وساوس عقدية : وخلافات فقهية م4
مساهمة في حوار «وساوس الطلاق» وما شابه من العقود
بدايةً هذه ليست استشارة، بل مساهمة مني في السجال الدائر حول «وساوس الطلاق»، وما شابه من العقود، من واقع تجربة عملية، وذلك على خلفية حوار دكتور «محمد الفضل الخاني» ودكتور «وائل أبو هندي» حول هذه المسألة.
فأنا مريضٌ بالوسواس القهري، ومن ضمن الوساوس التي ألمَّتْ بي «وسواس النذر»، وقد عانيتُ الأمرَّين جرّاء هذا الوسواس، الذي أصابني بعد قراءتي لفتاوى مفادها أن «النذر» يقع بالتلفظ بألفاظه الصريحة، حتى لو لم تكن هناك نيَّة، مثله مثل الطلاق، ومن بعدها أصبح ذهني مشغولاً بهذه المسألة، ثم بدأتْ بعض العبارات المتعلقة بالنذر، تقتحم ذهني، دونما استئذان، «وتحشر نفسها» داخل عقلي، رغم أنني لا أريد النذر أصلاً، وفي بعض الأحيان أشعر بأنني تلفظتُ بهذه العبارات، أو أشك في التلفظ بها، ويتراوح الأمر بين الشك وغلبة الظن فيما يتعلق بالتلفظ، وحاولتُ كثيرًا دفع هذه الوساوس، وجرَّبتُ طرائق عدة للتأكد من عدم تلفظي بشيء، مثل ترديد بعض الأناشيد، عند اقتحام هذه العبارات إلى ذهني، أو تثبيت لساني بين أسناني، وقد قيل لي، من الأستاذة «رفيف الصباغ» والدكتور«محمد المهدي»، ما معناه أن هذه الممارسات من شأنها أن تزيد من شدة الوسواس.
ونعود إلى حوار دكتور «الفضل الخاني» ودكتور «وائل أبو هندي». فمن أكثر الأشياء التي استرعتْ انتباهي في هذا الحوار أن دكتور «الفضل الخاني» يتحدث عن مريض يختلف تمامًا عن المريض الذي أشار إليه دكتور «وائل أبو هندي» في رده.
*فالمريض (أ) الذي تحدث عنه دكتور «الفضل الخاني» هو مريضٌ يجد نفسه تحت نير قلق شديد ووطأة دوافع قوية تدفعه إلى التلفظ بالطلاق «كي يستريح»، ثم يعاود الكَرَّة مرة أخرى ويتلفظ من جديد بالطلاق، وهكذا دواليك. وفي ظني هذا شبيه بمَن يوسوس، مثلاً في نظافة يده، فلا يهدأ له بال حتى يغسل يده، فيهدأ قليلاً، ثم يعود للقلق مرَّة أخرى، ويغسل يده من جديد، وهلم جرًا.
*أما المريض (ب)، الذي أشار إليه دكتور «وائل أبو هندي»، فهو مريضٌ يخشى التلفظ بالطلاق، ولا يجد على الإطلاق راحته، ولو وقتيًا، في التلفظ بالطلاق. ورغم إلحاح الفكرة، واقتحامها دون استئذان، والقلق الذي يشعر به المريض، فهو يسعى جاهدًا إلى عدم التلفظ بشيء، ولا يألو جهدًا في محاولة دفع هذه الأفكار، بل كثيرًا ما يحاول أن يتجنب حتى قراءة هذه الكلمة ومثيلاتها، حتى لا تستثار الفكرة بداخله، وكي لا يتلفظ بشيء، وهذا المريض يمثلني أنا شخصيًا.
*فلم يحدث قط أن لجأتُ إلى التلفظ بالنذر، وهو شبيه للطلاق في الحكم، كي أرتاح أو كي أتخلص من القلق، الذي يعتصر ذهني، فهذا لم يحدث قط، بل بالعكس فأنا أحاول أن أنأى بنفسي عن مقاربة هذه الكلمة، أو حتى وقوع عيني عليها بالصدفة، كي لا تستثير الأفكار بداخلي، ولا أعلم كيف لطبيب في خبرة دكتور «الفضل الخاني» أن تغيب عنه هذه الأطياف المتعددة لمريض الوسواس، وفكرة أن وسواس الطلاق لا يقتصر فقط على المريض (أ)، الذي يتلفظ بالطلاق «كي يستريح من الطلاق»، فهذا المريض ربما يكون لديه بعض الاختيار في التلفظ، وإنْ كان ذلك تحت وطأة الوسواس، مثل الذي يجد نفسه مدفوعًا لغسل يده تحت إلحاح الوسواس،
ولكن المريض (ب) يتجنب هذه الكلمة ومشتقاتها من الأساس، ويسعى جاهدًا إلى دفعها، بل لو أجبره أهل الأرض جميعًا على التلفظ بها، فلن يتلفظ بشيء، ولو حصل أيُّ تلفظ ففي الغالب سيكون سبق لسان أو سهوًا أو ما شابه، بل إنه لا يقتنع بسهولة بكلام الأطباء أو الشيوخ الذين يقولون إن طلاق الموسوس لا يقع لو تلفظ به، بل إنه لا يتقبل بسهولة ما يشير إليه بعض الأطباء من «التعرض للمثير وعدم الاستجابة»، فكلمة الطلاق ومثيلاتها، في نظر الموسوس، من التابوهات التي لا يُحبُّ الاقتراب منها، بل إن سبب وسواسه يُعزى في الأساس إلى خوفه الشديد من التلفظ بها، فكيف نقول إنه يجد راحته في التلفظ بها.
فهناك أطياف متعددة للمرض، ولا أعلم كيف لدكتور «الفضل الخاني» أن يغض الطرف عن كل هذه الأطياف، ويبني كلامه على حالة واحدة فقط، ولا أخفيكم سرًا أن كلام دكتور «الفضل الخاني» أثار في نفسي بعض المخاوف والقلق، وقد لاحظتُ أنه أثار أيضًا قلق موسوسين آخرين، وأصلاً مريض الوسواس «بيتلكك» كي يُحَمِّل نفسه المسؤولية، فلو أشار إليه معظم الناس بأنه من أصحاب الأعذار، وقرأ رأيًا واحدًا فقط يُحَمِّله المسؤولية، فلربما يتبنى هذا الرأي ويختاره، ولا يتورع عن جلد الذات، وتحميل نفسه المسؤولية، وإلقاء اللائمة على نفسه لا على مرضه.
وثمة نقطة أخرى، كيف يخفى على دكتور «الفضل الخاني» أن أدوية الوسواس في بعض الأحيان قد لا تفيد في القضاء على هذه الأفكار، وأن هناك حالات لا تستجيب للأدوية، وحالات قد تستجيب للعلاج المعرفي السلوكي، فماذا يفعل الموسوس إذا لم يستجب لهذه العلاجات.
*أما فيما يتعلق بالفتاوى، ومن يتصدون للإفتاء، فهم قد يتسببون، دون قصد، في مرض إنسان عندما يطلقون فتاواهم بوقوع طلاق الهازل، أو نذر الهازل، إذا تلفظ به الشخص، ولو بغير نيَّة، دون أن يوضحوا الصورة كاملة، الأمر الذي من شأنه أن يكون سببًا في إصابة بعض الأشخاص بالوسواس، لا سيما لدى من لديهم تربة خصبة وقابلية لذلك، وبصفة شخصية عانيتُ أيَّما معاناة جرَّاء هذه الفتاوى.
ولكنني عندما بحثتُ في كتب الفقه، وجدتُ كلامًا أراحني، وأظن أنه قد يريح إخواني الموسوسين، لذا فأنا أنقله إلى حضرتكم، فلعليّ أساهم بعض الشيء في تخفيف المعاناة عن إخواني الموسوسين، فلا يشعر بعذاب الموسوس إلا موسوس مثله خاض نفس التجربة.
[١] في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، لابن قيم الجوزية، ورد ما يلي:
"وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته : "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح; لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر; لكونه لم يرده، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته، بخلاف المستهزئ والهازل; فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له، بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود; فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل، والهزل لم يجعله الله ورسوله عذراً صارفاً، بل صاحبه أحق بالعقوبة، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، ولم يعذر الهازل"؛
[٢] وفي كتاب «زاد المعاد»، لابن قيم الجوزية، ورد ما يلي:
"وتضمنت أن المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به، فدل ذلك على أن كلام الهازل معتبر وإن لم يعتبر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمكره، والفرق بينهما أن الهازل قاصد للفظ غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب، وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصده المكلف أو لم يقصده، والعبرة بقصده السبب اختيارا في حال عقله وتكليفه فإذا قصده، رتب الشارع عليه حكمه جد به أو هزل، وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلفين فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصده"؛
[٣] وفي كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، لابن قيم الجوزية، ورد ما يلي:
"وكيف يطلق أو يعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق، ولم يطلق على الهازل إلا لتعمده فإنه تعمد الهزل، ولم يرد حكمه، وذلك ليس إليه بل إلى الشارع، فليس الهازل معذورا، بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي"؛
[٤] وفي «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية، ورد ما يلي:
"لابد في العقود وغيرها من قصد التكلم وإرادته، فلو فرض أن الكلمة صدرت من نائم، أو ذاهل، أو قصد كلمة فجرى على لسانه بأخرى، أو سبق بها لسانه من غير قصد لها، لم يترتب على مثل هذا حكم في نفس الأمر قط"؛
[٥] وفي كتاب «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان»، لابن قيم الجوزية، ورد ما يلي:
"قاعدة الشريعة أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاء، وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره، ويعذر بما لا يعذر به غيره، لعدم تجرد القصد والإرادة ووجود الحامل على القول"؛
*أما الحنفية الذين يرون وقوع «طلاق المكره»، فقد وجدتُ في بعض كتبهم ما يلي:
[٦] في كتاب «البحر الرائق شرح كنز الدقائق»، لابن نجيم [الحنفي]، ورد ما يلي:
"والإبراء عن المهر كالطلاق كما في البزازية، والطلاق وما معه يقاس على النكاح بخلاف البيع، والإبراء لا يصحان إذا لم يعلم المعنى كما في الخانية وأفاد أن طلاق الهازل، واللاعب، والمخطئ واقع كما قدمناه لكنه في القضاء وأما فيما بينه وبين الله تعالى فلا يقع على المخطئ"؛
[٧] وفي إحدى حواشي «البحر الرائق شرح كنز الدقائق»، ورد ما يلي:
"وما ذكره المؤلف هنا تبع فيه ما حققه في فتح القدير وهو ما حققه أيضا في التحرير فقال ثم من ثبوت حكم الصريح بلا نية جريانه على لسانه غلطا في نحو: سبحان الله واسقني أما قصد الصريح مع صرفه بالنية إلى محتمله فله ذلك ديانة كقصد الطلاق من وثاق فهي زوجته ديانة ومقتضى النظر ثبوت حكمه بلا نية في الكل أي الغلط وما قصد صرفه بالنية إلى محتمله قضاء فقط وإلا أشكل بعت واشتريت إذ لا يثبت حكمهما في الواقع مع الهزل مع أنهما صريح وإنما ثبت حكمه مطلقا في الهزل في نحو الطلاق، والنكاح لخصوصية دليل وهو حديث { ثلاث جدهن جد} وهذا الدليل لا ينفي ما قلنا لأن الهازل راض بالسبب لا بالحكم، والغالط غير راض بهما فلا يلزم من ثبوت الحكم في حق الأول ثبوته في حق الثاني"؛
[٨] وفي كتاب «رد المحتار على الدر المختار»، لابن عابدين [الحنفي]، ورد ما يلي:
"(أو مخطئا) بأن أراد التكلم بغير الطلاق فجرى على لسانه الطلاق أو تلفظ به غير عالم بمعناه أو غافلا أو ساهيا - أو بألفاظ مصحفة يقع قضاء فقط، بخلاف الهازل واللاعب فإنه يقع قضاء وديانة لأن الشارع جعل هزله به جدا فتح".
*ملحوظة: المقصود بكلمة «ديانة» هنا أي: «فيما بينه وبين الله تعالى».
*فهذه بعض الاقتباسات التي هداني الله إليها، بعد رحلة بحث طويلة، ستجدون بعضها في «المكتبة الإسلامية» بموقع «الشبكة الإسلامية»، والبعض الآخر في ثنايا فتاوى «الموقع ذاته». وما فهمته من الاقتباسات السابقة أن «القصد»، أي «قصد التلفظ وإرادة التكلم»، هو العُمدة، أو المعيار الأساسي، الذي تنبني عليه الأحكام، حتى مع الإنسان السليم. ومن أهم الأشياء التي أراحتني هو التفريق بين الهازل والمخطئ في الحكم، وأن الهازل يقصد التلفظ بخلاف المخطئ الذي ليس لديه قصد صحيح للتلفظ.
ختامًا، هذه مساهمة بسيطة مني في إذكاء السجال حول «وساوس الطلاق» وأمثالها، من واقع تجربة عملية، وأرجو عدم أخذ كلامي هذا، باعتباره أمرًا مُسلَّمًا به، فأنا لستُ فقهيًا، ولا مُؤهَلاً للفتوى، ولستُ طبيبًا، ولا مُختصًا بعلم النفس، بل أنا مريض مثلي مثلكم. وأرجو تصويبي إن كان ثمة خطأ فيما طرحته هنا، من الناحية الشرعية أو الطبية. وأكرر أنا هنا لا أتحمل أيَّ مسؤولية دينية أمام الله. فالقول الفصل، في هذه المسألة الحساسة، يرجع إلى «أهل الذكر»، من علماء دين وأطباء مختصين، وجلّ ما أردتُه أن أنقل إلى حضراتكم بعض ما وصلتُ إليه، بعد رحلة بحث طويلة، وإبحار في أمهات كتب الفقه، فلعلها تخفف بعض المعاناة عن إخواني الموسوسين، وسأكون سعيدًا لو استفاد بها حتى شخص واحد فقط.
وأسأل الله العليّ القدير أن يَمُنّ عليكم بالشفاء العاجل، شفاءً لا يغادر سقمًا، وأن يرفع البلاء عن كاهل كل مُبتلى بهذا الداء العضال، عافاني الله وإياكم، والسلام ختام.
2/8/2018
رد المستشار
الأخ الفاضل "محمد" أهلاً وسهلاً بك على مجانين وشكراً على ثقتك ومتابعتك الدؤوبة مع خدمة الاستشارات بالموقع، ثم على مشاركتك الدسمة العظيمة الفائدة في هذا الموضوع الشائك.
أحييك كذلك على فهمك العميق وتدبرك فيما تقرأ ... حيث تبين النصوص الفقهية التي أوردتها إلى أي حد تكون سماحة الشارع وتفهمه للأحوال الإنسانية المختلفة، وأنا شخصيا ممتن لك جداً على هذه النصوص.
مثلك أنا لست مؤهلاً للإفتاء ولولا انشغال أ. رفيف الشديد عن مجانين في الفترة الأخيرة لكنت أرسلت لها هذه الاستشارة... فهي الأقدر والأعلم ما تعلق الأمر بالفقه يا "محمد" لكن النص سيعرض وهي إن وجدت ما يستدعي تدخلها ستفعل ... أعانها الله ويسر عليها.
وأخيراً أهلاً وسهلاً بك دائماً على موقع مجانين فتابعنا بالتطورات .
واقرأ أيضًا:
وسواس الطلاق والخلع والزواج
ويتبع : وساوس عقدية : أساليب علاج ذاتية م6