق محترقيه أو بالأدق متفحميه) بين الثلاثمائة والأربعمائة, وحادث القطار الأخير في العياط تراوحت أعداد قتلاه (أو ممزقيه) بين الخمسة وثلاثين والخمسين, وبينهما حوادث كفر الدوار وقليوب ومرسى مطروح, وغيرها وغيرها وغيرها. ولا يتوقف الأمر على حوادث القطارات فقد كانت نفس المشكلة قائمة في حوادث غرق العبارات في البحر الأحمر, وحتى الآن لم يعلن على وجه التحديد عدد الغرقى بشكل نطمئن إلى دقته.

فالمصريون (في نظر أولي الأمر) يتكاثرون كالأرانب خاصة في الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية الفقيرة, ولا يستجيبون لنداء المؤسسات الرسمية الداعية إلى تنظيم النسل (أو قطعه), ولهذا لا يستبعد أن تكون ثمة شماتة فيهم (ولو بغير وعي) من بعض المسئولين (الذين بحت أصواتهم للتحذير من تكاثر المصريين العشوائي) وأن يكون ثمة عدوان خفي تجاههم مع بعض الاشمئزاز من منظرهم ورائحتهم, كل ذلك يتجلى في صورة إهمال لعوامل سلامتهم وأمانهم أو تباطؤ في إنقاذهم إن هم غرقوا في البحر أو ركبوا القطار فانقلب بهم أو اصطدم أو مرضوا أو تناولوا طعاما ملوثا أو مسرطنا, وكأن لسان الحال يقول: "أنتم لم تفهموا ولن تفهموا فذوقوا بما قدمت أيديكم..". ويبدوا أن ثمة شعور لدى البعض من أولي الأمر والنهي بأن المصريين كائنات زائدة عن الحاجة, وأنهم ضيوف غير مرغوب فيهم على أرض مصر المحروسة.

وفكرة الوزن يمكن تعميمها في مجالات أخرى مثل الانتخابات والتعليم والصحة. ففي الانتخابات كثيرا ما تحدث مشكلة في عد الأصوات وفرزها, وكثيرا ما تتسلل أصوات الموتى إلى الصناديق, وكثيرا ما تقف حواجز أمنية تمنع الناخبين من التصويت, كل هذا يمكن تلافيه بدخول الناخبين على ميزان كبير (طبلية) مجموعات مجموعات ثم تعلن النتيجة وفقا للوزن فيقال أن المرشح الفلاني حصل على كذا طن من الناخبين وأن غيره لم يحصل (ولن يحصل) على جرام واحد وذلك لأسباب يطول شرحها. وفي التعليم نقول بأن المدارس استقبلت هذا العام كذا طن من الطلاب, وأن الجامعات خرّجت كذا طن من حملة الشهادات العليا "جدا", وأن الوزن الذي استلمته المدارس هو نفسه الوزن الذي سلّمته الجامعات لم يتغير فيه شيء, وأن سوق العمل لا يحتاج إلا لعدة مئات من الكيلوجرامات من الخريجين. وفي الصحة نقول بأن المستشفيات استقبلت كذا طن من المرضى أعادت منهم كذا طن إلى ذويهم بينما خرج كذا طن في صورة موتى.

وهذه الطريقة في الوزن تجعلنا نتفادى مشكلة العدد والحسابات والتي يعاني منها كثير من الخريجين خاصة أصحاب التعليم المتوسط حيث ثبت أن أكثرهم لا يجيد القراءة ولا الكتابة على الرغم من أنهم يشغلون غالبية المواقع الوظيفية في الدولة, وهذا يجعل مسألة الدقة الحسابية واللغوية أمرا غير واقعي, ولهذا يستلزم الأمر أن نلجأ لطرق أكثر بساطة وربما بدائية لنكون أقرب للواقعية.

ونعود مرة أخرى لحوادث القطارات والتي أصبحت حدثا سنويا وربما نصف سنوي وأحيان حدثا شهريا, خاصة وأن طول خطوط السكة الحديد في مصر يبلغ خمسة آلاف كيلو متر تمتد بين المدن المثقلة والمتعبة والعشوائية وبين القرى والنجوع النائية عن الخدمة, وتمر عبر مزلقانات بدائية يقف عليها مناد يحاول أن يمنع الناس والبهائم من العبور لأن القطار قد اقترب, وأحيانا يستخدم جنزيرا أو حبلا ليمنع عبورهم (في القديم كان هناك حاجز خشبي يرتفع وينخفض بواسطة آلة حديدية متصلة بترس). والسكة الحديد تتكون من بنية تحتية هي القضبان والمزلقانات والورش, ثم مركبات (قطارات) ثم بشر يديرونها. وهذا الامتداد وهذا التكوين ثلاثي الأبعاد يجعل من السكة الحديد ترمومترا للمنظومة المصرية سواء في انضباطها أو تخبطها, أي أن السكة الحديد لا تستطيع أن تكذب أو تتجمل, وحين حاول البعض أن يجملها من خلال إعلانات تليفزيونية صرف عليها ملايين الجنيهات باءت هذه المحاولة بالفشل وتهاوت تحت حطام القطارات المصطدمة والمقلوبة, ولم يتبق من هذه الإعلانات غير الإهانات التي وجهت للمواطن المصري غير الأمين على القطارات وغير المدرك لعوامل الأمان والسلامة وغير المقدر لأهميتها وروعتها.

وإذا كان العامل البشري يشكل 70% من أسباب حوادث القطارات فما بالنا لم نضعه في الاعتبار واكتفينا في مسألة تحديث السكة الحديد بشراء جرارات حديثة جدا بتقنيات أمن وسلامة حديثة جدا جدا ثم أهملنا تعليم وتدريب السائقين ومراقبي الحركة وفنيي الورش, فوجدنا السائقين لا يعرفون كيف يتعاملون مع جهاز التحكم الإلكتروني ووجدنا الملفات الكهربية اللازمة لتشغيله تسرق وتختفي, ووجدنا السيمافورات تضئ وتنطفئ بلا فائدة, ووجدنا القطارات تحترق أو تصطدم لغياب الاتصال والتواصل بينها (رغم أن التليفون المحمول أصبح في أيدي الأطفال يلعبون به في شوارع مصرنا الحبيبة).

والعامل البشري ليس تدريبا تقنيا فقط وإنما رعاية كاملة تبدأ من تعليمه في المدارس تعليما حقيقيا يخلو من أي غش أو تدليس, والعناية بضميره وقيمه, والعناية بمستوى معيشته ووسائل راحته, والعناية بممارسته لحقوقه والشعور بكرامته في بلده وأنه يشارك في كل شيء فيها وأنه رقم مهم واسم مهم, حينئذ سنجد منه وعيا وظيفيا ودقة في الأداء والتزاما وانضباطا. أما حين يتعلم في مدارس مهترئة تعليما يزيده جهلا ويملأ عقله خرافة ويعوده على أساليب الغش والخداع, ثم يتخرج ليقبض جنيهات قليلة تدفعه دفعا للرشوة أو تضطره لممارسة أعمال إضافية تكون هي المصدر الأساسي لدخله, هنا نجد كل أنواع اللامبالاة والتراخي وعدم الدقة وضعف الالتزام وغياب الانضباط والفساد, ويترجم كل هذا من وقت لآخر في صورة حوادث قطارات متكررة لا يوقفها استقالة وزير أو إقالته ولا يوقفها إنفاق ثمانية مليار جنيه على مرافق السكة الحديد, وتسفر التحقيقات عن ترك موظف المراقبة لمكانه وعدم تلقيه الإشارة من القطار المتعطل بل يقال بأن موظف مراقبة الحركة استقل القطار المنكوب ليذهب إلى بلدته قبل أن يأتي زميله ويتسلم الوردية منه, ويقال أن موظف المراقبة المركزية في القاهرة كان في دورة المياه هو الآخر ولم يتلق الإشارة أيضا.

ولا يمكن قراءة هذا المشهد قراءة مكتملة إلا لو عرفنا ما حدث في شركة مصر للطيران, فعلى الرغم مما حدث فيها من تحسينات وخاصة بعد افتتاح المطار الجديد المتميز وبعد انضمامها لتحالف ستار, إلا أن الحلو عندنا لا يكتمل إذ أن الإتحاد الأوروبي في إطار حفاظه على سلامة أراضيه ومواطنيه يقوم بالتفتيش على وسائل الأمن والسلامة في الطائرات التي تهبط في مطارات أوروبا أو حتى التي تطير في أجوائها, وقد وجدت لجان التفتيش ملحوظات في طائراتنا (يقول مسئولينا بأنها ملحوظات بسيطة) فأرسلوا خطابات سبعة وعشرين مرة لكي يتم إصلاح هذه الأشياء التي لاحظوها ولكن للأسف لم تعرهم شركة مصر للطيران اهتماما ولم ترد عليهم, مما استدعى تهديدا من الإتحاد الأوروبي باحتمالات عدم السماح لطائرات مصر للطيران بالهبوط في مطارات أوروبا أو التحليق في أجوائها, ولم نجد انزعاجا من المسئولين عن الشركة بل وجدنا مكابرة وتعاليا وزهوا وادعاءا بأن الإتحاد الأوروبي لو نفذ تهديده هذا فسيكون هو الخاسر, وأن طائراتنا بسلام, وكل بلد أدرى بطائراتها, وأنهم يبالغون في تضخيم السلبيات حيث يعلقون على قطعة موكيت في أرضية الطائرة أو على شاشة تليفزيون معطلة أو مشوشة أو على لمبة صغيرة لا تعمل.

إذن هي نفس العقلية ونفس الفلسفة التي تسمح بتفويت أشياء تحسبها صغيرة فإذا بمسألة التفويت والتساهل تتحول إلى حالة تسيب ينتج عنها كوارث. وهذا نفس ما حدث في حوادث البواخر الغارقة حيث ثبت تساهلا وصل إلى حد التسيب في إعطاء تراخيص الإبحار, وحدث إغماض أعين (أو كسرها) عن وسائل الأمن والسلامة بناءا على أن الأعمار بيد الله وأن كل إنسان يلقى نصيبه وأنه لا يغني حذر من قدر.

وهذا هو الرابط بين كل مشاكلنا وحوادثنا: تعليم متدن أنتج مواطنين لديهم مشاكل هائلة في الوعي والمعرفة والالتزام والدقة والانضباط, مع حالة من التساهل والتسيب واللامبالاة وتغطية كل ذلك بمفاهيم قدرية توضع في غير موضعها وتفهم على غير مقاصدها ومعانيها, كل هذا يتم ضمن منظومة حياتية مضطربة وظروف معيشية غاية في الصعوبة تسمح بتعدد الأخطاء وتكاثرها وتراكمها حتى تصل إلى أزمات وأحيانا إلى حوادث أو كوارث.

ورغم كل هذا نسمع من رئيس هيئة السكة الحديد أن سكك حديد مصر هي الأولى في العالم من حيث قلة عدد الحوادث, ونسمع مثل هذه التصريحات من مسئولين في الطيران ومسئولين في النقل البحري ومسئولين بلا حدود, وهذا يجعلنا نعيش حلما زائفا بأننا دائما الأفضل في العالم.

واقرأ أيضًا:
البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد
/ شخصيةالطاغية / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التعذيب / الحوار وقاية من العنف / سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر / الشخبطة السياسية / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / قراءة في شخصية زويل(2) / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / السنة والشيعة.. فتنة السياسة أم فتنة العقيدة؟ / قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد / الفلوس والنفوس / جمال حمدان: المحنة... العزلة... العبقرية / إعادة القراءة على كعب الحذاء / الاحتباس النفسي / صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا 2 / إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري 2 / دمعة المحرومين من الحج.



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 03/11/2009