أبي والخرف
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أتوجّه إليك دكتور وائل أبو هندي بهذه الاستشارة بعد أن اطّلعت بإمعان على كتابك القيّم "الوسواس القهريّ" الصّادر ضمن سلسلة عالم المعرفة، ولعلّه من طريف القول أنّني كلّما وجّهت صديقا لقراءته إلاّ قال "يا لطيف، لماذا أقرأ هذا الكتاب؟ لست مريضا" فأجيبه بأنّني اشتريته من المكتبة وليس من الصّيدليّة... ولا عجب فرغم التطوّر المطّرد إلاّ أنّه مازال يُنظر إلى الطبّ النّفسيّ على أنّه مختصّ بالمجانين لا غير، عذرا أن أطلت. وها هي مشكلتي:
يبلغ أبي من العمر 76 سنة ويشكو إعاقة عضويّة برجله اليمنى ويده اليسرى منذ الولادة، وهو يمشي رغم الصّعوبات ويستعمل يديه دون مشكلة، ومنذ سنوات قليلة عجز عن المشي تماما بسبب تآكل عظمي بأعلى السّاق اليسرى لفرط اعتماده عليها، وأجريت عليه عمليّة جراحيّة فأُزيلت الأوجاع لكنّه بقي عاجزا عن المشي تماما، ولزم أبي البيت لا يغادره إلاّ للتّداوي رغم وجود الكرسيّ المتحرّك ربّما لأنّه كان يخجل من أن يُرى عاجزا تماما، واستمرّ الحال على ما هو عليه، ولاحظنا أحيانا أنّ أبي ينسى بعض الأشياء البسيطة مثل بعض التّوصيات من أشخاص هاتفوه، ولم نهتمّ بالأمر كثيرا كان ذلك منذ سنتين تقريبا، لست متأكّدا تماما لأنّني كنت أعمل في ولاية أخرى بعيدة، ثمّ لا حظنا أنّه ينسى كثيرا من الأشخاص وقلنا لعلّ مردّ ذلك إلى غيابهم الطّويل عنه، ولكنّنا فوجئنا بعد ذلك بأنّه لا يعرف منزله ويظنّه منزل أشخاص آخرين هم في الواقع أجوار لنا، كما أنّه لا يعرف أمّي ويطالبني وأخي دائما بأن نحمله إلى منزله وسأقصّ عليك بعد ذلك باختصار بعض الأمور الغريبة بالنّسبة إليّ طبعا ولكن قبل ذلك أعلمك بأنّ أبي يتداوى من مرض ارتفاع الضّغط ويستعمل من الأدوية Aspegic 250 مرّة واحدة يوميّا و Isobar وPraxilène وPurunol وأضاف إليه الطّبيب حديثا Duxil وربّما كان هناك خطأ في كتابة بعض أسماء الأدوية لأنّها ليست بحوزتي الآن، وإليك بعض التّفاصيل:
ــ يظنّ أبي أنّ أمّي هي عمّته وليست زوجته، وهو دائما يسأل أبناءه إن كانوا قد رأوْا أمّهم في منزلها، فإذا ما أجبناه بأنّ أمّنا معنا في البيت قال: لا أقصد تلك، ويحدث أحيانا أن يتعرّف عليها إذا خرج من المنزل إلى مكان آخر ثمّ عاد إليه.
ــ يطالبنا أبي كلّ يوم بأن نوصله إلى منزله رغم أنّه لا منزل له آخر خلاف الذي يسكنه، وقد يحدث ذلك أحيانا مرّتين في اليوم الواحد ويتصوّر أنّ له إخوة آخرين لا بدّ أن يشتري لهم اللّحم والخبز والغلال وأنّ له امرأة أب ولكنّه لا يعرف صورة إخوته ولا زوجة أبيه...
ــ يتصوّر أبي أنّه ينتقل من منزل إلى منزل آخر شبيه تماما بالأوّل وأنّ الأشجار الموجودة في المنزل تتبعه وكذلك منازل الأجوار.
كثيرا ما يتذكّر أبي الأحداث الماضية وينسى القريب منها ويسأل ويكرّر السّؤال رغم تلقّيه الإجابة أكثر من مرّة.
ــ يتذكّر أبي متى ولد ويتصوّر أنّ عمره 32 سنة وأنّه سيتزوّج قريبا
ــ ينسى أبي أحفاده وهو يقول لي إنّه لا يعرف زوجتي وابني أيضا.
ــ لأبي درّاجة عاديّة يطالبني دائما بإصلاحها لأنّه يتصوّر أنّه سيحتاجها في يوم من الأيّام.
أخي دكتور وائل
هل هذا الخرف هو ما يعبّر عنه بألزهايمر؟
هل لهذه المشكلة حلّ غير الصّبر؟
هل فعلا لا فائدة من عرض أبي على الأطبّاء؟ ما هو الحلّ الأنسب للتّعامل مع أبي؟
هل أرفض له طلبه المتكرّر بإيصاله إلى منزله الذي لا يوجد إلاّ في خياله، فهذا الأمر شاقّ فعلا خاصّة في الصّيف؟
كيف يمكن أن يدرك أمّي؟
كيف يمكن أن أخفّف من أعبائه لأنّني أحسّ أنّه يحاول أن يسترجع الذّاكرة أحيانا فلا يقدر.
في انتظار ردّكم تقبّلوا منّي سيّدي أسمى عبارات الامتنان.
23/07/2004
رد المستشار
أخي العزيز .......
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما يعانى منه والدك الكريم هو نوع من أنواع الخرف أقرب ما يكون (حسب المعلومات المتاحة) من نوع ألزهايمر وإن كان هذا لا يمنع من وجود أسباب وعائية مخية خاصة وأن والدك يعالج منذ فترة من ارتفاع في ضغط الدم.
وهذا المرض يبدأ تدريجيا ويتزايد باستمرار مع مرور الوقت ويؤثر أكثر في الذاكرة القريبة حيث أن الذاكرة للأحداث القديمة قد تكونت وثبتت في ظروف كان المخ يعمل فيها بشكل جيد، ولهذا لا تستغرب عدم معرفته لوالدتك لأن صورتها الموجودة في الذاكرة القديمة هي صورة لشابة صغيرة تختلف كثيرا عن صورتها الحالية ، كما أن أحفاده قد سجلوا في الذاكرة بعد ضعفها لذلك لم تثبت صورتهم ولا أسماؤهم.
وضعف الذاكرة للأشخاص والأشياء والأماكن يسبب مشاكل كثيرة لأنه ببساطة يفقده ارتباطاته الحياتية كلها لأنه يعيش في بيئة يجهل كل ما فيها ومن فيها لذلك يبدو مشوشا تائها مضطربا فيعتقد أن من حوله أناس غرباء وفى بعض الأحيان ربما يظن أنهم جاءوا لإيذائه أو إيذاء أفراد أسرته أو سرقة أمواله.
ويمكن أن يصاحب هذا الاضطراب في الذاكرة بعض الأفكار الزورانية (الضلالية) كأن يتهم من حوله بأنهم يمنعونه الطعام والشراب (لأنه ينسى أنه أكل وشرب) أو يدعى أنهم يحاولون السطو على ممتلكاته أو حتى قتله بوضع السم في الأكل. وبناءا على اضطراب الذاكرة واضطراب التفكير ربما تحدث أيضا اضطرابات في السلوك فيصبح عدوانيا في بعض الأوقات (فهو يدافع عن نفسه ضد أخطار يتوهمها) أو ربما يتلفظ بألفاظ أو يأتي بأفعال لم تكن معهودة منه من قبل ولا تتماشى مع طبيعة شخصيته وسنه ومقامه الاجتماعي، إذن فنحن أمام زملة من الأعراض تتضمن ضعف متزايد في الذاكرة واضطراب في التفكير والسلوك.
ومرض الخرف يكون ناتجا عن ضمور متزايد في خلايا المخ في مناطق مختلفة (حسب نوع الخرف) أو نقص في الناقلات الكيميائية العصبية . والضمور في الخلايا لا يمكن وقفه فهو سيزيد حتما مع السن، ولكن النقص في الناقلات الكيميائية العصبية (خاصة الأسيتيل كولين والدوبامين) يمكن التأثير فيه إلى حد ما بواسطة مجموعة من الأدوية الحديثة نسبيا مثل مدعمات الدوبامين ومدعمات الأسيتيل كولين (إكسيلون، أريسبت)، إلا أن هذه الأدوية غالية الثمن وتعطى نتائج نسبية في تحسين الذاكرة وربما تحسين السلوك اليومي وخاصة في بداية المرض أو في الحالات الخفيفة والمتوسطة، أما في الحالات الشديدة والمتقدمة فإن تأثيرها محدود جدا.
والأدوية التي ذكرتها أنت (ويتعاطاها والدك) تحسن وصول الدم والأكسجين إلى المخ وتقلل من احتمالات تكوين جلطات مخية، ولكن لا يتوقع منها أن تعيد الذاكرة أو تضبط السلوك المضطرب.
وهذا لا يعني أن نترك هذه الحالات بغير علاج ، فإن كنا لا نستطيع أن نوقف تدهور الذاكرة فلا أقل من أن نعالج اضطراب الأفكار واضطراب السلوك، وهذه هي الأشياء التي تزعج المحيطين بالمريض أكثر حيث أنه لا ينام أحيانا في المواعيد المتوقعة (ينام نهارا ويسهر ليلا) ولا يكف عن التجوال بلا هدف وله مطالب غريبة وغير منطقية وربما يكون عدوانيا، وهناك بعض الأدوية التي تفيد في علاج هذه الاضطرابات السلوكية مثل الريسبريدون والهالوبيريدول، فهي تلطف كثيرا من سلوكيات المريض وتسهل على المحيطين به خدمته والتعامل معه.
ويبدو أن لله سبحانه وتعالى حكمة في استبقاء أشخاص قد فقدوا قدرتهم على التفكير والعمل لكي يكون وجودهم اختبارا لقدرة أبنائهم وبناتهم على الوفاء لهذا الأب الذي تعب وكافح وربى، ولكي يفجر في نفوسهم نزعات البر والرحمة والوفاء، ولكي يكون مصدرا لكسب الثواب من خلال رعايته والحنو عليه. وحين يفعل الابن هذا مع أبيه فإنه يعطى درسا عمليا لابنه في كيفية رعاية الأب حين يكبر ويفقد قدرته على التفكير وعلى ضبط الأمور.
ويستحب أن يبقى والدك في المكان الذي عاش فيه طوال عمره وألا ينتقل من مكان لآخر كل فترة فإن الأعراض تزيد في الأماكن غير المألوفة، ولا مانع من تذكيره برفق بالأشياء والأوقات والأشخاص بحيث يعمل المحيطون به كذاكرة بديلة كلما أمكن ذلك.
ومن الأفضل التعامل معه برفق فلا نعنفه ولا نجادله كثيرا أو نعانده أو نتصلب معه، فهو في هذا السن أقرب ما يكون للطفل الذي يحتاج إلى ملاطفة ورفق ومطاوعة (في حدود لا تضره) والحفاظ عليه في مكان آمن حتى لا يتعرض للضرر أو السقوط أو أي مخاطر نتيجة اضطراب ذاكرته وتفكيره وسلوكه.
وحين يطلب الذهاب لمنزله (كما يتخيل) فيحتاج الأمر أن نربت على كتفه ونطمئنه أنه في منزله ثم نحاول جذب انتباهه لشيء آخر مع الإبقاء على باب البيت مغلقا حتى لا يتركه خلسة.
وعندما تزيد الحالة ربما يصبح غير قادر على الأكل والشرب بمفرده وغير قادر على العناية بنفسه (رغم تدريبات العناية بالذات) لذلك يستوجب الأمر أن ينظم المحيطون به جدولا يتناوبون العناية به حتى لا تلقى هذه المسئولية على شخص واحد لا يستطيع القيام بها خاصة أن هذا الوضع ربما يستمر لشهور أو سنوات. وعلى الراعي أو الراعية أن يحتسبا كل جهد يبذلانه عند الله، وبالتالي يفعلان ذلك عن طواعية ورضا ودون تأفف أو غضب من سلوكيات المرض المضطربة.
ويضيف الدكتور وائل أبو هندي، الأخ العزيز أهلا وسهلا بك وشكرا على ثقتك وإطرائك، ليست لدي إضافةٌ بعد ما تفضل به مجيبك المستشار الدكتور محمد المهدي غير أن أنوه إلى أن عته الشيخوخة أو خرف ألزهايمر له كلمة عربية واحدة تفي بالمعنى هي السَّبَه وتعني ذهاب العقل من الهرم كما ورد في القاموس المحيط، وأضيف بعد ذلك إحالتك إلى مقالٍ لمجيبك نشره على مجانين ويبدو أنه نسيه، وهو :
حين يتصدع العقل
وأهلا وسهلا بك دائما، فتابعنا بالتطورات.