الأنوثة المحاربة ..تصالحي معها
متابعة لاستشارة الانوثة المحاربة
إلى ا/حسن خالدي
أنا صاحبة استشارة الأنوثة المحاربة (14224)
لو قلت شكرا فقد بخست حقك ولكني أدعو الله أن ينير قلبك دائما بنور الحكمة والبصيرة وأن يرضى عنك، كما كانت كلماتك نورا لعتمتي، وكما أنفقت من وقتك واتسع لي صدرك لتحليل استشارتي وقراءة مابين سطورها والرد عليها.
سيدي... تأذيت كثيرا –من نفسي أكثر مما تأذيت من غيري - بسبب أفكاري والتقدير المنخفض لذاتي، وكنت أبحث عن أسباب ذلك لأعالجها فقد سئمت من حبس نفسي في قفص كالطيور وقد منحني ربي نعم لا تعد ولا تحصى لم أستغلها بعد ولم أتمتع بها حتى ولم أمتع غيري بثمارها، وأردت أن أتخلص من تلك الأفكار السامة وابدأ حياة جديدة بنضج ورضا وأتعرف على نفسي وعلى نعم ربي لي من جديد وكنت ابحث عن السبيل، وكانت واحدة من أهم وأكبر أفكاري التي تقتلني هي نظرتي للأنوثة وعدم تقبلي لها، وقد بحثت كثيرا عن أسباب عدم تقبلي لأنوثتي وحللت كثيرا أفكار ولكن -كالعادة- لم أصل إلى سبب جذري مقنع وشافي لي، إلى أن جعلك الله سببا في هدايتي لأفكار لم أدركها من قبل.
بالبداية أحب أن أشير إلى أنه ليس لدي إخوة من الذكور لدي أخت واحدة تكبرني بثلاث سنوات، نشئنا في أسرة محافظة . أب طيب ويقدر قيمة المسؤولية ويحبنا (أنا وأختي) ولكنه عصبي وكثير الانتقاد جاف في مشاعره يكتم حبه لنا ويظهره في صورة خوف شديد مبالغ عن الحد الطبيعي لخوف الآباء، وقلق وتضيق علينا خوفا علينا من العالم الخارجي (المتوحش الذي سيتسبب في أذيتنا لا محال) حتى ظننت في فترة مراهقتي أننا خُلقنا فقط ليضيق هو علينا حياتنا إلى أن كبرت وأدركت أن ذلك حبا وأن عدم كره لنا ولكنه حب متطرف نوعا ما، وأم حنونة تحاول أن تعوض النقص العاطفي الذي نحتاج له من والدنا ،وهي صديقة (لي ولأختي) ولكنها صديقة مستمعة أكثر منها متكلمة (في السطور القادمة سيتضح معنى جملتي هذه) أسأل الله أن يعينني على برهما ما حييت.
أسرتنا مستمرة حتى اليوم لأجلي أنا وأختي فقط ولولا وجودنا لانفصل الأبوان منذ زمن لاختلاف طبائعهما ومعتقداتهما لدرجة لا تسمح تقبل كل منها عيوب ومميزات الآخر، بمعنى أن العامل المشترك بينهما هو الأبناء ومسئوليتهما تجاههما وفقط.
ولا أدري حقيقة متى ستهدم أسطورة أن يتحمل الأباء بعضهما البعض في عذاب وكبت وسجن لحريتهما تحت شماعة الأبناء (وهنا يأتي دور الكلمة الشهيرة وهي "أنا اتحملت كل ده عشانكم" مع أن في حقيقة الأمر مواجهة الواقع والعالم الخارجي بقرار الانفصال أصعب من القرار نفسه فتستمر شماعة تحمل العذاب والكبت من أجل الأبناء هي مجرد شماعة ترضي الضمير وتطمئن الخوف وسبب لا يلوم عليه العالم الخارجي الأباء)، فينشأ الأبناء في بيئة غير سوية وتتجذر وتتغذى فيهم معارف ومعتقدات خطأ إلى أن تمر السنوات وتتضح نصب أعينهم حقيقة أن ما تم تغذيته بهم طول حياتهم كان خطأ بعد أن يٌقضي على الأخضر واليابس ويصبحوا مجرد مسخ، فمنهم من يتقبل تلك الحقيقة لرفضه الكذبة التي عاش بها ويصارع معتقداته ويصلح ما تم إفساده قدر استطاعته وتصبح معركته معركتين وهي معركة الداخل والخارج ومنهم من لم يستطع تقبلها لأنه لا يستطيع أن يقر أن ما تم تغذيته به خلال سنوات حياته كان كذب فينكر هذا ويكمل في طريق (الكذب) الذي غذي به.
أعلم أن النية حسنة من الآباء ولا يتربصون الشر بأبنائهم بالتأكيد، ولكن أعتقد أن قرار الانفصال لا يقتضي بالضرورة انفصال الآباء عن احتواء أبنائهم سواء ماديا (قدر استطاعتهم) أو معنويا مع تمتع كلا منها بحريته فهو انفصال للزوجين فقط لا انفصال عن الأبناء، ففي كل الحالات سيقع ضرر لا محال على الأبناء ولكن اختيار أقلهما ضررا مع بقاء قدر من الاحترام والاحتواء والرعاية والمسؤولية هو المطلوب أو هو السبيل سواء عن طريق استمرار الأبوين معا أو انفصالهما لا عن طريق كبت وتعذيب أنفسهم وأبنائهم معا
.
المهم... حتى لا أطيل عليك بتفلسف في غير موضعه، وسأحاول الاختصار قدر استطاعتي، أتمتت عامي الـ 28 وأنا حقا لا أعرف ما هو مفهوم الأنوثة الصحيح؟! كل المفاهيم عن الأنوثة التي مررت بها مشوهة.
أبي دائما يصدر لنا خوفا من العالم الخارجي وأنه لا يجب لنا الوثوق في أحد، ويصدر لنا أننا (بنات) يعني مطمع وأكثر أذية من البنين وأننا بؤرة الزلزال الحساسة كما ذكرت حضرتك، بدون قصد كان يخوفنا من كوننا بنات، وأنا كنت طفلة شديدة البراءة عكس أختي واعية نوعا ما، وطبقا لبرائتي كنت محل خوف أكبر لديه، تحذيراته كثيره جدا على مستوى عام، وأكثر خاصة من أفعال الرجال ولكن بشكل غير مباشر.
ذكرت لي حضرتك أن فرح أمي وقت بلوغي كان أمرا طبيعيا (بما أنها أنثى وعرفت كيف تسير الأمور)، وأنا لم أدرك سبب فرحها هذا لأني وقتها لم أعرف من أمر البلوغ شيئا اللهم إلا أن جميع النساء يحدث لهن شيء اسمه الحيض وفقط وهذا الأمر أيضا عرفته بالصدفة، لا أدري ماذا يترتب على ذلك التغيير المفاجيء الذي يحدث للأنثى سواء فسيولوجيا أو نفسيا، فكنت أخجل من جسدي وأسعى لأن أخبيء معالم الأنوثة وبالتالي نظراتها كانت تزيد من خجلي ونظرات غيرها كانت تعريني، وأما ما تبقى من مسائل متعلقة بالبلوغ والأنثى عموما فقد عرفتها مع الخبرة ومع قراءاتي في فترة دراستي الجامعية، يعني ظللت سنوات أفكاري مشوهة بشكل مبالغ فيه إلى أن تحسنت بشكل معقول نسبيا عندما وجدت سبيل للعلم والمعرفة دون تعرض نفسي للأسئلة المحرجة فأٌحرج نفسي وأتسبب في إحراج أمي بالتبعية أيضا، وكذلك الحال بالأمور الجنسية ظلت بالنسبة لي شيء مقزز ومشوه ويدعو للغثيان والخوف إلى أن قرأت بعض الكتب العلمية.
وحتى بعد قراءاتي لم أستطع التخلص من ربط مفهوم (الأنثى) بجسدها والذي كنت أخجل منه منذ فترة المراهقة. وبالتالي عند تعرضي لأي محاولات تحرش لفظي أو فعلي من صغري إلى أن كبرت كنت ظاهريا أقول أن السبب (الرجل المعتدي) ولكن بداخلي أعتقد أنني السبب أو ربما جزء من أسباب ذلك المعتدي بحكم كوني "أنثى"، وكانت تتأكد لي تحذيرات أبي ومخاوفه الدائمة التي كنت أعاندها وأرفضها .
وكان ما يزيد الطين بلة هي فكرة أن الرجال أهم شيء يحتاجونه في الأنثى أو أهم ما يشغل بالهم هو جسدها بحٌجة أن هذه فطرتهم وأنهم مجبولون على ذلك، فكرة تجعلني أرفض تفكير الرجال واشمئز من الأنثى في آن واحد، لأنني أعلم أن العيب في تفكيري أنا منذ صغري لا في العالم الخارجي فلما يتأكد لي تلك الفكرة من العالم الخارجي يصبح الأمر لدي أكثر تعقيدا. فكيف بالرقة والنعومة والأنوثة الآتي ما إن نسمح بظهورها في الأول إلا وتوابعهن تصبح وخيمة، فكان لا سبيل للأنوثة التي لا ينتج عنها إلا كل دنس.
أيضا نماذج أراها حولي من طريقة تعامل "الذكور وليس الرجال" مع زوجاتهم، الأخوة عديمي المسؤولية وأختهم حاملة كل المسؤولية تجعلني لا أرى مفهوم الرجل الصحيح الذي خلقه الله وجعل في يده القوامة، وأيضا الكلام عن الأنثى في الخطاب الديني كان بالنسبة لي شيء سلبي وساذج وعقيم وكأنك تحادث طفل وتخاطبه على قدر عقله بكلمات عاطفية (بحكم إنهم كائنات عاطفية) لتلهيه دون محادثة واحترام عقله وفكره وذكاؤه.
ففكرة تصوير الأنثى بالحلوى إذا كُشفت حاوطها النمل والحشرات وإذا غطت بعُد عنها وحُفظت من شرورهم. أو الأنثى كالجوهرة التي يجب وضعها في قفص ذهبي وتحكم غلقه في سبيل الحفاظ عليه. وأغلب الخطابات الموجهة للمرأة لها مقابل للرجل أيضا ولكن لا يشاع ولا يذكر بنفس الكم والكيف فيتشدق "الذكور" لا الرجال "ببعض الأحاديث أو كلمتان مما يقولهم بعض المشايخ للمرأة كنوع من أنواع إثبات الحجُة أو سلب حق من حقوقها" باسم الدين.
أحيانا شرح صفات المرأة الحنية والعاطفة والضعف وأنها الكائن الحساس و...و... وتمجيدها بدرجة ساذجة تجعلني أرفضها أصلا وأرفض تلك الصفات (المقرفة)، وأرفض الخطاب وأرفض من يدعو لها، وأنا أقصد هنا أسلوب الخطاب نفسه وعرضه بطريقه ساذجة أو ناقصة غير مكتملة لا الشرائع التي أوجبها الله العدل الرحيم.
وأما ذاك الشاب الذي مال قلبي له فهو فقط شعرت معه أني (أنثى بشخصيتي وكياني) كلامنا كان لا يحمل أي تجاوز الحمد لله لأنني لم ولن أسمح له برفع الكلفة مطلقا بيني وبينه، ولكن التجاوز في وجهة نظري هو سماحي له بالكلام والحديث سويا وأنا اُكن مشاعر له من خلف أمي وأبي كنت أحس بالخيانة لهم وهم لم يعهدوا ذلك مني أبدا مع علمي وإدراكي وقتها أنه ليس ما أتمنى أنه لم يصلح لي ولكن كانت مشاعري هي المسيطرة وكنت أكذب ذاك الصوت اللعين، في صراع وازدواجية بين العقل والقلب، حتى هو كنت في نظره مجرد تسليه الله أعلم كان في يترصد شيء آخر أم لا .
كل تلك التعاملات مع (الأنثى) كنت أرفضها رفضا قاطعا، وبمرور الوقت كانت تتهدم قناعاتي أنه لابد وأن يوجد شيء أسمى من ذلك، شيء يتعامل مع كيان الأنثى، فمفهوم الأنثى أصبح عندي إما جسد أو خوف أو أن أمدحها وأمدح صفاتها ثم أستغلها في مواقف ما وأسحب حقوقها في مواقف أخرى، كل الطرق كانت تؤدي بي إلى التخلي عن المفهوم الذي كنت أحسبه موجودا وأبحث عنه ثم اقتنعت أنه ما هو إلا تفكير حالم ورومانسية زائدة مني ولابد من التعامل مع الأمر الواقع الذي أدى بي في نهاية المطاف إلى رفض أنوثتي وواقعي، وكنت أمر على لحظات تصالحي مع أنوثتي على أنها (لحظات) وتمر ولكنها لا الأصل ولا يمكن لها أن تكون الأصل لأني لو أطعتها ستسحقني يوما ما .
أعلم أن حساسيتي عليها عامل كبير في تصوراتي تلك لذلك كنت أرفضها لكثرة المبالغات الفكرية التي أرهقتني، فأنا حاليا أعمل على تقبلها والتعامل معها بشكل سوي وأسأل الله أن يعينني، فأنا أحرص ألا أؤذي بها أحدا بها وأصبح صيبيانية فعندما أتحسس من شيء أعلم أن من أمامي لم يقصدني بشكل شخصي (إلا من كان متعمدا) ولكن ما يؤرقني أني لا أعرف كيف أتصرف مع مشاعر الضيق بداخلي في تظل تنهش بي.
أريد أن أسأل سؤالين:
* قل لي بربك ما هي الأنوثة الحقة إذا؟ أريد أن أعرفها من وجهة نظر رجل موضوعي وبتجرُد وإنسانيه وهذا ما التمسته في ردود حضرتك في الاستشارات عموما كما تأكد لي في رد حضرتك في استشارتي السابقة.
* أريد أن أضع حجر الأساس بتجرُد تام ثم أكمل البناء بأي رأي كان يساعد في إتمام الفكرة، أعلم أني أثقلت عليك وأطلت ردي فأرجو معذرتي ومسامحتي بالله.
هل حقا فطرة الرجل غريزيا تجاه المرأة بالشكل الذي يتم تصديرها لي ولغيري؟ هل تلك الصورة صحيحة؟
وشكرا جزيلا لك سيدي
31/1/2018
رد المستشار
وعليكم السلام ورحمة الله، وأهلا بك مجددا على موقع مجانين يا "فيمل". وأشكر لك كلماتك الطيبة ومديحك.
تأملاتك في وضعك ووضع الناس وحال الدنيا، يصنع منك إنسانة عميقة لا تعيش الحياة ببساطة، وكثير من "التعثر أو التوقف" ناتج عن ذلك التعمق، الذي يبدو رائعا في فهم الدنيا وإمتاع العقل بذلك، لكنه قد يكون عائقا في المعاش اليومي.
ما قلتِ هنا عن الوالد (ولكنه عصبي وكثير الانتقاد جاف في مشاعره يكتم حبه لنا ويظهره في صورة خوف شديد مبالغ عن الحد الطبيعي لخوف الآباء، وقلق وتضيق علينا خوفا علينا من العالم الخارجي (المتوحش الذي سيتسبب في أذيتنا لا محال) حتى ظننت في فترة مراهقتي اننا خُلقنا فقط ليضيق هو علينا حياتنا) هي تلك التربية التي أشرتُ إليها في ردي السابق، خوف وتخويف للبنت لدرجة تفقد فيها التمتع والرضى بأنوثتها، لأنها ستلاحظ أن الأنوثة وصنف جنسها هو السبب في ذلك التحفظ والخوف، وستعيش لا بد صراعا معها بشكل خفيّ وهي صغيرة، لتألفه وتعيش به حتى ترشد، قد تشعر بالتناقض والخلل، لكن قد لا تكتشف سببه، كما حصل معك. لكن المهم هو المستقبل الآن، على ضوء فهم الذي مضى.
ما قلتِه عن قرار الانفصال، ترك عندي انطباعا مرحا، وأنا أقرأ قلت، أنت مما يكشف الحقائق المرّة، وأوافقك في شكليات هذه الحياة، لكنني في الوقت ذاته أتساءل عن موقفك من الفراق لو كنت حقا صغيرا وافترقا؟ ويعلم الله ما سيقع بعد ذلك من تأثير على النفسية، ومساركم وحياتكم بشكل عام، فقول ذلك الآن بعد نضجكم واستقلاليتكم، ووعيكم بما حصل، بعيد كل البُعد عن تفكيركم كأطفال ومراهقين ذوي نفسيات هشة، ومخاوف جمّة، يجهلون حقيقة العلاقة بين والديهما، ويتمتعون بذلك الجهل ولا يضرّهم، ما داموا موجودين معهما !
إضافة إلى أن قرارا مثل ذلك، في ظروف مجتمعاتنا، سيكون ذا ضرر بسبب التخلف الحاصل عندنا وضياع دور الدولة والمجتمع معا في تحقيق الاستقرار للأفراد، خصوصا النساء والأرامل واليتامى. بكلمات أخرى قد نكتشف حقيقة مرّة، لكنه يصعب علينا تغييرها بسبب أن الواقع له كلمته، ونختار أقل الأضرار.
وما قلتِ عن فساد الأبناء وتشوه المفاهيم عندهم، هل تضمنين غير ذلك إن انفصل الوالدان وصارت مصادر تلك المفاهيم أسوء من الأبوين أنفسهم، أو أحسن، لكني لا أرى في العائلات الممتدة والمجتمع إلا جهلا مركبا، وقد أخطأ الآباء ولديهم من الحب والعاطفة والنية الحسنة وتحمل المسؤولية الكثير، فكيف بغيرهم! إلا من رحم الله.
ونسيت أن الانفصال مع الاحتواء قد يكون شبه مستحيل، لأن الانفصال يعني حياة أخرى جديدة يبدأ بها الرجل والمرأة، وقد يتزوج الأب وينجب ويذوب في أسرة جديدة، وينسى القديمة ولا يجد لها لا طاقة مادية ولا معنوية، وحتى إن وجد طاقة مادية، فقد لا يجد المعنوية، ومن تتخيلين من الآباء يجمع بين حياتين ينبغي أن يكون صاحب تركيبة نفسية خاصة وغير معتادة !
نأتي على سؤال الأنوثة، ومخاوف الأب، في الحقيقة، هذا مأزق، لأن من تضيع بخطأ مع المخادعين، تتمنى لو كان أبوها أكثر حرصا، وها أنت تذكرين حرص الوالد، الذي غابت فيه الموازنة والذكاء في "صُنع المناعة" وشيء قليـــــــل من "المنع"، أعرف أنك تعذرينه لوعيه بما لم تكوني تعين به، ولتبعات ما قد يحصل مجتمعيا ونفسيا عليك وعليهم. وهذه هي الضريبة تشاهدينها، وأتخيل لو كنت أمّا ستقعين في نفس المأزق، هل تكثرين من جرعات الخوف والنصائح والتتبّع، أم تقللين منها؟ ! وإن اخترت أيا منهما هل ستدركين التوازن الحساس، حتى تعدلي الكفة؟ خصوصا أن الأطفال والمراهقين لا يتحدثون عن تصوراتهم ولا يسائلونها إلا القليل، يطالبون فقط بالمتعة والتحرر.
إن ما وصفت بشكل عبقري عن جدلية الخصال الأنثوية والسمات الذكورية، بطريقة تغذي تصورات الأنثى عن الرجال إلى تغذية تصوراتها عن الأنوثة، فتكرههما معا لترابطهما، هذا شيء مؤسف وحقيقي. ولم يسلم الخطاب الديني من هذا، لأن ببساطة خطاب ينطلق من تصورات شعبية أو ذكورية أو نسوية، ليجد استدلالات من الدين، والكل سيجد ما يبحث عنه في الاجتزاء والتأويل والسياقات الخارجة عن إطارها !
وما وصفت عن الخطاب الديني هنا (وأيضا الكلام عن الأنثى في الخطاب الديني كان بالنسبة لي شيئا سلبيا وساذجا وعقيما وكأنك تحادث طفلا وتخاطبه على قدر عقله بكلمات عاطفية (بحكم أنهم كائنات عاطفية) لتلهيه دون محادثة واحترام عقله وفكره وذكائه) هذا ما يُسمى mansplaining وهي كلمة مكونة من كلمة "رجل" وتفسير Explaining وهو ميول الرجال لتفسير الأمور مع خلفية أن المرأة لا تستطيع فهمها كما يفهمها هو، (السذاجة وطفولية وعاطفية الخطاب التي أشرت لها) مع أنها قد تكون أكثر منه فهما، لكنه يفترض أنها أقل لمجرد أنّها "امرأة" ! وهكذا تتداخل آليات سيكواجتماعية في صناعة الخطاب الديني، ولا ينتبه لها من يسمع له ويُنتجه ومن أنكر عليهم، اتهموها بمعاداة الدين والشريعة !
ولا بد أنك صرت حسّاسة لمفهوم الأنوثة، بل صرت حساسة لكل القوالب الاجتماعية الجاهزة وأنماط التصورات السائدة، وهذه المشكلة لا أراها متعلقة بشكل حتمي مع طريقة تربيتك، بل بسمات شخصيتك ومنطقك الخاص ونظرتك للأمور.
مأزق النمطيات التي ضيّقت عليك، وأنت تبحثين وسطها عن نماذج عقلانية ومنطقية تأخذ الأحسن من كل القوالب، مأزق معروف عند العقلاء في كل المجالات على ما أظنّ. هو مشوار صعب، ويقتضي التنقيب بأنفسنا بتعب وجهد، لعدم وجود ذلك النموذج جاهزا، كمن يريد أن يصنع شيئا خاصا به لا يجده في السوق، يجمع المواد، ويغير، ويطلب من بلد آخر، ويعدّل ويصير نجارا وحدادا وفنانا ! وهذا متعب. لكننا من جهة يحق لنا التساؤل عن دور التفكير المثالي في هذا كله؟ ألا يمكن لذلك الإنسان أن يستخدم ما يوجد في السوق دون أن يؤثر ذلك عليه وعلى الغاية من استعمال ذلك ؟ وهل يجب أن نغير طريقة تفكيرنا أو أن نغير واقعنا، أو أن ندمج بينهما قدر المستطاع متى أتيحت الفرصة؟! وهذا رغم معرفتنا أن ما نأمل فيه موجود حقا في أماكن أخرى، لكنه غائب عندنا، وما عندنا هو واقعنا لا ما عند الغير.
أما تعريفي للأنوثة، أراها مهمة ثقيلة صعبة عليّ، لأنّها قضية حساسة وعالمية، ورؤيتي قد تكون مخلة بتلك العالمية والاختلاف والعمق ! لكني سأحاول أن أجيبك عن بعض من ذلك، أولا، قضية بناء فكرة جديدة للأنوثة لن تأتي بمجرد الجلوس للتأمل والتفلسف، بل بتجارب حقيقية وسلوكات تغيرينها وتضغطين بها على نفسك، نوع لباسك، تفكيرك في بعض اهتمامات النساء، هذا هو دواؤك، أما مسيرة التأمل فلن تغير "الاستشعار النفسي" للأمر، وربما يزيد التفلسف الأمر تعقيدا لكثرة الاحتمالات والمفارقات.
ثانيا، الأنوثة في نظري هي أوّلا احترام وتقبّل للمحدّد الأول لها وهو الجسد، ومختلف أعضائه ووظائفه، بخصوصياتها واختلافاتها، مهما كانت نظرة المجتمع والرجال لها، فهي نعمة خاصة بالأنثى ولا ينبغي أن ينغص عليها تلك النعمة أحد.
والمحدد الثاني (إن سمحنا لأنفسنا بهذا الترتيب) هو عقليتها ونفسيتها وميولاتها، تتقبلها وترضى بها، وتتمتع بها دون أن تصل لدرجة الابتذال، ودون أن تتمنى أن تكون مثل الرجال، تتمتع بجنون النساء واهتماماتهم وترضي أنثوتها بالزينة والكلام واللهجة المناسبة لها، ولا بد لهذا من تماه مع نموذج مجتمعي، تختارين أرقاه بالنسبة لك.
رغبات الأنثى هي كأي رغبة، هي مشروعة ما بقيت في حدود المعقول وآدابنا، ولا أقصد بالآداب النظرة المحافظة المتوجسة، بل هي آداب تجعل الأنثى ترقى وتتصالح مع نفسها ولا تكون ضحية ولعبة في أيدي الرجال أو الإدمان، دون أن تشعر أنها حقيرة ومدنسة لمجرد أنها تتمنى وتحب وتشتهي، وكأن تلك الصفات لا تخص إلا الرجال، وكأنها ليست بشرا.
عيشي أنوثتك وكأنها لك وليس للناس ولا للرجال، وأن كل شيء نريد أن نتحمله ونحمله لا بد له من أضرار جانبية، لا تجب أن تغلب عليه فننسفه كلّه. أنوثتك هي أمومتك هي أخوتك، هي مقومات ارتباطك، يجب أن تفخري بها، وشيء من الغرور الأنثوي والشعور بأن لديك ما يرغب فيه الرجال قد ينفع ! وخففي الرقابة قليلا على حركاتك وتصرفاتك المتعلقة بها، ولا عيب في أن تعجبي الرجال فهذا يعني أنّك "أنثى" ! مهما حاول أحد إنكار مبدأ التجاذب على أساس الجنس وأن كلاما من قبيل، الأرواح والشخصيات كلام فارغ من جهة ما ومثاليّ، لأن الذي يقوله لن يقبل أن يتزوج من يراه قبيحا أو ذو شكل وجسد منفّر أو حتى بشرة منفرة، وأن الجسد والشكل لا يقل أهمية عن الشخصية والتفكير، كما أنّ شكل سيارتنا لا يقل أهمية عن قوة محركها وإلا شعرنا بالضيق !
أما عن ميول الرجال للنساء بالشكل الذي يصدرنه، لا شك أن فيه شططا وشهوانية بل وتجارة، في الإعلام والأفلام، وفي أخلاق الرجال المخزية، التي توضح أن الميول للأنثى شيء فطري نعم، لكنه مستخدم بطريقة مستفزة وفجة، فلا يعني مطالبتنا بالاحترام والوقار والكرامة الرجولية أننا نطالب أيضا بتغيير طبيعة الرجال التي ينكرها النساء ليصنعوا في نظرهم رجلا أخلاقيا، رجلا لن ينظر لهنّ لما يكون كما أرادوه وتخيلوه بذلك الشكل المثالي الساذج! ستبقى فطرة الرجال وتأثرهم بالصورة أكثر من النساء، وسيبقى الإغراء الأنثوي مصدر جاذبية لهم، ولذلك أرى الإسلام واقعيا في تشريعه للحدود والحجاب، مهما استنكر ذلك من يعارضونه، لأن الرجال لم يتغيروا حتى مع أكبر التقلبات الفلسفة والتشريعية، وتحولت السلوكات المباشرة والفجة لتحايلات ولباقة، ولم تقدم الحضارة الغربية شيئا في هذا الباب ! إلا إشباعا بطرق "قانونية" وأخلاقية في نظركهم، جعلت الرجال يترفعون عن الطرق الوضيعة، مع بقائهم في السعي نفسه للمرأة وجسدها.
إن قضية الحاجيات، قضية مشتركة عند النساء والرجال، لكن النساء يزايدون على الرجال بأن حاجياتهم حيوانية وجنسية فقط (وهذا غير صحيح خصوصا مع طول العشرة) وأنهنّ ذوات ميول رومانسية بريئة وإنسانية ! وهذه مزايدة تافهة في نظري، لأن الحاجة حاجة، توافق فقط أن الحاجيات مختلفة، بل ربما يكون الترتيب فقط هو المختلف ! فالحاجة للأمان والعاطفة والمال والحماية وسد الحاجات الجنسية طبعا، أصلح وأقرب لطبيعة النساء، والحاجة عند الرجل لمن تغريه وتخدمه وتسد حاجياته وتعطف عليه وتشعره بالحنان، ولن ندخل في مزايدة رصينة إلا إن تحول الميول والطبيعة إلى خلق سيء وعدوانية اتجاه النساء، وهذا هو الحد الذي نتفق عليه والذي نراه متجسدا بكثرة في مجتمعاتنا. على أنّ جزء منه راجع لسبب عدم وعي النساء بطبيعة الرجل والمصادرة عليها، حتى يصير الرجل وديعا حتى إن شعر هو بأن الأنثى تستفزه (وهي لا تقصد) بأنوثتها التي هي نقطة ضعفه، طبعا الحفاظ على كرامته وأخلاقه هو المطلوب بغض النظر عن البيئة .... إن كانت الحلوى عارية فلا تكن ذبابة ! والطرافة أن الرجال ينشرونها ولا ينتبهون أنهم يتهمون أنفسهم بأنهم ذباب ! كما أن المصادرة على طبيعة النساء من قبل الرجال بمطالبتهن بالكف عن طلب الرومانسية والإنصات والتفهم دون دوافع جنسية مثلا، أو عدم إظهار ولو ذرة من أنوثتهن التي لا بد أن تظهر، هي أيضا من عدم وعي الفروقات، وهكذا ينشأ صراع بين الجنسين وتغذيه التيارات والإديولوجيات، مع أنها قضية تعايش ! ووالله لن تكون غير ذلك، وأي صراع بينهما ستتيه الإنسانية فيه مهما كان المنتصر.
وللإنصاف أرى أن النساء أيضا، قد تأثروا بشكل أو بآخر، برغبة الرجال فيهم، ولا أقصد أعيان الأشخاص، بل ثقافة ونظرة مجتمعية، خصوصا في الأصغر سنا، الرغبة في رغبة الآخر صارت محركا قويا في مجتمعانا، ولو أنكرن ذلك التأثير والتفاعل، لكنه واضح جدا، ولست من النوع الذي يرى كل تزين للفتاة دعوة منها للرجال، ولا أستدل بحال المرأة داخل بيتها والفرق بينه وبين حالها خارجه، لأن رفع التكلف في اللباس والتصرف في البيت طبيعي ومنطقي، وليس دليلا إلا للمتحيّز ! لكن مع ذلك أرى أن التفاعل بين الجنسين له دور في بعض السلوكيات، وقد أفصحت تلميذات على أن مدرسة البنات أقل ضغطا عليهن من مدرسة مختلطة، وذكروا من الأمور التي تغيرت "اهتمامهن بمظهرهن" !
المهمّ، نظرة الرجال للنساء تكاد تكون مبرمجة، وفي ذلك الدافع نفسه بداية قيمة المرأة التي ترجوها، لكنها ليست نهايتها، وإن كانت نهايتها سيكون خلل كبير، هكذا بعيدا عن كل مثالية وحب للاستراحة من نظراتهم، وبعيدا عن كل تبرير لأفعال الرجال ووقاحتهم. كما أنّ قيمة الرجل توجد في حاجة المرأة لهم بشكل قد يكرهونه، وأقصد هنا الدعم المالي، والاعتمادية والحماية، لكن ذلك ما يجعله ذا قيمة عندها.
وأنا أكتب هذه السطور في منتهى الحذر، لخوفي من تعميم أو تضليل، أو إيصال فكرة ليست مما أقصده، خصوصا أن الموضوع ليس مما يُحاط به في عدة سطور، لكني حاولت جهدي وهذا ما حضرني الساعة، وأتمنى أن تجدي طريقك وراحتك، وأظن أن ارتباطك برجل يفهمك وترتاحين معه، قد يصحح الكثير من المفاهيم بشكل سلس وعمليّ وينهي رحلة التناقض هذه، ولا يُفهم من كلامي أنني أشير للزواج وكأنه حل سحري، بل قد يكون حقل تجارب حياتية ذات عمق وجداني، تشفي الغليل وتحسم السجال. لكنه إن كان زواجا سيئا سيكون كارثيا أيضا وذا نتائج عكسية..
وتمنياتي لك بالنور والاستقرار.
vويتبع >>>>>>: الأنوثة المحاربة ..تصالحي معها م1