الاكتئاب الحاد، ومعاناة الطفولة
السلام عليكم؛ ترددت لفترة طويلة في إرسال هذة الاستشارة؛ لأسباب يمكن استنتاجها من خلال ما سيأتي، وأرجو أن يتسع صدركم لقصتي هذه مع طولها، فأنا أقصها كاملة لأول مرة في حياتي.
تبدأ قصة معاناتي منذ الطفولة المبكرة، أنا من أسرة متوسطة، تقطن أحد المنازل الكبيرة في إحدى مدن محافظة المنوفية في مصر، لدي أخ أكبر وأخ أصغر وأخت صغرى، لم ألحظ في البداية أن شخصيتي شديدة الحساسية، -ولا أظن ذلك عيبًا بقدر ما هو صفة يمكن ان تفيد أو تضر صاحبها على حسب ظروف البيئة المحيطة- لكنني كنت أدرك تمامًا أني مختلف عن كل من هم في سني، وهذه هي أهم صفة شخصية وراثية قد يكون لها علاقة بما أعانيه بالإضافة إلى بعض القلق الذي كان دومًا تحت السيطرة حتى فترة قريبة.
أما أهم أسباب مشكلتي فهي الطبيعة شديدة العدائية للأسرة التي نشأت فيها، وسأحاول تلخيصها فيما يلي، والدي كانت ومازالت لديه الكثير من الأعراض والمعتقدات والسلوكيات الشاذة، تتمحور جمبعها حول النرجسية الشديدة وجنون العظمة، بالإضافة إلى اضطرابات الهلع والفزع، كان ومازال شديد الكراهية للآخرين، دائم الاتهام للجميع بأنهم يتآمرون عليه ويضطهدونه بما فيهم نحن أيضًا (زوجته وأطفاله)؛ لذلك كان عدائيًا جدًا تجاهنا نحن من نخضع لسيطرته.
أما الآخرون من خارج الأسرة فكان ينتهج النفاق كرد فعل على شعوره بالـتآمر ضده، وأهم من كان يتهمهم بذلك زملاؤه في العمل وجميع أقربائنا وجيراننا؛ لذلك فرض علينا عزلة اجتماعية شديدة زادت من حدتها وساوس الفزع التي كانت بعضها بدون محفزات، لكن معظمها كانت تظهر مع أحداث معينة فكان يصف حوادث ومشاهد سينمائية مفزعة ستحدث لنا أو أنها تحدث بالفعل عندما كان أحدنا يتأخر في المدرسة بضعة دقائق، بالإضافة إلى ذلك كان شديد الديكتاتورية، يتدخل في تفاصيل حياتنا ويفرض رأيه علينا في كل شيء حتى اختيار الملابس الشخصية، كما أنه كانت لديه مجموعة من المعتقدات الغير منطقية يفرضها علينا، بالإضافة إلى هذا ومن أصعب الأعراض أنه كان يتكهن بنوايا الآخرين ودوافعهم، لدرجة أنه كان يقرر رغبتنا تقريرًا، ويبني على تلك التكهنات.
أما والدتي فكانت شديدة السلبية تجاه كل ذلك؛ بسبب ثقافة تقديس الزوج لديها بالإضافة إلى خوفها من الطلاق الذي كان يهددها به أبي دائما، وكذلك فارق السن الكبير بينهما فقد تزوجا، وكانت قد أنهت لتوها الثانوية العامة، بينما كان هو في أوائل الثلاثينات ثم بتفاعلها معه صارت هي الأخرى شديدة العصبية، والتوتر سريعة الغضب.
ملحوظة هامة: والدي ووالدتي أقرباء، ويوجد في تاريخ العائلة نوبات اكتئاب حادة، واضطرابات نفسية.
بسبب العزلة الشديدة المفروضة علينا، كانت المدرسة أول علاقة لي بالحياة الاجتماعية خارج نطاق الأسرة، وكانت دهشتي عظيمة من نمط الحياة الإيجابية المرحة جدًا (بالنسبة لي وقتها) التي يحياها الآخرون، فلم يكن بالمنزل سوى ضغوط عصبية مستمرة طوال الوقت، حاولت بإصرار الاندماج في الحياة الاجتماعية خارج المنزل، وكنت أنجح أحيانًا، وأفشل أخرى، لكني كنت بصفة عامة على قدر كبير من الانطوائية.
في أواخر المرحلة الابتدائية، بدأت تظهر هواياتي المشروعة، وأهمها القراءة والرغبة في ممارسة بعض أنواع الرياضة، وطبعًا كانت معارضة أبي كبيرة لهذا؛ بسبب عقيدته المتطرفة التي كان يعبر عنها دائمًا في قوله لي عندما كنت أجادله: أنت تلميذ وظيفتك هي المذاكرة، وليس لك أن تفعل أي شيء في حياتك سوى هذا, وبسبب هذه العقيدة كان المنزل يتحول إلى ما يشبه حالة الطوارئ العسكرية مع بداية أيام الدراسة. مصادرة شاملة لكل ما يمكن أن يلهي عن المذاكرة والدراسة في نظره, من التلفاز وأجهزة الراديو حتى الكتب والمجلات والجرائد.
أما أيام الإجازة الصيفية فكانت أسوأ الأيام. أسابيع متصلة لا أرى فيها الشمس حرفيًا حتى بدأ عرض جديد من الأعراض التي مازلت أعانيها حتى اليوم وهو السرحان في دنيا الأوهام أو خيالات إرادية (أو أظنها كذلك) كان محورها علاقات اجتماعية طبيعية مع أشخاص آخرين أحدثهم بشكل طبيعي، ويحدثونني، لكن كان هذا برغبتي وإرادتي التامة، كهروب من العزلة الإجبارية وإمضاء الوقت. ومع كل هذا كنت دائمًا الأول على المدرسة حتى الصف الثالث الإعدادي، ومع بداية مرحلة المراهقة والمواجهة والتمرد، وطبعًا كان رد الفعل حادًا وعنيفًا بلا أي مجال للحوار أو النقاش أو حتى التفاوض بالأسلوب العسكري الذي كان يحكم العلاقات الأسرية، فمجرد حيازتي لكتاب علمي عادٍ أو رواية كان تحديًا لإرادته الشخصية أو جريمة تستوجب العقاب مثل الحرمان من المصروف، بالإضافة إلى رد الفعل العادي في زيادة جرعة الإهانات اليومية المستمرة والسخرية والتسفيه.
في هذا الوقت انقطعت علاقتنا (أنا وإخوتي) تمامًا ببعضنا البعض ومازال هذا مستمرًا حتى الآن، فمنذ ذلك الحين لا يخاطب أحدنا الآخر حتى بالسلام، حالة خصام تامة برغم أننا نعيش في ذات المنزل حتى اليوم والتي أسعدت أبي كثيرًا حينها، بل كان يدفع إليها عن طريق التحريض المباشر، فكان دائمًا يقول لي لا تسير وراء أخيك، ولا تخطلت به؛ لأنه فاشل، وسيقودك إلى الهلاك، كما كان يقول نفس الشيء لإخوتي، ولا أدري لهذا سببًا, ربما هي نظرية فرق تسد حتى يسهل عليه السيطرة علينا أو تخوفه من أن نتآمر ضده. حالة الخصام التي بيننا كانت دائمًا تثير حزني وكآبتي لكني تخليت بالتدريج عن هذا كسبب للكآبة فلا مجال لإصلاح أي شيء الآن، وبعد مرور نحو عشرين عاما.
وهكذا ومع ازدياد حدة الحرب النفسية في المنزل وزيادة الشعور بالاكتئاب والانطوائية، اعتدت على عدم الحضور في المدرسة والدروس الخصوصية نهائيًا، وصرت أقضي تلك الأوقات متجولا في شوارع المدينة بين المقاهي ومحلات ألعاب الفيديو؛ محاولا فتح حوار عشوائي مع أي أحد؛ رغبة في تدريب نفسي على أساليب الحوار الطبيعية بين البشر، مستعينًا بمصاريف الدروس الخصوصية التي كانت أول أموال حقيقية أحصل عليها في حياتي (بضع عشرات من الجنيهات شهريًا) فقد كان أبي ومازال طوال حياتنا شديد البخل، يصرح دائما ومن عقائده العجيبة أن أي نقود سائلة سيعطيها لنا ستفسدنا بالضرورة.
أما الدراسة فلم أكن أكترث لها بل كنت أكرها بشدة كرد فعل طبيعي، وكل تفكيري كان منصبًا على مقاومة الشعور بالوحدة والعزلة والانطوائية والاكتئاب بشكل لا مجال فيه للتفكير في المستقبل، أثناء الثانوية العامة حدثت لي صدمة نفسية في المدرسة، لا أريد تذكر تفاصيلها لكنها باختصار عبارة عن محاولة فاشلة للاندماج في الحياة الاجتماعية الطبيعية.
بعد نجاحي بمجموع ضعيف في الثانوية العامة (73%) - وهو أمر ما زال يثير حيرتي، فقد كان أول لقاء لي بمعظم المواضيع الدراسية أثناء امتحانات نهاية العام - بدأت أشعر بنوع من المسؤولية والتفكير في المستقبل، خاصة مع فرصة الحياة في مكان آخر، والخروج وحدي من المدينة الصغيرة، ربما لأول مرة في حياتي.
بدأت مرحلة تنسيق الالتحاق بالجامعات، وكان أخي الأكبر قد سبقني بتجربة فاشلة في الجامعة فقد أجبره أبي على الالتحاق بإحدى الكليات، فلم يحضر الدراسة والامتحانات لمدة عامين، حتى تم فصله ثم التحق بأحد المعاهد الخاصة الذي كان يريده منذ البداية، هنا خيرني أبي بين كلية التجارة أو الحقوق وبين أحد المعاهد الخاصة للهندسة كنوع من المساواة بأخي الأكبر، ولأني كنت حاصلا على الدرجات النهائية تقريبًا في الرياضيات والهندسة، رغم مجموعي الضعيف وهو من الأشياء القليلة التي أحسبها له.
مع الدراسة الجامعية والحياة في مدينة أخرى كانت فرصة عظيمة في استدعاء هواياتي القديمة في القراءة ومحاولة ممارسة أنواع الرياضة التي كنت أهواها، وكذلك محاولة الانخراط في الحياة الاجتماعية الطبيعية لكن كان رصيد الخبرات السلبية شديد القوة، بالإضافة إلى الوسيلة الوحيدة المتبقية لدى أبي في السيطرة، وهي السيطرة المالية حتى أنه في بعض الأوقات لم يكن يعطيني أي مصروف نهائيًا، أو أقل القليل مكتفيًا بزيارة كل أسبوع؛ ليبتاع لي ما أحتاجه مما هو مشروع طبعًا (من وجهة نظره) ومكررًا جملته الخالدة: لن أعطيك أية أموال في يدك، وإنما قل لي ماذا تحتاج، وأنا أقرر إن كنت تحصل عليه أم لا، وهذا السلوك من أهم الأسباب التي كانت تشعرني دائمًا منذ الطفولة بأني أقل من زملائي، بالطبع لم تكن هناك أي فرصة للسفر أو الرحلات؛ بسبب عدم توافر الأموال اللازمة لذلك.
أثناء الدراسة في الجامعة ظهرت لدي اثنين من الأعراض الجديدة (أعتقد أن لهما نفس التصنيف وإن كنت لا أدري ما اسمه، ربما نوع من الوسواس القهري), أو أنها كانت موجودة سلفًا، واشتدت ربما بسبب انحسار الأعراض الأكثر قوة، أو هي وراثية تظهر في سن معينة، العرض الأول تذكر ذكريات سلبية مؤلمة بشكل مكثف، ولا إرادي ولا أستطيع الوصف أكثر من ذلك، العرض الثاني هو عرض صعب الوصف وهو أقرب إلى صراع نفسي شديد الحدة فيما يتعلق بالدراسة والاستذكار، فبينما كنت أقرأ الكتب غير الدراسية بحب وشغف، تقف أمامي المقررات كأنها موسوعات اكتئابية، رغم رغبتي في التحصيل العلمي والنجاح الدراسي؛
كنت دوما آتي بالكتب والمراجع الدراسية، وأضعها أمامي أحملق فيها لا أستطبع أن ألمسها لمدة ساعات، كأنها أفاعٍ سامة. أذكر ليالي كانت فيها الكتب أمامي ليلة الامتحان، ثم أقرر كل ساعة أني سأبدأ في المذاكرة مع بداية الساعة التالية، ولا أفعل وأؤجل إلى الساعة التالية حتى الصباح، الغريب أن هذا الإحساس كان يزول تمامًا بمجرد ذهابي إلى الجامعة، ورؤيتي لأصدقائي يستذكرون أو يراجعون فأنخرط معهم نحو ساعة أو أكثر ثم أدخل الامتحان، ورغم هذا كنت أنجح مع اعتراضي الشديد على المحتوى الدراسي واسلوب التعليم وربما كان هذا أحد الأسباب.
في تلك الفترة كان إحساسي بالكآبة والحزن والرثاء للنفس مستمرًا، وإن قلت حدته, ثم حدثت مشكلة بيني وبين والدي؛ بسبب رفضه إعطائي بعض الأموال كان قد وعدني بها، ثم تراجع كالعادة، وتزامن ذلك مع مشكلة مع بعض الأصدقاء في الجامعة، وأعرف أن هذه ليست أسباب كافية، لكني ذكرت في البداية أن شخصيتي شديدة الحساسية، فكانت موجة اكتئاب حادة استمرت ثلاثة أشهر ونصف، عزلت نفسي خلالها في سكن الطلبة، ولم أكن أخرج سوى لشراء الطعام كل بضعة أيام، أعقب ذلك -وأحسبه من تطورات طول فترة الاكتئاب- شعور عام باللامبالاة الشديدة بالحياة وكل ما فيها، وهي حالة أفضل أن أصفها بأنها انهيار تام للدوافع. الذكريات الخبرات السلبية تطاردني حتى أفقد الأمل في أن أحيا حياة طبيعية في المستقبل، وهذه الموجات مازالت تأتيني حتى اليوم؛ لأدمر كل شيء في حياتي، وأعتزل الناس، وبعد زوالها أحاول أن أبدأ من جديد.
بعد التخرج من الجامعة، عدت من جديد لأسكن في المنزل في انتظار موعد فرز التجنيد الإجباري. فورًا قمت بإنهاء دراسة مشروع صناعي بسيط مع أحد الأصدقاء، كنت أعد له في آخر شهور لي بالجامعة، وعندما طلبت من والدي مبلغًا من المال؛ لأبدأ حياتي رفض رفضًا قاطعًا، وقرر أني لابد أن أعمل موظفًا بالقطاع العام كما كان هو، حاولت استجداء والدتي لتعطيني بعض الأموال، فرفضت خوفا من والدي، فحاولت طلب قرض من إحدى الهيئات الحكومية التي تعطي القروض للشباب، فكان من شروطهم وجود ضمانات مثل عقارات أو ما شابه أو ضامنين، ولم يكن لدي هذا أو ذاك، وفشلت المحاولة وانهارت آمالي في أن أبدأ حياتي بمشروع صغير.
بالطبع مع الجو الأسري العدائي واستدعاء ذكريات الطفولة جاءتني الموجة الاكتئابية العنيفة الثانية، وهنا قررت أخيرا أن أزور طبيبًا نفسيًا بناءً على نصيحة غير مباشرة من أحد الأصدقاء، كان الطبيب هو د. مجدي عرفة، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة, استمع لي بدون تعليق، ثم وصف لي دوجماتيل 50 ملليجرام (Sulipride) لعدة أسابيع في البداية فقط مع تريبتيزول (Amitriptyline) وفيلوزاك (Fluoxetine) بجرعات متدرجة حتى 25 ملليجرام يوميًا للتريبتيزول و40 ملليجرام يوميًا للفيلوزاك لفترة طويلة، ونصحني بالبحث عن أي عمل، وعدم الانتظار حتى يتم تحديد موقفي من التجنيد، وهو ما فعلته، فالتحقت بالعمل في إحدى الشركات بالقاهرة، وقمت بالسكن هناك على غير رغبة من والدي الذي كان يصر على أن أسافر يوميًا من المنوفية.
كنت أخفي طبعًا موضوع ذهابي إلى الطبيب، كما كنت أخفي الدواء عن أبي وأمي؛ خوفا من أن يستخدموا هذا ضدي إذا علموا، وهو ما حدث فعلا بعد ذلك، عمومًا كانت تلك الفترة سعيدة جدًا في حياتي لدرجة أني انقطعت عن زيارة الطبيب (وكان هذا خطأً بالطبع) مع المداومة على الأدوية بالجرعات المحددة، وساعدتني تلك العقاقير حقًا في الاندماج في الحياة الاجتماعية في العمل، وكنت أحب العمل كثيرا لدرجة أني كنت أذهب قبل الموعد الرسمي بساعة أو نصف ساعة، وأستمر في العمل دائمًا بعد الموعد الرسمي للانصراف بساعات.
تأخر تجنيدي نحو ثمانية أشهر؛ نتيجة لخطأ في إدارة التجنيد، ثم حان موعد دخولي للجيش لمدة عام كجندي، كنت أتطلع لتلك التجربة راجيًا أن تساعدني في علاج بعض جوانب الضعف في شخصيتي، مع أول إجازة من الجيش، قمت بالتقدم لخطبة إحدى زميلاتي في العمل الذي كنت أعمل به وكلي خوف من ردود أفعال والدي، فلم أكن أملك شيئا ولا أستطيع الزواج دون مساعدته، وقد كان ما أخشاه.
صارحته برغبتي في عدم الزواج في منزلنا الكبير، وطلبت منه فقط أن يساعدني في مصاريف الزواج ومقدم شقة سكنية، فرفض رفضًا قاطعًا رغم قدرته، وقال أعددت لك شقة بالمنزل ستتزوج فيها، وإن لم تنساق لأوامري، فلن أعطيك مليما، فشلت المحاولة، وعاودني من جديد القلق من المستقبل الذي هو يأس أكثر منه خوف؛ لأني لم أكن أمتلك من حطام الدنيا أي شيء سوى رصيد ضخم من الخبرات والذكريات السلبية، برغم أن طموحاتي كانت قليلة جدًا، فلم أكن أرغب سوى في العمل، وتكوين أسرة والحياة الهادئة المستقرة.
عاودتني في فترة التجنيد موجة اكتئاب حادة رغم استمراري على العلاج، ولم يكن أمامي سوى طبيب الوحدة العسكرية الذي لم ينصحنى سوى بالاستمرار على العلاج كما وصفه الطبيب النفسي. بعد فترة التجنيد كانت حياتي حتى نحو ثلاثة أشهر مضت سلسة من المحاولات للعمل، والانخراط في الحياة الاجتماعية، فبعض النجاح المؤقت ثم موجة اكتئاب، وفقدان تام للدوافع، ويأس وإحباط واعتزال الناس، ثم محاولة جديدة في مكان آخر من الصفر، أعمل بضعة أشهر، ثم أفقد جميع دوافعي، وأقوم بصرف ما ادخرته خلال موجة الاكتئاب، وفي تلك الفترة كنت أداوم على العلاج بعض الوقت، ثم أقلع عنه بسبب فقدان الدوافع وعدم الاكتراث للحياة بأسرها.
منذ نحو عام تقريبًا تركت آخر شركة كنت أعمل بها، واعتزلت الناس في غرفتي، ثم قررت أن آخذ فترة راحة من الحياة، وقررت أن أعيد صقل معارفي في المجال الذي اخترته للعمل منذ تخرجي وهو مجال برمجيات الكمبيوتر، فيما كان تخصصي بالجامعة هو هندسة الإلكترونيات، حددت بعض الموضوعات لأدرسها وحدي بشكل منظم، وكان ذلك حتى ثلاثة أشهر سابقة، عندما بدأت تظهر لدي أعراض جديدة فجائية.
استيقظت ذات صباح على ضعف تركيز وضعف ذاكرة شديدين إلى حد التوهان والأفكار العشوائية الخارجة عن السيطرة، واضطراب حاد فجائي في جميع الحواس خاصة الرؤية مع حرقان في الجلد وشعور مستمر بالتوتر والقلق والغضب العارم، علمًا بأن حالتي في الأيام السابقة كانت على ما يرام وهذه الأعراض تكون شديدة فور الاسيقاظ، ثم تقل حدتها تدريجيًا بعد ذلك حتى تخف كثيرًا في المساء، لم تكن لدي القدرة على الخروج من المنزل، مكثت في المنزل نحو أسبوعين، تحسنت حالتي خلالها نسبيًا ببطء حتى استطعت الحصول على بعض أموال من عمل حر سابق، وذهبت إلى طبيب نفسي وعصبي في مدينتي الصغيرة، فتفاعل معي من أول جلسة، وأخذ يتناقش معي في الماضي، ويشجعني -وهو ما اعتبرته خطأً مهنيًا صارخًا- كأني كنت أحكي ما بي حتى يواسيني، لا ليقدم لي العلاج فلم أذهب له ثانية.
معلومات إضافية:
- أنا أدخن بشراهة، ولاحظت أن تلك الأعراض الأخيرة تقل حدتها نسبيًا مع الإقلال من التدخين.
- بسبب فجائية الأعراض شككت في إصابتي بمرض السكري، فقد أصيب أخي به في نفس السن تقريبًا، ونصحني صديقي المقرب بعمل تحليل عشوائي، وتراكمي فكانت نتيجة العشوائي منضبطة (95 على ما أذكر) والتراكمي 4.7% من مدى طبيعي 4.2 الى 5.8 أي أنه منخفض قليلا.
- لاحظت أن الأعراض الأخيرة تخف حدتها كثيرًا بمجرد خروجي إلى الشارع قليلا.
- أعاني منذ الميلاد من فرط عرق اليدين والقدمين Focal hyperhidrosis وهي مشكلة كانت تسبب لي الكثير من الإحراج في الماضي.
- كانت لدي مشاكل في الجهاز الهضمي (انتفاخ وحموضة وعسر هضم) عرفت بها لأول مرة عند تحسنها بالدوجماتيل، فقد كانت لدي منذ الطفولة، ولم أكن ألاحظها.
وأخيرًا بعد سماع رأي سيادتك في مشكلتي لدي سؤالان وطلب.
- هل ما أعانيه مؤخرًا هو مرض خطير كنوع من الذهان أو مقدماته أم فقط تطور للاكتئاب والقلق؟
- هل يمكن أن تفيد حالتي أساليب علاج نفسية مثل التحليل النفسي والعلاج الجمعي Group therapy؟ فأنا أرغب في ذلك بشدة.
- أرغب في العلاج في أي مكان مغلق كمصحة نفسية، فأنا لا أضمن المدوامة على العلاج في المنزل أو الاستمرار في زيارة الطبيب؛ بسبب حالة فقدان الدوافع والانهيار التي تصيبني، فهل لي أن أطلب عنوان أحد تلك الأماكن على أن تكون أسعار علاجها قليلة نسبيًا؟ وإن لم يكن ذلك فعنوان طبيب نفسي جيد يكون له خبرة في مثل تلك الحالات.
شكرًا على قراءتكم لاستشارتي،
وجزيل الشكر لموقعكم والقائمين عليه؛ لما يقدمه من مساعدة لأشد البشر معاناة، وهم زملائي من المجانين.
17/06/2015
رد المستشار
شكرًا على استعمالك الموقع، وتمنياتي لك بالنجاح.
وأشكرك أيضًا على هذا الطرح النموذجي لقصة حياة الإنسان مع الاكتئاب، ودور الظروف البيئية القاهرة التي تصارعه بين الحين والآخر.
تحليل الاستشارة:
هذه الاستشارة توضح دور العامل الوراثي في إصابة الإنسان بالاكتئاب. العامل الوراثي يلعب دوره في حمل الإنسان على عتبة واطئة للإصابة بالاكتئاب الجسيم، ولكنه ليس كافيًا في حد ذاته في بعض الحالات لتفسير إصابة الإنسان بهذا الاضطراب. العوامل البيئية السلبية تلعب دورها، وفي بعض الأحيان تؤدي إلى انخفاض هذه العتبة حتى في غياب العامل الوراثي. متى ما أصيب الإنسان باضطراب الاكتئاب انخفضت عتبته، ومتى ما حدث ذلك يصبح عرضة للإصابة بنوبات اكتئاب جسيمة متكررة، وهذا ما حدث مع المستشير.
بدأت الحياة مع أبٍ متسلطٍ دكتاتور، وأمٍ مستعبدةٍ، دورها أقرب إلى دور جارية لا حول لها ولا قوة. هذا التعسف العائلي يترك بصماته على الأطفال لفترة طويلة، ويصبح أشبه بفيروس يستوطنهم، وفي الاستشارة إشارة إلى انتقال عدوى التعسف وعدم الثقة إلى الأبناء، وغياب علاقات ذات معنى بينهم.
تسنح الفرصة للطفل أحيانًا بتجاوز التعسف، والاستغلال العائلي مع دخوله المدرسة. حاول المستشير تطوير نفسه باستمرار، ولكن شبح الدكتاتور، وتسلطه كان أقوى من مراكز التعليم، وفي النهاية مر بفترة تمرد أثناء المراهقة، حالفه الحظ إلى حد ما بعدم الانحراف، ودخل الجامعة، وحينها ظهرت أعراض الاكتئاب الجسيم لأول مرة، وتبلور إلى نوبة كاملة استمرت ثلاثة أشهر.
لم يكن بقدرة المستشير وداع الدكتاتور الذي هو بدوره لم يتغير، ولم يهب مَنْ استعبده حريته، فشل الدكتاتور في تلبية احتياجات المستشير أثناء الطفولة، فكيف سيحدث ذلك مع البلوغ، ورغبته في تجنب العزلة، والبحث عن حقه المشروع في الدخول في علاقة حميمة عن طريق الزواج؟!
استجاب المستشير للعلاج، وكانت نصيحة الاستشاري في محلها حول البحث عن عمل. دخل مرحلة التجنيد، وبدأ مسار الاكتئاب الجسيم يأخذ طرازًا كثير الملاحظة في الكثير من الحالات، وهو نوبات جسيمة كثيرة التكرار وقصيرة، مع عدم التخلص نهائيًا منها بعد الدخول في مرحلة هدنة. هذا أيضًا يفسر وجود أعراض جسمانية متعددة وقلق.
التوصيات:
الإجابة على الأسئلة كالآتي:
1. ما تعاني منه اكتئاب جسيم متكرر، ذو طراز خاص بك، وكثير الملاحظة.
2. عهد التحليل النفسي انتهى، وأنت على مقدرة عالية من الوعي، وربما العلاج الجمعي Group Therapy أفضل من غيره. حاول أن تبحث عن هذه المجموعات في المنطقة التي تعيش فيها، والاستفسار من الاستشاري الذي يشرف على علاجك.
3. لا تحتاج إلى مصحة نفسية، ولا تفكر في ذلك. أنت بحاجة إلى متابعة منتظمة من قبل طبيب نفسي؛ للإشراف على علاجك بالعقاقير. لا تحتاج إلى خليط من العقاقير، وإنما إلى عقار واحد، يشرف عليه الطبيب الذي يرشدك إلى علاج جمعي أيضًا.
حاول الاستمرار على مراجعة طبيب واحد فقط، وعدم تغيير الاستشاري بين الحين والآخر.
رغم كل الطرح أعلاه، فإن كل شيء يبشر بخير؛ لأنك على درجة عالية من الوعي.
وفقك الله.
ويتبع >>>>>>>: الاكتئاب الحاد، ومعاناة الطفولة مشاركة