السلام عليكم ورحمة الله
الدكتور أحمد عبد الله؛ أنا شاب عمري 25 سنة من المعجبين والمتابعين لصفحتكم منذ بداياتها، وأحبكم في الله.
متزوج وأب لطفل، والحمد لله، وأنوي بعث مشروع لصناعة مواقع الإنترنت، لا أخفيكم أنني أحب أن يكون ذا توجه إصلاحي وديني رغم العوائق.
لقد عرفت جماعة الدعوة والتبليغ، كما عرفت زاعمي عبادة الشيطان وموسيقى الهارد روك، ولا أشعر بالانتماء لا للجمهورية التونسية (أي الدولة) ولا لحركة النهضة (أي الإخوان المسلمين)، ولعلي لم أدرك جيدا الصراع الذي كان بينهما، وأسعى من خلال هذه الاستشارة لفتح جسور للتواصل معكم تمكنني في مرحلة ثانية من التحدث عن مشاكلي واضطراباتي عن مشاعر الخوف والتمزق، وعن علاقتي بوالدي وبحماتي وعن المعاصي التي أظن أنني لم أحسن التوبة منها، والتجارب العجيبة التي عشتها، وأعراض الفصام والمواقف التي لا أميز فيها أحيانا بين الوهم والواقع أو حتى بين الخير والشر؛ فلا تتخل عني.
أحببت أن أتحدث اليوم عما اخترت أن أسميه قياسا بالضروري من علوم النفس، وأرجو ألا تكون الاستعارة مستفزة أو فيها قلة أدب.
ما معنى الشخصية؟ وكيف نقيم قوتها من ضعفها؟ يتحدثون أيضا عن العقد؛ فكيف نميز المعقد من السليم؛ أي إلى أي مدى ينبغي للمسلم غير المختص أن يطور شخصيته ويتعلم البرمجة اللغوية العصبية ويدرس من العلوم الإنسانية؟ ألا تكفي عقيدتنا وأخلاقنا الإسلامية من رحمة وتواضع وإيثار مع تزكية النفس واتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قدر المستطاع؟
ثم لماذا نرى هذه الدعوات المحمومة والمتسارعة إلى النجاح؟ لست من دعاة الفشل، ولكن أليس إتقان المرء حياته والقيام بأدواره بصورة يسعى فيها إلى المثالية والتوازن أهم من النجاح في الحياة التي لا يدفع إليها سوى الجشع وحب الدنيا والسعي إلى توافق مهووس أو منافسة يائسة مع حضارة الغرب.
فكرت في هذا عندما اقتنيت مؤخرا كتابا عن "الديانتيك" –بالفرنسية- وهو علم يدعي مؤسسه أنه ملخص لعلم التحليل النفسي، وأنه يساعد على اكتشاف الذات وإحياء الروح وتنشيط الذاكرة، المشكلة أن مؤسس هذا العلم هو نفسه مؤسس الطائفة أو الكنيسة الساينتولوجية، كما أن كثرة وجود هذا الكتاب وزهد ثمنه جعلني أفكر في مؤامرة من موزعي الكتاب لإفساد عقيدتنا، فأردت أن أعرف إذن:
- هل يمكنني أن أثق بكتاب كهذا، وأن أقوم بالاختبارات التي فيه على أساس أن الحكمة ضالة المؤمن؟ وهل تعتقد أن في ذلك خطرا على عقيدتي أو على صحتي النفسية والعقلية؟
- ما هو موقفكم الشخصي من التحليل النفسي في حد ذاته حيث سمعت من طبيب نفسي زرته منذ سنوات أن هذا العلم بدأت مبادئه تسقط في الماء؟
ملاحظات:
أقترح نشر مشاكل وحلول الشباب في كتاب لتعم الفائدة كما حدث في استشارات دعوية.
7/4/2005
رد المستشار
يقول د.أحمد عبد الله:
أهلا بك يا أخي الكريم صديقا ومتابعا؛ سأنتظر رسالتك التي تحكي فيها عن معاناتك الشخصية، ويسعدنا أن يكون لنا سفير مثلك في تونس الخضراء التي نحبها ونحب أهلها، دون أن يتعارض هذا مع لهفتنا أن تشهد تغيرا جذريا باتجاه الحرية والانفتاح الحقيقي على مشاركة كل المواطنين، كما تحتاج كل أقطارنا العربية للشيء نفسه، فيشعر كل منا ساعتها بالانتماء للأمة والدولة، وفارق يا أخي بين تونس الشعب، وتونس الدولة الجمهورية بتاريخها النضالي من زمن الاستقلال، وتونس السلطة التي قد تفسد أو تنصلح بفعل هذا النظام أو ذاك، وأرجو أن تنتبه لهذا؛ فالفارق دقيق، ولكنه هام للغاية؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الانتماء لوحدات كبرى: الأمة والعالم الإسلامي مثلا، كما يحتاج إلى الانتماء لوحدات وسيطة، مثل: العائلة وجماعة الجيران والأصدقاء.. وهكذا.. سأترك المجال لأخي وزميلي الدكتور وائل أبو هندي ليجيب على أسئلتك؛ فلديه خلفية بالتعامل مع ما تسأل عنه، وسننتظر رسائلك دائما.
ويضيف د.وائل أبو هندي:
الأخ العزيز أهلا بك، أما وقد شرفني أخي الدكتور أحمد عبد الله بالتعقيب على رده عليك لمعرفته بسابق اطلاعي ثم انبهاري ثم توجسي من ذلك المسمى علم الديانتيك (علم الصحة العقلية الحديث، وبالمناسبة فإن هذا المسمى العربي يصلح ترجمة لاسم علم آخر هو Modern Mental Health وهذا العلم الأخير علم له أصوله الحقيقية)؛ فقد اطلعت على الكتاب الأول لإل رون هابارد في نسخته الإنجليزية، وأنا في سنة التدريب العملي بعد إنهاء كلية الطب، وكنت أيامها -ككثيرين غيري- مفتونا بالغرب وما يجيء منه، ولم تكن لدي خلفية كبيرة عما لدينا من تراث غير ما درسناه في السعودية في منهج التربية الدينية، ولا كانت لدي خلفية عن الطب النفسي، وكان أحد أصدقائي قد أهداني الكتاب فقرأت جزءًا منه، وصورت منه نسخةً ما تزال لدي على أغلب الظن إلى اليوم، ويكاد يكون ذلك الكتاب هو أول كتاب (غير دراسي) بالأعجمية الإنجليزية أقرؤه كاملا في حياتي.
وحينها -وكنا في الثلث الأخير من الثمانينيات- رحت أقرأ في ذلك الكتاب؛ مما أمدني بأفكار فتنت بها لأنني استخدمتها في حياتي الواقعية، فأثرت في بعض الناس وأقنعتهم بوجهة نظري فيما أرمي إليه، وربما أكون أعجبت بفكرة تأثر الإنسان وهو في درجات متفاوتة من الوعي بكمّ ونوعية الألم، وكذلك خطورة التعرض للألم وتشكل الأثر المخلّف Engram في الدماغ من خبرة الألم أو الإهانة وأنت دون كامل وعيك، وما إلى ذلك مما ستفهمه لو كنت قد قرأت ذلك الكتاب، ووصل الحال بي بعد ذلك أن طلبت من أحد أقربائي المسافرين إلى أمريكا أن يشتري لي ما يستطيع من كتب ذلك المؤلف؛ لأن المؤمنين بذلك العلم الجديد والذين أنشئوا مكاتب وكلاء لصاحبه في بلدان كثيرة من العالم لم تكن من بينها دولة عربية -على ما أذكر- فلم يكن لهم وكلاء في مصر، ولا في غيرها لكن كان هناك في إسرائيل وكيل، ومعالجون بطريقة العلاج السحرية التي يدعيها مؤلف الكتاب، ويعدك طوال صفحاته بأنك تستطيع أن تكون معالجا Auditor أو كليرا Clear، فقط إذا أردت. وتكون قادرًا على تغليب العقل في كل حياتك، وتكون عارفا للمصدر الوحيد للألم والشقاء وعدم الثقة بالنفس، وعارفا كيف تتخلص من كل ذلك، وكيف تساعد الآخرين إن أرادوا اتباعك؟ ألا تحس بها وكأنها دعوة إلى دين جديد؟
ولا أخفيك أن كل هذا لم يكن يحدث داخل عقلي، وأنا في غير توجس يأتيني من حين لآخر من كون الكتاب يدعي أنه كتاب علمي، ويتجنب الخوض في الأمور الدينية، لكنه في نفس الوقت ينكر الأشباح (والجان)، ويرى أن كل ما نحتاج إليه موجود في عالم الوعي والحواس التي يستطيع الكلير الوصول إليها، وهو لا ينكر وجود الله صراحة، وإن حاول من بين السطور، كنت متوجسا طوال الوقت، وتكلمت أيامها مع أساتذتي وزملائي، ومن بينهم أخي الدكتور أحمد عبد الله، وإن لم نكن أيامها قد وجدنا الوقت أو الفرصة المناسبة للنقاش حول الكتاب.
وبعد ذلك دخلت في مجال الطب النفسي، وبدأت في دراسة علم النفس الغربي والطب النفسي الغربي، واكتشفت أن نظرية الديانيتك ليست نظرية علمية، وأن صاحبها رفعت عليه قضايا يتهم فيها بالنصب والاحتيال، ولم أعرف أكثر من ذلك عنه، لكنني كنت قد اقتنعت بأن كل ما فعله ذلك المؤلف هو أنه كان يأخذ من كل نظرية من نظريات علم النفس أبسط ما فيها فهما للقارئ المثقف العادي (غير المتخصص)، بحيث يصنع في النهاية طريقا سهلا جميلا معليا من قيمة الإنسان بدءًا من الخلية، وداعيا للسلام، ونابذا للعنف بين الناس، لكنه في النهاية طريق يقودك إلى لا شيء! وعرفت بعد ذلك أن أي قادر على طباعة كتاب يبيع ويدرّ ربحا يستطيع في أمريكا؛ ذلك لأنها بلد الحرية إلى حد التقاليع! (وكنا بالطبع قبل قارعة الحادي عشر من سبتمبر).
المهم أنني بعد أربعة عشر عاما من ذلك -وتحديدا في سنة 2001- اتصل بي الدكتور أحمد عبد الله ليسألني عن كتاب يفترش الأرض بشكل غير عادي عند باعة الجرائد في القاهرة، ويقول لي: أليس هذا هو الكتاب الذي كنا دائما ما نبدأ حديثنا عنه فلا نكمله؟ فقلت له: بلى؟ ولكن متى ترجم إلى العربية؟ ومتى نشر؟ إن صاحبه نصاب على حد علمي!
وبعد قليل دخل عليّ واحد من مرضاي كنت قد كلمته عن ذلك الكتاب الذي لا يقود إلى شيء، حاملا نسخة من النسخ العربية للكتاب، والتي أرجح أنها نفس الكتب التي تباع عندكم الآن. كانت المترجمة فلسطينية، وكان الكلام المكتوب عن الكتاب وعن صاحبه وعن إنجازات وتابعين وتابع تابعين... إلخ. وبعد سنة من ذلك عرفت من مجلة "روز اليوسف" التي تصدر في القاهرة أن الكتاب تمت مصادرته من الأسواق، وأن المسئولين عن ترجمته ونشره في مصر جواسيس لإسرائيل!! ولله الأمر من قبل ومن بعد! شكرا لأعين الحراس إذن شكرا، ولعلهم في تعاونهم مع الحراس في بلدكم يحكون لهم تلك القصة، نعم يا أخي للأمر علاقة بطائفة كنسية لا علم لي بتوجهها، ولكن دعاتها ليسوا أهلا للثقة، وهذه واحدة من الحالات القليلة التي نجد أنفسنا فيها شاكرين للرقابة على المطبوعات.
وأما بقية ما تسأل عنه مثل موقفنا من التحليل النفسي فرأينا باختصار هو أن لكل واحد من فرويد أو لاكان أو غيرهما من أصحاب نظريات التحليل النفسي.. نظرية تحاول التفرد عن غيرها، لكنهم يشتركون في افتراض غيب نفسي يؤمن صاحب كل نظرية بغيبه، وبما يحتويه كما افترضه هو أو صاحب النظرية التي يؤمن بها، وهم يحسبون ذلك علما لأنهم غير مسلمين، وأنا مثلهم أعرف أن غيبا كبيرا يعيش في كل نفس لكنني كمسلم لدي غيب أخبرني به الله ورسوله وهو الحق الذي أؤمن به والحق أحقّ أن يتبع! وأما أن مبادئ تلك النظرية (لأنها ليست علما مثبتا بطريقة موضوعية) فقد تجاوزتها أغلب العقول، وبدأت الصيحات الجديدة مثل العلاج السلوكي ثم المعرفي السلوكي تأخذ مكان الصدارة؛ نظرا لسرعة طرق العلاج المبنية عليها وفائدتها، وبرزت في السنوات الأخيرة صيحات مثل البرمجة اللغوية العصبية.
ولا مانع من أن نتأمل كمسلمين تلك المعطيات الفكرية الحديثة، ولكن من الأهم أيضا أن نحاول الوصول إلى ما بقي من معطيات تراثنا العربي الإسلامي في علم النفس، وإن كان ما بقي منها قليلا، ولكننا -والحمد لله- لدينا القدر الذي يحمينا من الغي والضلال إذا نحن أحسنا الفهم والتفاعل مع المعطيات كلها؛ وبالتالي فأنا لا أخاف على مسلم واع مثلك.
وأما مفهوم -أو بالأحرى مفاهيم- الشخصية والعقد النفسية فإن ذلك أمر شرحه يطول، وطرق الفهم فيه ومحاولات الشرح المبنية عليها مختلفة ومتباينة؛ فهناك الرؤية السلوكية وهناك الرؤية الشعورية، وهناك رؤية التحليل النفسي الذي يعلي من قيمة ودور اللاوعي... وهناك فلسفات أخرى كثيرة، وكلمة "الشخصية" نفسها كلمة جديدة لا تجدها في أمهات المعاجم اللغوية العربية، فهناك كلمة "شخص" و"شاخص" تعني سوادًا يظهر من بعيد قد يكون لإنسان أو لغيره، وتشاخص القوم أي اختلفوا وتباينوا. وأما الشخصية فأصبحت تعني الصفات أو السمات التي تميز الشخص عن غيره، رغم أن معناها السيكولوجي هو الإنسان الفرد كله.
وعلى أي حال فإنني أحيلك هنا إلى رابطين للإلمام بهذا الموضوع هما: اضطرابات الشخصية، ومن على استشارات مجانين اقرأ: من أنا؟!: نتائج تقييم الاستبصار الذاتي. وأما بخصوص طباعة بعض سبائك كنز الاستشارات في كتاب فقد حدث هذا بالفعل، ودار النشر هي: الدار العربية للنشر والتوزيع، وهكذا أكون قد غطيت أغلب النقاط التي سألت عنها، راجيا من الله أن يديم التواصل بين أمثالك وبين استشارات مجانين.
ويتبع >>>>>>>>: بطء وسواسي أم اكتئاب وسواسي أم ماذا؟ م