لا أستطيع أن أسامح نفسي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة وبعد.....
ولأن ماضينا ومهما حاولنا أن نهرب منه إلا أنه يأبى إلا أن يعلمنا بوجوده بين الفينة والأخرى، فنحن وإن شئنا أو أبينا علينا أن ندرك كيف نتعامل مع ماضينا وإن غفلنا عنه لأمد بعيد
أريد أن أعرض عليكم مشكلة عاشت معي منذ سنين عديدة حاولت أن أنساها وأن أهمل وجودها إلا أنني مهما حاولت فإنني لم أفلح،
بدأت مشكلتي بعد إنهائي الثانوية العامة عام 2007 ، والحمد لله كان معدلي عالي يؤهلني لدراسة أي تخصص داخل بلدي ، صراحة عندها لم أعرف ماذا أريد أن أدرس فكنت أحب جميع المواد الدراسية ،العلمية منها والأدبية ،إلا أنني كنت أميل أكثر للمواد العلمية،فمنذ صغري كنت أحب القراءة والمعرفة والعلم بلا تحديد ، وكنت مولعاً جداً بالحاسوب والتكنولوجيا فلا تكاد تخفى عليَّ صغيرة ولا كبيرة في هذا المجال,كنت أيضاً مولعاً بالأحياء وعلوم الفيزياء كنت أحب اللغة العربية واللغات بشكل عام ،صراحة كنت أحب جميع أنواع المعرفة والعلوم.
كان لي ابن عم يعمل مهندس معمارياً وكنت أراه دائماً وهو يعمل وكان يشدني مقدار حبه لتخصصه وكيف كان يستخدم الحاسوب وبرامج التصميم في عمله، وكنت بين الفينة والأخرى أجلس معه لأتعلم منه المزيد عن مجال عمله ، وربما كانت هذه المهنة الوحيدة التي جلبت انتباهي تلك الفترة، بالطبع كنت أحب عالم الإلكترونيات والتكنولوجيا كما أسلفت إلا أنني لم أرد أن أدرس تخصص متعلق بالحاسوب أو الإلكترونيات لأنني لم أرد أن أخلط هوايتي بعملي فأنتم وكما تعلمون حال الوطن العربي في مجال التكنولوجيا فلن أعمل في مجال عملي، لست أقول بأن فرص العمل غير متوافرة , إنما قصدت أن مجال العمل في الوطن العربي في مجال الإلكترونيات والتكنولوجيا يبقى مقنن ومحدود،
المهم خلال أسبوعين بعد حصولي على نتائج الثانوية كان مطلوب مني أن أختار تخصصاً جامعياً، عندها لم أكن أعلم شيء إلا الهندسة المعمارية ، فكان من البديهي أنني أريد ذلك التخصص ولا شيء غيره, كان أبي يقول لي وما رأيك في تخصص الطب ، قلت له لا أعلم عنه شيء سوى أنه تخصص صعب ويحتاج إلى ذاكرة قوية، وأنا كانت الذاكرة نقطة ضعفي فلم أكن ممن يملكون هذه الملكة فكنت سريع النسيان وأجد صعوبة في الحفظ، وهذا كان علمي الوحيد عن هذا التخصص، فكانت الصورة المرسومة في ذهني عن الطبيب بأنه إنسان يحفظ الأمراض والأعراض وأسماء الأدوية فقط لا غير فكان هذا بالنسبة لي ملل في ملل ، ولم أفكر يوماً بأن أدرجه في حساباتي، قال لي أبي بحكم عمله مع الأطباء أنه تخصص مميز ( أبي ليس طبيباً) إلى أنني تجاهلت نصيحته وكان علمي أن الهندسة وظيفتها مضمونة والراتب جيد أما الطب فسنواته طويلة جداً ، رفع أبي راية التحدي وأمن لي بعثة دراسية لدراسة الطب خارج بلدي إلا أنني ما زلت عند قناعتي لا للطب ،أتذكر أيضاً ذلك الموقف الذي جمعني بطالب مثلي وقتها عند مبنى وزارة التعليم في مكتب البعثات الخارجية الذي سألني إلى أي بعثة دراسية أنا أقدم ،وقتها قلت له بكل ثقة إلى بعثات الهندسة المعمارية وأتذكر ابتسامته لي وقتها عندما قال لي : وماذا عن الطب !!!! ، وقتها كنت أتساءل في قرارة نفسي لماذا كل الناس تتهافت لدراسة الطب، لماذا كل من عرفني وكل أصدقائي نصحوني بدراسته؟ لم أجد وقتها إجابة شافية وبقيت مصراً على قناعاتي.
انتهت مدة الأسبوعين وجاء موعد اتخاذ القرار وطبعاً كانت الهندسة المعمارية هي الخيار الأكيد ،جاء وقت النتائج ومنَّ عليَّ الله بأن تم قبولي في تخصص الهندسة المعمارية، وبدا لي حينها أني أنهيت مرحلة الجدل والتيه التي ألمت بس لفترة من الزمن ( أو هكذا بدا لي).
لم يمض أكثر من فصل دراسي لأتعرف على ماهية الهندسة المعمارية التي لم أكن أعلم منها إلى القشور فقط، مما جعلني أنفر منها بشكل غير اعتيادي ، خلال هذا الفصل احتككت أكثر بطلاب الجامعة وخالطت طلاب من شتى التخصصات مما زاد حيرتي أكثر وأكثر أخبرت أهلي بقراري عن التحويل فما كان منهم إلا أن هاجموني بشكل غريب لم أكن لأتوقعه وكأني مرتكب جريمة، قلت لأبي هل ما زال بالإمكان أن أدرس الطب فقال لي بلهجة الغاضب أني ضيعت الفرصة من يدي وعلي أن أنسى الأمر عندها علمت أني لوحدي لأول مرة وعليَّ أن أدبر أمري لوحدي ومن وقتها أصبحت علاقتي بأبي سطحية وضعيفة بعد أن كانت قوية وتغيرت نظرتي لأبي.
كان الخيار الأفضل والمتاح هو الهندسة المدنية وقتها لسهولة التحويل بين التخصصات الهندسية والحمد لله نجح التحويل لكن ما زال موضوع دراسة الطب يجول في خاطري ، ربما لمقدار الاحترام الذي يلقاه طلاب الطب وربما لظلمي لهذا التخصص وعدم إعطائي الاهتمام الكافي له وربما لمقدار التحدي والإصرار الذي يتطلبه هذا التخصص وربما لحبي للعلم بشكل عام أيضاً لا أدري صراحة لكن ما كنت أعلمه أني كلما عرفت ما هو تخصص الطب زدت شغفا واهتماماً بنيل المزيد من ذلك العلم فهو على عكس ما كنت أعلم علم شامل يجمع الفيزياء والأحياء والكيمياء والعلوم الإنسانية. حاولت خلال السنة الجامعية الأولى أن أحصل على تحويل لتخصص الطب إلا أنني لم أستطع.
مرت السنين وتخرجت من الجامعة وما زالت فكرة الطب تعيش بداخلي تحولت فيها من طالب محب للعلم إلى شخص فارغ لا أطيق الكتب ولا أطيق العلم تحولت ذكريات الثانوية العامة ولحظات الدراسة والاجتهاد إلى ذكريات تذكرني بخيبتي وتفريطي بالفرصة ،كلما جاءت نتائج الثانوية العامة كل عام أصاب بحالة من الاكتئاب لأني أتذكر فيها نفسي ، كلما أسمع بأن فلاناً قبل بكلية الطب ، أتمنى أن تنشق الأرض وتبلعني، حتى أنني خلال أيام الجامعة عشت ما يقرب من العامين من الاكتئاب والحزن واللامبالاة والإحساس بالفشل بسبب سوء اختياري, والذي أخرجني من حالتي هو دخولي للمستشفى في أحد الأيام بسبب معاناتي لنزيف أنفي حاد كاد أن ينهي حياتي لولا رعاية الله كان سببه مقدار القهر والضغط النفسي الذي كنت أعيشه فبعد هذا الحالة قطعت عهداً على نفسي أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي.
مرة السنة الأولى بعد التخرج ولم أوفق بوظيفة رسمية إلا تدريب لمدة ستة أشهر في شركة اتصالات لا علاقة لها بمجال الهندسة المدنية وإنما كان مجال عملنا يقتصر على استلام أبراج الاتصال والإشراف على تركيبها من قبل المتعهد بحكم درايتنا بالعقود والمواصفات وكان من يدربني دائماً ما يسخر مني أمام الجميع لا أعلم لماذا وأدى إلى إفقادي ثقتي بنفسي
في السنة التي تلتها توظفت بالحد الأدنى من الأجور في ذلك الوقت وكان وقتها الذي يعمل في محل ملابس أو لم يكمل تعليمه يتقاضى راتب أكثر مني،لم أكن سعيداً بالعمل ولا بالمجال. إلى أن أنهينا أوراق الهجرة إلى أميركا وسافرنا مع العائلة إلى هنالك
بقيت وقتها لمدة 3 سنوات أبحث عن عمل في مجال دراستي لكن بدون جدوى حتى كرهت الهندسة عملت خلالها في المطاعم والمحلات والمستودعات كرهت فيها نفسي وكرهت فيها كل شيء ،وعندما أيقنت أنني لن أعمل في مجالي بدأت أبحث عن تخصص آخر لأدرسه فبحثت وبحثت وعاد شبح الطب وعادت ذكريات الماضي تلوح في الأفق في نهايات هذه الثلاث أعوام اعتزلت الناس وجلست فيها معظم الوقت لوحدي ، أحاول أن أبحث عن نفسي من أنا وماذا أريد،كيف أخرج من هذه الحال ،لم أعرف ،تصفحت منتداكم الذي أفادني كثيراً.
ما زلت على تواصل مع أصدقائي القدامى على مواقع التواصل الاجتماعية فمن دخل من أبناء دفعتي كلية الطب تخرج وهو على وشك إنهاء الاختصاص أيضاً وأنا ما زلت قابعاً في مكاني فلم تفي الهندسة بوعدها لنا فلقد درست باجتهاد لوعلمت أن الهندسة تحتاج إلى هكذا جهد لفضلت الطب عليها ، لم أعش حياتي مثل باقي الشباب ، ولا أعلم ماذا أصنع بحياتي الآن.
رزقني الله قبل شهرين بوظيفة في المجال الهندسي ،ظننت أن مشكلتي ستنتهي وأبدأ صفحة جديدة من حياتي ،إلا أن بالي دائماً مشغول وذهني مشتت أحس أحياناً أنني أكره الهندسة أكرهها، فألمي وسنوات عمري التي ذهبت كانت بسببها ، ولكني في نفس الوقت أخاف إن ضيعت هذه الفرصة أن أغضب الله عزَّ وجلَّ فقد دعوته مراراً وتكراراً أن يفرج كربي حتى رزقني بهذه الوظيفة، وكلما قررت أن أفتح كتاباً أغلقه لغصة في بالي وألم يجول بخاطري ، كلما أسمع أن فلاناً طبيباً ناجح أتألم وأقول لقد ضيعت الفرصة حتى أنني أحياناً أكون على وشك اتخاذ قرار معاودة الدراسة هنا في أمريكا من البداية لأصبح طبيباً مع أن هذه الفكرة غير عملية لأنني الآن أبلغ 28 من العمر ولا أعلم كيف أتخلص من تأنيب الضمير والشعور بالذنب الذي أعانيه
اختليت مع نفسي كثيراً لأحاور نفسي وأعلم ماذا أريد إلا أنني لا أعلم صراحة ، أحسن أن حياتي أصبحت خمول وفراغ وضياع ولا هدف لي في هذه الحياة سوى العيش على أحلام الماضي وتذكر أيام الزمن الجميل ما قبل الجامعة لأنني لم أذق طعماً للراحة ولا للسكينة بعد إنهائي للثانوية العامة ، وأصبح كل يومي عبارة عن روتين ممل بانتظار الليل لأنام وهكذا
كيف أتخلص من عقدة الذنب وكيف أكمل حياتي هل أعيد الدراسة الجامعية وأدرس الطب مع أنها فكرة مجنونة وتنفيذها ممكن لكن صعب جداً جداً أم ماذا
جزاكم الله خيراً
17/3/2017
رد المستشار
الأخ السائل:
سلام من الله على قلبك، وروحك الحائرة، لعلها تستريح!!
رسالتك تلقي الضوء على آفة من أخطر آفات حياتنا، وأشكر د. وائل أبو هندي على إعطائي فرصة تناول هذا الموضوع.
في مكتبتي كتاب مترجم – لم أقرأه بعد – يتناول سلطة الصورة الذهنية في التأثير على تفكيرنا وقرارتنا، وهذا التأثير يمكن أن توازنه أو تتوازن معه تأثيرات أخرى لجودة وتوافر المعلومات الواقعية، والخبرات المُعاشة أو المتبادلة، وبالتالي كان من الممكن أن تتكون لديك صورة ذهنية أشمل وأقرب للواقع عن دراسة الطب قبل أن تقرر دراسته أو تركه إلى دراسة أخرى، ولكنك اتخذت قرارك على أساس معلومات – بل انطباعات – وقشور كما تفضلت، والحقيقة أن نفس المسلك هو الأكثر شيوعاً وتداولاً في ثقافتنا وممارستنا المعاصرة كمصريين، وربما كعرب!!
قرارات كبرى في حياتنا الشخصية، بل وفي حياة بلادنا الاقتصادية والسياسية لا تحظى بالدراسة الكافية، ولا بالانفتاح على خبرات وتجارب غيرنا، وهو تقصير عام يمارسه المجتمع، وتمارسه السلطة، ويمارسه كل منا حتى صار من عموم البلوى.
بالتالي فإن للصورة الذهنية سلطة على الجميع، لكن صورتنا نحن الذهنية أكثر غموضاً، وبلاهة، والاختيارات المؤسسة عليها هي غالباً اختيارات رعناء، والنتائج كما ترى!!
المدهش أنك عدلت عن دراسة الطب إلى غيره بناءاً على صورتك الذهنية الهشة عنه، وتتعذب بسبب هذا القرار بسبب انطباعات ذهنية أخرى هشة أيضاً!!!
عدلت عن دراسة الطب، وأنت لا تعرف عنها شيئاً تفصيلياً وعميقاً، وتفكر حالياً في محاولة العودة، ودراسة الطب وأنت ما زلت لم تعرف شيئاً عنها – ما زلت!! لم يتغير النهج، وما تزال الانطباعات السطحية تحركك!! "كلما أسمع أن فلاناً طبيباً نجح أتألم، وأقول..." هل هذه هي كل المسألة؟!
قرارات كبرى تتخذها على غير هدى، ولا دراسة، ثم لا تعجبك نتائجها، وتريد المغامرة بقرارات أخرى تتخذها على غير هدى، ولا دراسة معمقة؟!
الحقيقة أن هذه الطريقة الشائعة في التعامل مع الحياة تنتهي بنا إلى صلب المشكل، والمحدد المهدد الأكبر لسلامنا النفسي، وهو أن أنفسنا " ذواتنا " أرواحنا تضيع في غمرة هذه الضوضاء!! ضوضاء الصور الذهنية المشوشة، وغياب الحقائق، بل التوهان عن حقيقتنا نحن!
الأمر الذي عبرت عنه بجلاء أعجبني في قولك: "أحاول أن أبحث عن نفسي.. من أنا؟! وماذا أريد؟! "
وهذا هو أصل الداء، ومربط الفرس، وحجر الزاوية!!
تمتلئ دخولنا بصور وأصوات مستعارة تتراكم وتدفن تحتها حقيقتنا النفسية، والروحية!!
ابحث بداخلك ستجد صوت والدك، وصوت من قال لك: وماذا عن الطب؟!
وصورة الاحترام الذي يلقاه طلاب الطب، وصورة للتحدي الذي تتطلبه دراسته!! صورة عن الملل في دراسة عقيمة!! وهكذا. وستجد صوراً وأصواتاً عن قضايا أخرى، ووسط هذه الصور والأصوات لن تجد صوتك الحقيقي، ولن تعرف بالتالي من أنت، ولا ماذا تريد!!
وهذه هي البداية إذاً... أي البحث عن ذاتك الحقيقية، وصوتك الأصيل الداخلي. فرصة وجودك في أمريكا كبيرة تفتحك على عالم التأمل Meditation ، وتدريبات الدراما، والوعي بالذات.
اليوجا، والتدريبات الحركية أيضاً تبدو هامة، وأساسية ورحلة البحث عن الذات هي رحلة الحياة التي يجدر بكل واحد فينا أن يتحرك فيها مسؤولاً عن نفسه، باحثا عن روحه أو نفسه التائهة وسط الصور والأصوات المستعارة!!
رحلة استعادة الذات هي كدح الإنسان إلي ربه حتى يلقاه بقلب سليم، وليس بهذه القلوب التي تملأ بالزيف.
البحث عن صوتك الحقيقي، وذاتك الداخلية الحقيقة هي المهمة، وهو الضمان للخروج من حيرتك حين تعرف من أنت، وبالتالي ماذا تريد!!
فلا تشغل نفسك عن السؤال الحقيقي، والمهمة الأخطر بأسئلة أخرى فرعية، أو مضللة!!
تحتاج إلى الانتظام في عمل يكفل لك دخلاً يعينك على العيش، ومن ثم تبدأ رحلة بحثك عن ذاتك.
وتابعنا بأخبارك.