السؤال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم رسل الله سيدنا محمد وعلى آله زهور المحافل وأصحابه صدور الجحافل والتابعين لهم بهديٍ وإحسان ٍ إلى يوم الدين. الأب الكريم، الأم الفاضلة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أود بادئاً أن أعطف بالثناء على ما أراه من وافر معونتكم لكل قلبٍ شاكٍ آده حزنه وهمه وغلبته شكواه إليكم فهداه الله بكم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال "منْ فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً مِنْ كُرَبِ الدنيا فرَّجَ الله عنه بها كُربةً من كُرُباتِ يوم القيامة".
وإني لأعلم أنه ليخجل تواضعكم ثناء الناس المقيم عليكم، وما ذلكم إلا لما يلقوْنه من مخلَص نصحكم وصادق عونكم، وإنه لحق ٌ علي المرء أن يشكر لكم حسَنَ صنائعكم وصدق بلائكم، ولو أخجلكم، كما قال الشاعر: إذا أنا لم أثنِ بالمعروف صادقاً ولم أشتم الجبْسَ اللئيمَ المذمّما ففيمَ عرفتُ الخيرَ والشرَّ باسمهِ وشقَّ ليَ اللهُ المسامعَ والفما؟ وإني لأسأل الله لكم عظيم الأجر وخير الثواب جزاء ً منه عطاء ً حساباً.
أما بعد، فإني طالبٌ بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، أبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، أعيش في كنف والديَّ، حفظهما الله و بارك عليهما، مع إحدى ثلاث أخواتٍ لي بقيتْ معنا. وفقني الله، و لم يزل، حتى التحقتُ بكليتي هذه ثم أتمَّ عليَّ فضله فكانت دراستي في العلم الذي كنتُ أُرَجِّي فيها.
وإني لأذكر أنني لم أكن على طاعةٍ لله حين التحقتُ بها بل كنتُ غافلاً لاهياً على أني لم آتِ من الفواحش شيئاً، حفظنا الله وإياكم، وكان الفضل في ذاك لله، سبحانه وتعالى، وحده. ورثتُ حب القراءة والاطلاع عن أبي، حفظه الله، فقرأتُ الكثير عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته، كذلك أخبار العرب وملاحمهم وشجاعتهم وبلاغتهم، وكان لهذا بالغ الأثر عندي إذ علمني حبَّ الأخلاق والفروسية، وإن لم يكن لي منها نصيبٌ، أو كما قال الإمام الشافعي، رضي الله عنه:
أحبُّ الصالحين ولستُ منهم لعلي قد أنـال بهم شفاعـه
وأكره مَنْ تجارته المعاصي وإن كنَّا سواءً في البضاعه
وما بلغتُ الرابعة عشرة حتى أنعم الله عليَّ فأحببتُ الشِّعر حبا ً شديداً وعكفتُ على علومه أنهل منها، وقد كان لوالدي خير دورٍ في حبي للقراءة وتعلقي بضروب الأدب والبيان فهو قارئ ٌ نهمٌ واسع الاطلاع جمع لنفسه حشوداً زاخرة ًمن شتَّى صنوف الكتب، فجعل الله، سبحانه وتعالى، من ذلك كله ردءاً لي مما يتردَّى فيه كثيرٌ من الشباب من وقوع ٍ في الرذائل واقترافٍ للكبائر، وما كان لي في ذلك من فضلٍ وإنما كان الفضل كله بيد الله إذ حاطني بعين رعايته وحفظه كما أسلفتُ.
كنتُ على ذلك كله غافلاً، ورُبَّ ضالٍّ على علمٍ، حفظنا الله وإياكم ، لاهياً لا أصلي بل كنتُ أمارس العادة السرية لسنينَ طوالٍ، وإن خفي ذلك على أهلي وأصدقائي إذ كنتُ أكره أن أُرى على معصيةٍمجاهراً بها.
كنتُ أحبُّ مكارم الأخلاق وأنكر هجينها ولكني لم أكن أملك شهوة نفسي فكنتُ، كما أسلفتُ لكم، أمارس العادة السرية على بغضي لها، وكم كنتُ أحقر ما أقوم به وأرجو لو انتهيتُ عنه، بل طالما كنتُ أزدري نفسي حين أجدني خاضعاً لسطوة شهوتها، وكأنها ملكتْ عليَّ أمري فلم أعد أطيق منها فكاكاً. ولكني كنتُ، برغم هذا، أغضُّ بصري عن أي امرأةٍ أو فتاةٍ أجنبيةٍ حياءً وخجلاً، وإنما كنتُ أستخدم الحاسوب وشبكة المعلومات حين أطلبُ الحرام؛ أي أنني كنتُ، كما رأيتم، أستحي من الناس ولا أستحي من الله، حفظنا وإياكم الله.
بيْدَ أنَّ الله، جلَّ وعلا، قد منَّ عليَّ على عصياني فسترني بفضله على ما كنتُ فيه فلم يعلم به أحدٌ، ولم يَـبْدُ لأحدٍ مني إلا كرم خلقٍ وحسن معشرٍ، فما أسفهني وما أحلم الله ! ظللتُ على ما أنا عليه من الضلال الخفيِّ حتى منَّ الله عليَّ وهداني صراطه المستقيم فأقلعتُ عن العادة السرية وهجرتُ كلَّ ما كنتُ عليه من الآثام.
وقد كانت هدايتي تلك حين عرفتُ زميلة ً لي في كلية الهندسة ثم وجدتُ لها استحساناً في نفسي رويداً. لم يكن استحساني ذاك نابعاً من نظرةٍ نلتُها منها أو شهوة نفسٍ التمستُها فيها، فأنا لم أكن يوماً ممن يجمحون بأعينهم فيتفرَّسون في الفتياتِ أو يتلمَّسون عورات الناس، فقد كنتُ، على ضِلَّتي، أحقر تلك الأفعال جداً بل كنتُ حييَّاً لا أرى من المروءة أن يقفو المرء عورات الناس يمد إليها بصره.
هنالك عنَّ لي أنَّ المرء يجب أن يتروى حتى يبصر عيب نفسه فيصلحها قبل أن يطمح إلى ارتباطٍ بأي فتاةٍ حتى يكون له أهلاً. كذلك كنتُ أعلم أني، لا محالة بحاجةٍ لأن أعرف عنها المزيد حتى أقطع في أمرها. كانتْ حينئذٍ هدايتي التي منَّ بها الله عليَّ على غير استحقاقٍ مني ولكنْ بفضلٍ من لدنه ورحمةٍ، فواظبتُ على أداء الصلاة على وقتها، وما كدتُ حتى أوسع الله عليَّ فبتُّ أؤديها في المسجد، وأخذتُ أقيم أوْد نفسي وأصلح ما أفسدتْه الغفلة فيها.
كنتُ في هذه الأثناء أحاول الاقتراب من زميلتي هذه، دون نجاح ٍ يُذكر، إذ تبيَّنتُ ما لم يَجُلْ بخاطري قبلئذٍ؛ وهو أنّي، كعادتي، تبتُ عما كنتُ أفعل لمَّا عرفتها ولم يكُ ذلك ابتغاء مرضاة الله ولا محبة ً له ولا استحياء ً منه، فما تبيَّنتُ ذلك حتى أُسقِطَ في يدي فاستشعرتُ شدة الخجل من الله والإشفاق بين يديه وقد وسع كل شيء علماً، فنظرتُ في حالي ملياً ثم عزمتُ أن أنصرف عن هذه الفتاة فلا أفكر في أمرها، ولو مرةً، معذرةً إلى الله وتوبةً إليه.
وكم أحمده، سبحانه وتعالى، أن هداني ثم محَّص قلبي حتى يكون إخلاصي له وحده لا لأحدٍ من دونه، سبحانه إنه هو البرُّ الرحيم. مكثتُ على هذه الحال قرابة السنة حتى أيقنتُ أنَّي قد أخلصتُ نيتي لله وحده وذقت حلاوة الإيمان فحمدتُ الله على ما هداني، وما كنتُ، والله، لأهتديَ لولا أن هدانيَ الله. جال بخاطري يومئذٍ أني يجب عليَّ أن ألتزم الأمانة مع الله، سبحانه وتعالى، في سرِّي وجهري وأنظر في نفسي لأعلم مراديَ الحقَّ من تلك الفتاة.
وهدانيَ الله فراجعتُ نفسي وأخذت أمعن النظر في الارتباط بها، ولكنَّ قراراً كهذا لم يكن بالهيِّن، بعد أن تاب الله عليَّ، فكان لابد لي أولاً أن أنظر في أمري لأري أوجه قدرتي عليه، كذلك كان محتَّماً عليَّ أن أتعرَّفها بشكلٍ أفضلَ لأعرف المزيد عن دينها، إذ أنها لا ترتدي حجاباً، وأخلاقها وثقافتها ومستواها الاجتماعي والماديِّ، فعرفتُ أنها ابنة أستاذٍ جامعيٍّ، وكذلك شيئاً يسيراً عن أسرتها، ولكنَّكم تعلمون كما أعلم أنًّ كل هذا لا يكفي ولا يغني شيئاً، وأنَّ أخلاقها ودينها هما ما عليه المعوَّلُ.
وظلَّتْ نفسي تأبى عليَّ أن أكلِّمها أو أحاول الاقتراب منها مخافة الله ويقيناً مني أنَّ كل ما أ ُسِّسَ على غير رضوانٍ من الله هالكٌ لا ريب، وما كنتُ بعد أنَّ منَّ الله عليَّ لأعود إلى الآثام، والعياذ بالله، وصرتُ أخشى أن تكون نفسي تزيِّنُ ليَ التزلَّف إليها على غير هدىً من الله، فأيقنتُ حينئذٍ ألَّا سبيل لإثبات حسن نيتي مع الله إلا أنْ أنظر في نفسي وأتحقق من نزاهة مقصدي ثم أسلك السبيل الذي رضيه الله لعباده المؤمنين، إذ أنني لم يبق على تخرجي سوى سنتين لا أحسبني بعدهما أستطيع رؤيتها أو التعرَّف بها فهي ليستْ زميلة ً لي في القسم الذي أدرس به، ولستُ أعرف أحداً من زملائها إلا النذر اليسير ممن ليستْ لي بهم ثقةٌ.
فشرعتُ أنظر في أمري ولاح لي أن أستشير والديَّ، أحدهما أو كليهما، في أمري هذا عسى أن يعيناني في أمري ويشيرا عليَّ بما يهدي خطايَ ورغبةً مني في أخذ الأمر مأخذ الجدِّ والتماس السبل القويمة لطلبه.
هنالك تبيَّنَ لي ما لم أكن أحسب له حساباً، فأبي رجلٌ يبلغ من العمر سبعةً وستين عاماً قضى ما يقرب من العشرين منها ضابطاً في القوات المسلحة المصرية التي التحق بها بعد تخرجه في كلية الهندسة، لذا فقد نشأ والدي صعب المراس شديد العريكة، يستعين بالقوة في تربية أولاده كثيراً حتى أنَّ أخواتي قاسيْن من شدته تلك مراراً، فأنتَ تراهنَّ على خلافٍ لا ينتهي معه، ولكني كنتُ آخذُ عليهنَّ في خلافاتهنَّ معه أنهنَّ لا يلتزمن فيها الأدب اللازم معه ولا ينتبهن فيها لسنِّه وتكوينه الفكري بل ولا يحاولن فيها خطابه باللين والتؤدة.
كنتُ كثيراً ما أراهُنَّ على جانب الحق ولكنهنَّ لم يكنَّ يحسنَّ محاجَّته إلا لماماً.
لقد نالني الكثير من شدة أبي وكنتُ كثير الشجار معه حتى هداني الله فصرتُ لا أخالفه إلى ما يكره أبداً وألتمس له المعاذير وإنْ نال مني بغير ذنبٍ جنيته، وهداني ربي أنَّ حسن معاشرة والديَّ واجبةٌ عليَّ مهما يكن منهما، فصرتُ أرضيهما ما استطعتُ، وعلَّمني ربي أنَّ أبي، وإن آذاني نيلٌ له مني، لا يعلم أنَّ مِنْ قوله وفعله ما يؤذيني ويجرحني، فطبتُ عنه نفساً.
وكان من أثر هذا أن رضي عني أبي، وإن بقي صامتاً لا يصرِّح لي بمودته إلا لماماً وكنتُ أعلم أنَّ هذا يرجع إلى نشأته الخشنة التي لم يعتد فيها الجهر بالودِّ أو البوح بالمحبة، و لكنَّ حدَّة أبي و شدته وسورة غضبه ظلَّتْ كما هي لا يغيِّرها شئ فكنتُ أوادعه وألقي إليه بالمودة وأحاول جهدي أن أوفِّق بينه وبين أخواتي وإن أعجزني ذلك لأنَّ صغراهنَّ تكبرني بثمانية أعوام؛ أي أنَّ الفتنة كانت ضاربةً أطنابها بينهم،كما أنَّ غالب خلافاتهم كانتْ تعود جذورها لأمورٍ ورواياتٍ حدثتْ قبل مولدي، وليستْ هذه الخلافات مما يلزمنا الخوض فيه هنا على أية حالٍ.
أردتُ بيان أنَّ العلاقة بيني و بيني أبي كانت جدَّ بسيطةٍ، فلا أذكر يوماً أني أفضيتُ إليه بسرٍّ أو أودعته شكوى بل كنتُ دوماً أحفظ خبيئة صدري طيَّ فؤادي إلا النذر اليسير جداً فيما لا خطر له عندي مما كنت أفضي به إلى أمي. فلا غرو، بعد ما بيَّنتُ لكم، أن أجد نفسي واقعاً في حرجٍ و ضيقٍ شديدين؛ فلا أنا أستطيع أن أخبر أبي بأمري ولا أنا أودُّ أن أقصَّه على أمي خشية أن تخبر به إحدى أخواتي؛ فمن ناحية أبي، لم أكن يوماً معتاداً على إخباره بشيءٍ يخصُّني، ناهيك عن شيءٍ ذي بالٍ كهذا، مخافة أن تظلمني حداثة سني عنده فيهزأ بي أو ربما أظهر لي اكتراثه بأمري وهو لا يأبه له أو لا يأخذه مأخذ الجدِّ، بل ربما استحوَذَتْ على قلبه سورة غضبٍ ذات يومٍ فهزأ بي أو ردَّد على مسمعٍ من أخواتي أنَّ هذا الفتى الغرير يودُّ أن يتزوج ويعول بيتاً، و إنَّ قولةً كتلك لشديدةُ الوقع عليَّ وإني بغضب أبي لعليمٌ.
وإني لأعلم، كما أسلفتُ لكم، أنَّ أبي لا يعتمد جرح مشاعري ولكنَّ من أقواله ما يؤذيني، والله يعلم، أيَّما إيذاءٍ، ولعل جهله ذلك يرجع إلى فارق السنِّ البالغ بيني وبين أبي كما تروْن.كما أني أستحي منه استحياءً عظيماً، وحسبكم أن تعلموا من شدَّة استحيائي منه أني كثيراً ما أجد حرجاً شديداً أن أسأله مالاً كلما نفد مالي بل أوثر على ذلك أن أخرج أحياناً خاوي الجيب استحياءً من مسألته.
ومن ناحية أمي، فلقد ترددتُ كثيراً في إخبارها لعدة أسبابٍ أذكر منها هنا: أولاً: أني أخشى أن تخبر أخواتي بأمرٍ كهذا، وهنَّ، ما علمتم، لم يتزوجن بعد، وليس هذا سبب إشفاقي فحسب، وإنما مرجعه أيضاً إلى أنَّ أخواتي قد ألفنني أخاً صغيراً لهم، لذلك تراهنَّ يريْن لهنَّ الحقَّ دوماً في التدخل في كل شئوني خاصِّها وعامِّها، حتى إذا حاولتُ الذوْد عن خصوصيتي لم أسلم من نيل إحداهنَّ مني مخبرةً إيَّايَ أني بعدُ غِرٌّ صغيرٌ لا أفقه شيئاً عن الدنيا وأحوالها، والله أعلم بما يصفن؛ فكم طلبن رأيي ومشورتي في كل من تقدم لخطبتهنَّ من قبل وكم ألححتُ عليهنَّ وأسررتُ إليهنَّ ليِّن القول، بعد أن هدانيَ الله، ليرتدين الحجاب، ومنهنَّ اثنتان لا ترتديانه.
وإني لأعلم، على ذلك كله، أنَّ الناقد المتبصِّر بأمر إخوتي ملتمسٌ لهنَّ العذر فيما يفعلن لا محالة؛ فقد أربى سنَّ كبراهنَّ على اثنتين وثلاثين سنةً ولمـَّا تتزوج بعدُ، كذلك وسطاهنَّ قد جاوزتْ الثلاثين وهي مطلقةٌ منذ خمس سنين لم يقدَّرْ لها التوفيق مع زوجها ولم تجد زوجاً آخر بعدُ، أما صغراهنَّ فهي طبيبة أسنانٍ تبلغ من العمر سبعاً وعشرين سنةً، ترتدي الحجاب وتحاول الالتزام جهدها، وهي تعمل في المملكة العربية السعودية بعد ما سافرتْ للعمل هناك بموافقة أبي دون محرمٍ، وكم عارضتُ والديَّ في أمر سفرها هذا فلم يستطيعوا أمام إلحاحها المطَّرد إلا أن يأذنوا لها به، وأذكر هنا أنها هي الأخرى لم تتزوج بعدُ، لذا تروْنني أخبركم أنَّ خبر إعجاب أخيهم الأصغر بزميلةٍ له في الجامعة لن يكون هيَّن الوقع عليهنَّ أبداً، لذلك لم أرغب أن يعلمن بأمرٍ كهذا وهو بعدُ في مهده تُطلَبُ فيه المشورة وتُسألُ فيه النصيحة.
أما ثاني الأسباب التي تتبطني عن إخبار أمي فهو أني لا أحسب إخباري إياها به ذا جدوى؛ إذ الأمر والنهي لأبي بطبيعة الحال، ولا أحسب أنَّ أمي الضعيفة تستطيع أنَّ تمدَّ لي يد العون فما أرى في وسعها شيئاً. كما لستُ أخفي عنكم أني لا أحسب أبي قادراً على إعانتي على نفقات زواجي ولو بعد تخرُّجي بعامٍ أو اثنين؛ فهو، لا بدَّ، قد احتفظ بجزءٍ من مدخراته وجعلها ذخيرةً يستعين بها على تحمِّل تكاليف زواج أخواتي، إن شاء الله، وإني لأعدُّها وقاحةً أن أسألهُ ما تبقى منها لمعونتي، ناهيك أني لا أظنُّ بقيَّتها هذه تعينه على نفقات زواجي، وهو، كما تروْن، قد جاوز سنَّ المعاش ولم يعد بإمكانه العمل لمتاعبه الصحية، شفاه الله وسائر مرضى المسلمين، كما أنكم، لا بدَّ، تعلمون أنَّ عملي بعد تخرجي، إن شاء الله، لن يمكنني من تحمُّل نفقات وحيداً زواجي على كل حالٍ.
من أجل ذلك وجدتُ نفسي في حيرةٍ شديدةٍ وقلَّبتُ في نفسي الأمور ألتمس لنفسي مخرجاً فلم أجد. إنَّ تكاليف الزواج في مصر، كما تعلمون، وخيمةٌ عظيمةٌ، فضلاً عن أني لا أستطيع السفر للعمل بالخارج بعد تخرُّجي، إن شاء الله، فقد جاوز والدي السابعة والستين وقاربتْ والدتي هي الأخرى التاسعة والخمسين من العمر وكلاهما مريضٌ، عافاهما الله وسائر مرضى المسلمين، ولستُ لأتركهما في مثل سنِّهما هذه وهما في أشد حاجةٍ لعون هذا الفتى الذي ربَّياه صغيراً وبذلا النفس والنفيس في تنشئته، إلى جانب تعلُّقهما بي لحسن معاملتي لهما بخلاف غالب أخواتي.
وإني لا أعدِلُ، والله، برؤيتهما ورعايتهما مالاً ولا عارضاً حائلاً من الدنيا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال "خاب وخسر من أدرك أبويْه فلم يُغفر له. "لقد عاينتُ كل هذا وأكثر منه حين رأيتُ أن أنظر أمر نفسي لأصدقها القول، لأني لم أشأ أن أحاول التعرُّف بزميلتي هذه قبل أن أحسم أمر نفسي وأخلص سريرتي لله وحده حتى يكون تعرُّفي بها في رضا من الله ورضوانٍ، فإني، لا أريد بها معصية الله ورسوله أبداً، ثم إني لأُكبِرُها، وسائر بنات المسلمين، أن تكون معرفتي إياها للهوٍ أو عبثٍ يُسْخِطُ الله تعالى.
إنَّّ الأمانة التي أنشدها مع الله تقتضي، لا ريب أن أتثبَّت من نفسي وأهلي أولاً قبل أن أحاول التقرَّب إلى تلك الفتاة لئلا أقع في ما لا تحمد عقباه ولا يرضي عنه الله والرسول، فلا أنا أرضي بما يغضب الله ورسوله ولا أنا أرضي أن يمسَّها سوءٌ جرَّاء نزقٍ أو طيشٍ مني.
لقد هداني الله، سبحانه وتعالى، إلى بابكم فقصدتُه ألتمس العون منكم وأرجو لديكم المشورة وإني لأعلم أنكم لا تضِنُّون بها عليَّ أبداً، وإني لناظرٌ بم يرجِعُ المرسَلون. أعانكم الله ووفقكم وسدًّد خطاكم وأصلح بالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابنكم،
شاهد
2004/7/8
رد المستشار
الابن العزيز أهلا وسهلا بك، ونشكرك على ثقتك، وعلى لغتك وفصاحتك، ولكننا نتساءل عن المشكلة فأنت تعرض تفاصيل كثيرة وبإطناب، ولا تعرض مشكلةً ولا نحسبك غافلا عن ذلك، هل المطلوب منا هو أن نقول لك ماذا تفعل؟!
أنت تعرف يا بني جيدا ماذا تفعل كما هو واضح من كلماتك وعباراتك وأفكارك، إذن فالمطلوب منا هو أن نواسيك في حالك والذي هو حال كثيرين من شباب المسلمين الواعين الملتزمين.
فأنت تعرف أن القول الذي لا ينبني عليه عمل هو نوع من التكلف الذي نهينا عنه، أي أنك لو صارحت البنت التي مال إليها قلبك بميلك تجاهها فإن ذلك يعني أن عليك أن تتقدم لخطبتها، وإلا كان كلامك معها تكلفا لا داعي له!
وأنت تعرف حسب تحليلك أنك لن تستطيع تحمل نفقات الزواج، ولا حتى مطالبة والدك بذلك، وترى الصورة قاتمة إلى الحد الذي تغلق فيه باب السفر إلى الخارج عل الله يفتح لك أبواب الرزق، إذن فأمامك مشوار طويل حتى تتمكن من القيام بما يقتضيه الشروع في الزواج، فهل تتوقع من تلك البنت انتظارا؟
لكننا قد نختلف معك في فكرة أنك ستعرض عن فرصة السفر إذا سنحت لك، فصحيح أن والداك سيحتاجان منك إلى رعاية، ولكنهما لن يقفا في طريق بنائك لمستقبلك وحياتك، ثم أن من الممكن أن تقوم أخواتك أو أزواجهن باعتبار ما هو كائن إن شاء الله (فادع الله أن يرزقهن بالزواج)، وعليه من الممكن أن تسافر وأن تسعى في طلب الرزق، ولا أحسب حتى أن التفكير هذه الأيام في هذا الأمر مطلوب أو ضروري، ما زال أمامك عامان من الدراسة، ولعل الاهتمام بالدراسة يؤتي ثمارا أفضل.
أما ما هو جدير بالتعليق في إفادتك فهو أولاً : كيف أنك استطعت أن تجعل من ميلك القلبي تجاه زميلتك، هاديا لك لا مضلا، وكيف أخذت من الحب أطهره، فرحت تصالح ربك وتزكي نفسك، وهذه شيم الصالحين،
وثانيا : أنك جعلت سلوكك المبني على هذا الميل القلبي منضبطا بإطار الشرع، والعقل أيضًا، فلا أنت الذي انساق في طريق قد يؤدي إلى ما يغضبُ الله، ولا أنت اندفعت في مطالبتك بالحلال وأنت بعد لا تملك نفقاته، فكل هذه مواقف تحسبُ لك،
وأظن في الله الخير لك، فقد يقضي الله سبحانه وتعالى للأمور اتجاها غير كل ما نستطيع حسابه أنت أو أنا، إذن أريدك أن تحسن الظن في الله فهو سبحانه يقول في الحديث القدسي، "أنا عند حسن ظن عبدي بي" (متفق عليه) ولاشك أن حسن الظن يدعو إلى حسن العمل
وقال ابن القيم رحمه الله: حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل: حسن ظنه بربه أنه يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله، وإلا فحسن الظن مع إتباع الهوى عجز، وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، ونسوا أنه شديد العقاب وأنه لا (يرد بأسه عن القوم المجرمين)
|
ولعل من المفيد لك أن تقرأ ما يرد على موقعنا مجانين تحت العناوين التالية:
السن المناسب للزواج
حسابات الحب والزواج: أهم من الفقر والغني
طالبنا وحيرته في أمر الزواج
بين الزواج والدراسة: خطةٌ معقولة حائر
نسأل الله أن يجزيك خير الجزاء على صبرك وإصرارك على الصلاح بارك الله فيك، وتابعنا بالتطورات الطيبة إن شاء الله.