الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد. فالسلام عليكم؛
أخي السائل والمجيب، ثم أقول إن هذه المشكلة (وسواس الحب "بحذافيره"!) تعتبر من الصعوبة بمكان والواقع أنها تصنف عندنا هنا في فرنسا على أساس أنها مظهر من مظاهر الأمراض الشعورية الخطيرة التي تتعلق بشيء أقرب إلى الافتراض منه إلى الواقع والحقيقة.
ففي أغلب الأحيان تكون مثل هذه القصص مجرد نسج خيال آت من تهيئات وتصورات (العاشق) والعلاج الفوري لهذا الوضع الـ fantasmatique، هو الاتصال بالطبيب النفسي للشروع في علاج نفسي فوري كي لا يزداد الوضع خطورة، لأنه قد يصل الحال إلى ما يسمونه l'amour passionnel، وهو ما يؤدي في النهاية إلى جريمة غرامية ذهولية، لأنه في لحظة من لحظات الذهول العقلي ترتكب الجريمة وهي ما تسمى بالفرنسية: l' crime passionnel، إذن جواب الأستاذ التحليلي في منتهى الدقة وما يحتاجه الأخ السائل هو أن يستيقظ لأنه فعلا مصاب بلحظات ذهول تام وهذه اللحظات هي في الحقيقة مديدة بالقدر الذي عطل مصالح الأخ، وبخاصة أن الطرف المذهل إن صح التعبير لا يبادله نفس الشعور بل حتى شيئا من الشفقة. إلى اللقاء، وما سماقة معشوقتك إلا لأنك جاث على ركبتيك,
أفق من سباتك يا أخي,
والسلام.
28/5/2004
رد المستشار
الزميل العزيز؛
أهلا وسهلا بك على موقعنا مجانين وشكرا جزيلا على ثقتك، وعلى مشاركتك الطيبة وإطرائك النبيل، الحقيقة أنك تكلمني عن مدرسة في الطب النفسي أنا لا أعرف عنها أكثر من بعض القشور، وهي المدرسة الفرنسية والتي أتمنى أن يوفقني الله في الإلمام ببعض الطيبات من أفكارها وتوجهاتها.
وأما ما يعرفه الجميع من الأطباء النفسيين العرب -في غير بلاد المغرب العربي- فهو الكلام الأنجلو سكسوني، وأزيدك هنا من تراثنا العربي شيئا عن ما ذكرَه أبو زيد البلخي (850-934 ميلادية أي في القرن التاسع/العاشر الميلادي) في مصالحُ الأبدان والأنفس في الباب الثامن "في الاحتيال لدفع وساوس الصدر وأحاديث النفس" إذ يقول: أن هناكَ أحاديثَ النفس ووسواسها وهيَ أمرٌ طبيعيٌّ يحدثُ في كل إنسان، وأما الوسواس الذي يمنعُ الإنسانَ عن التفكير في ما سواه ويشغلهُ عنْ أكثر أعماله أو عن قضاءِ أوطاره فهوَ منَ الأعراض النفسية التي لابد من علاجها؛ وتلكَ الأحاديثُ والوساوس المرضية ربما وقعت في جنس ما يحبُّهُ المرءُ ويتمناهُ وربما وقعت في جنس ما يخافُهُ ويخشاهُ، أي أن أبا زيدٍ البلخي يقسم الوسواسَ المرضيَّ من حيث الموضوعات التي يتعلقُ بها إلى نوعين:
النوعُ الأول: هوَ الوسواس المتعلقُ بما يحبهُ الإنسانُ ويتمناهُ ويضربُ المثلَ هنا بكبار العشاق من الشعراء العرب أمثال مجنون ليلى وكثير عزةَ وجميلُ بثينةَ أي أنهُ يعني بهذا النوع من الوساوس التعلق وشدة الولع والحب الشديد لشخصٍ ما لدرجة المشي ورائه ومتابعته وملاحقته في كل مكان إلى درجةٍ تثيرُ المشاكلَ لأن هذا النوع من الحب غالبًا ما يكونُ من طرفٍ واحد؛ وهذا النوع من السلوك هو ما يطلقُ عليه بعضُ علماء النفس المحدثين وسواس الحبLove Obsession أو ما يسمونهُ أحيانًا بلفظٍ يعني الملاحقةَ والمطاردةَ Stalking .
وأما النوعُ الثاني: فيقولُ البلخي "هوَ مثلُ تحديثِ نفس الإنسانِ بأمرٍ مخوف لعله يحلُّ به عن قريب وأشد من ذلك هوَ تحديثها إياهُ بمكروهٍ قد ينزلُ به في بدنه وحياته، وهذا أصعبُ المخاوفِ وأشدها تمكنًا من القلب واستيلائها عليه." ومن المألوف في صنوف الأدب العربي والعالمي المختلفة أن تشبهَ حالةُ المحبِّ بالوسوسة أيضًا فإذا أخذنا مثالاً من كتاب طوق الحمامة في الألفةِ والأُلاَّفِ لابنِ حزم الأندلسيّ، وهوَ أولُ كتابٍ عرفتهُ البشريةُ يعطي الحبَّ معناهُ السامي، ففي مقدمة الكتاب وتحتَ عنوان الكلام في ماهية الحب وبعد أن قسمَ ابنُ حزمٍ أجناس المحبة المختلفةِ حتى وصل إلى العشق يقولُ ابنُ حزم: "ولا يعرضُ في شيءٍ من هذه الأجناس المذكورة، ومن شغل البال والخبَلِ والوسواسِ وتبدل الغرائز المركبة واستحالة السجايا المطبوعة والتحوُّل والزفير وسائر دلائل الشجا ما يعرضُ في العشق، فصحَّ بذلك أنهُ استحسانٌ روحانيٌّ وامتزاجٌ نفساني".
ويقولُ ابنُ الجوزية في "روضة المحبينَ ونزهة المشتاقين" في الباب العاشر المعنون "في ذكْرِ حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه: "هناكَ تفسيراتٌ متعددةٌ للعشقِ، فيذهبُ الأطباءُ قاطبةً إلى أنهُ مرَضٌ وسواسيٌّ شبيهٌ بالماليخوليا، يجلبُـهُ المرْءُ لنفسه من خلال تسليطِ فكرةٍ على استحسان بعض الصورِ والشمائل، وسببهُ النفسانيُّ الاستحسانُ والفكرُ، وفي نهاية هذا الباب يشيرُ ابنُ القيم إلى أن من مظاهرِ العشق الضعفُ في الرأي واللجلجةُ في الكلام والزللُ والعثارُ والرعدةُ في الأطراف.
وأما أبو الفرجِ ابنُ الجوزي فيقولُ في كتابه "ذمُّ الهوى" وأما عن ضرر العشق في الدنيا فإنهُ يورثُ الهمَّ والفكر، والوسواسَ والأرقَ وقلةَ المطعمِ وكثرَةَ السهرِ"، بل إن من الأشياء التي تبينُ كيفَ كانَ يربطُ العربُ الأوائلُ ما بينَ الحب وبين الوسواس وبين الشيطان أن أحد تفسيرات كون الوَس هو صوتُ الحلي أو صوت الذهب ، هوَ أن المرءَ إذا ما سمعَ وسَّ أو وسوسة الحلي فإنهُ يجدُ ذهنهُ هبًّا لوساوس الشيطان حول شكل المرأة التي يسمعُ وسَّ حُليها، بل إن هناكَ من أحب بمجرد السماع لخطوة المرأة ووس حليها كما يذكرُ ابن حزم.
وأما ما أراه جديرا أيضًا بالاهتمام والتعليق، وما أصبح إبداع طريقة للتعامل معه في مجتمعاتنا العربية اليوم فهو ما أسميناه وسواس التعلق المثلي أو الحب المثلي، سواء توقف الأمرُ عند حدود الانشغال والوله والملاحقة أو تعدى تلك الحدود إلى الممارسة الجنسية الشاذة التوجه أي اللواط أو السحاق، فكما ترى يا أخي تجمع لدينا على مجانين عددٌ من أصحاب المشكلات التي يوسوس أصحابها بتعلقهم بشخص من نفس الجنس دون أن يتعدى ذلك مرحلة العشق والوله والانشغال والمتابعة والمطاردة كتلك التي تكون من عاشق لمعشوقته أو من عاشقة لمعشوقها، واقرأ يا أخي ما يظهر على استشارات مجانين تحت العناوين التالية:
وسواس الحب والتعلق المثلي مشاركة
وحدة+عاطفة+غفلة = حب البنات للبنات
عشق البنات بين فكي الدموع م
الحب بين البنتين، ثم ماذا ؟
وأخيرا أشكرُ لك مشاركتك وإطرائك وأرحب بك دائما على مجانين وفي انتظار مشاركات وإسهامات متتالية.
ويتبع>>>>>>>>> : وطن ممحون: مختلف، مختلفة، ومختلفون