السلام عليكم وبركاته...
أنا طالبة في الثانوية العامة مسلمة ملتزمة الحمدلله، أعاني من اكتئاب شديد من حوالي ثلاث أو أربع سنوات، وتوتر من سنتين، حاولت انتحر عدة مرات وكان الرادع هو الإيمان بالله لا غير، كانت الطرق التي أفكر بها القفز من طابق عالي، جرعة دواء زائدة، أو أن أرمي نفسي بالشارع كي تدهسني إحدى السيارات.
أقلعت عن فكرة الانتحار لإنها فكرة محرمة في ديني، وحاولت علاج نفسي بنفسي لكن ليس هناك أي جدوى.
بداية سأتحدث عن علاقاتي .
مع عائلتي : جيدة جدًا، عندي العائلة شيء مقدس، فلدي استعداد أن أحمل كل همومهم ولا يرى مني أي أحد دمعة واحدة.
مع صديقاتي : أنا الصديقة المنقذة من المشاكل، والداعمة النفسية.
مع العامة : يروني لطيفة، ويقولون لي أنهم يستمدوا الطاقة الإيجابية مني ومن ابتسامتي، ويحبون رؤيتي على الدوام.
مع نفسي : أنا قاسية جداً على نفسي، ولدي عقدة الكمال.
أفهم نفسي جدًا ووعي الكامل بحالتي ونفسي أخذَ بي إلى دوامة الاكتئاب والقلق.
أما عن اكتئابي فهو رفيق الوحدة الذي لا يختفي، بدأ معي منذ الطفولة بعد أن حدث لنا حادث سير في عمر ال٤ سنوات، ولم يربيني أحد، فكنت أنا من أعلم نفسي، وأدرس وحدي، وأتعلم القيم وحدي، لم يعلمني أحد الصلاة تعلمتها بنفسي، ولم يشرح لي أحد عن الدين، بحثت عنه وقرأت عنه، لم يخبرني أحد أن هذا صحيح وذاك خاطئ، لكن ما ساعدني هو الكتب والقراءة، فكما ذكرت وحيدة منذ الصغر.
لكن بدأت معي أعراض الاكتئاب أو بالأصح نضج الاكتئاب في عمر ال١٤ تقريباً، حين اغترب أخين لي وأخت وأب بنفس الوقت، وعند عودتهم كنت قد صقلت نفسي وأصبحت صلبة لأي موقف.
كيف علمت أنني مصابة بالاكتئاب؟
عندما رأيت أن حياتي تعطلت، وأصبحت أعشق الوحدة والكتمان أكثر، لا شيء يشعرني بالمتعة، ولا هناك أي دافع لدراستي، وعلمت أن حالتي اشتدت عندما أصبحت لا مبالية بمستقبلي ولا أذهب إلى الامتحانات النهائية خوفاً من أن لا أحصل على علامة ممتاز.
وعرفت أنها اشتدت أكثر حين أصبحت أتجاهل كل شيء، ولا أتأثر بأي كلام فيه تفاؤل وأمل، كرهت الناس ونفسي، فقدت الشهية وفقدت حوالي ١٨ كيلو من وزني، وانقطعت عن التواصل مع الناس بشكل نهائي.فأنا لا أطيق أي نطاق وكلام وفضفضة.
بدأ التوتر عند اشتداد الاكتئاب علي، فأصبح أسلوب حياة، وبسببه أنهار، أذهب إلى المستشفى، يعطوني مهدأ في الوريد، وهذا الحال باستمرار كل شهر تقريباً.
نبضات قلب سريعة بكل وقت ولا هناك أي سبب عضوي في ذلك، إنه التوتر فقط.
يزداد التوتر في فترة الامتحانات فأصبح عاجزة على الدراسة ومشتتة الذهن والتركيز.
وأخيراً..
كل حياتي سوداء، وكل ما أحاول أن أخرج من حالتي أرى نفسي أعوض أكثر وأكثر، أكره الفضفضة والتحدث عن ما في داخلي.
مع العلم أن عائلتي اليوم كلها في البلاد وجميعهم على قيد الحياة، لم أذهب إلى أي طبيب نفسي في حياتي بسبب الوضع المادي السيء، فالاستشارات النفسية غالية جداً، وأبحث عن مستشار نفسي على الانترنت من مدة طويلة ووجدت موقعكم!
أتطلع لمساعدتي شكراً لكم..
وسامحوني على الإطالة
8/2/2019
رد المستشار
الإبنة السائلة:
أشفق والدي علي وأنا أختار تخصصي هذا، وتبين لي أن مساعدة الناس ليست مهمة سهلة، وقد لا تتوافر الظروف لترجمة النوايا إلى أعمال مباشرة!!
أشعر بالكثير من الاهتمام، وبعض العجز أمام حالات الشباب في المنفى.
مئات الآلاف، وربما الملايين يقبعون في سجون مختلفة الأشكال، أو بيني وبينهم أو بيني وبينهن أسوار عالية!!
ملايين من الشباب العربي – اليوم – يحتاجون إلى المساندة والمشورة النفسية ثم هم في سجون السياسة، أو سجون العادات والتقاليد، أو في منافي المهجر البعيد، أو تحول أحوالهم المادية دون طلب المساندة والحصول عليها!!
هذه رسالة جامعة أفتح بها الحوار حول هذه الشرائح، وكلامي هنا عنكم، وإليكم حيثما تكونون.
أولاً: ينبغي تنحية الكثير من القوالب السلوكية، والعادات الضارة، والأنماط المسمومة في التفكير والممارسة تجاه الذات!!
ومن هذا قولك: العائلة شيء مقدس، فلدي استعداد أن أحمل كل همومهم...إلخ
من ناحية هذا اهتمام محمود في أصله لكن تقديمه على الاهتمام بالنفس هو من البؤس والتخريب وانعدام المسؤولية الذي تتربى عليه ويدمرنا!!
هذا إجرام في حق النفس تصفق له مجتمعات جاهلة بالدنيا، والدين، والنفس، والحياة السوية السليمة!!
أنت المسئولة الأولى والأخيرة عن نفسك لا عن عائلتك، ولا يمكنك تقديم أية خدمة أو مساعدة خالصة مستمرة لأحد إلا بعد إصلاح عالمك الشخصي الذي يحتاج وقتاً، وجهداً، وتركيزاً.وأرجو أن تحتشدي للإنتباه لحالك، وتساعدي نفسك أولاً فهذا هو السبيل – إن شئت – لتكوني المنقذة من المشاكل، والداعمة النفسية، وحمالة الهموم للأسرة، والصديقات!!
ثانياً: من أهم ما تحتاجين إليه هو التعامل مع ركام التشوهات والتخاريف التي تخشونا بها أساليب وبرامج التربية في الأسرة والتعليم والمجتمع، وتخاريف الإعلام والتوجيه والأرشاد، وهي كثيرة، وتحتاج إلى تكوين نقدي في العقل والذوق يتيح أمامك الفزر الدقيق لما هو سائد وشائع، وأكثره غث وضار، ومربك، ويحمل القليل من العسل. والحق مخلوطاً بالكثير من السم والأباطيل، وهذا التكوين النقدي يأتي من اكتساب المعرفة، ومن إيقاظ الروح، ومن صقل المهارات الذهنية والاجتماعية، ومن الاهتمام بالوجدان والمشاعر، والانفتاح على الإبداع والتجريب، وخبرات ممارسة النقد والتطوير فمثلا تتحدثين عن الصلابة النفسية، وكأنها هدف، أو مكسب!!
والأدق والأنفع أن نتدرب على "المرونة النفسية"، وليس الصلابة، ولا الاستسلام للهشاشة في نفس الوقت!!
وحتى معرفتك التي تتوهمينها عن نفسك، وعن الحياة، فإنها تحتاج منك إلى مراجعات... تعالي نتفكر كيف يمكن أن تحصل!!
ثالثا: ابحثي عن إية برامج دراسية متاحة حولك سواءا في دورات جامعية نظامية، أو بالانتساب، أو في برامج دراسية على الانترنت، ومنها برامج عربية، ومنها برامج بلغات أخرى!!
الهدف هو تحصيل معرفة منظمة منهجية بالعلوم الإنسانية: على النفس، علم الاجتماع، علم الإنسان (الأنتربولوجيا)، علوم التربية، الفنون بأنواعها.
ستكون هذه العلوم أرضية قوية، وخلفية جيدة ومهمة لفهم الذات، والتعامل مع الحياة، ولا نوجد مسلمات، ولكن كل شيء مفتوح للسؤال والمراجعة، والنقد، والتطوير!!
وأقل من هذا ستكون القراءة هي جهد المقل، ويمكنك متابعة نادي مطالعة يكون متاحة في الجوار، أو مجموعات القراءة عبر الفيسبوك أو غيره، والهدف هنا هو الإطلاع على نفس العلوم، وأشدد على أهمية علم الأنثروبولوجيا الذي يبدو مجهولا للأغلبية رغم أهميته القصوى فهمنا لذواتنا، وثقافتنا، وأوضاعنا، ونواحي الخلل وسبل العلاج، وهو يتقاطع مع علم النفس، ويستعين به لفهم ظاهرة الإنسان، والأنظمة المجتمعية، وتحليل البيئة المحيطة بنا، وعلاقتنا بالخرين.
رابعاً: التكوين الروحي لدينا يحتاج إلى نقد ومراجعات، ومن ثم تعميق وتمتين، ويمكنني أن أرى الخلل الموجود في طقوس بل قلب، وعبادات بلا روح، وإيمان مؤسس على الخزف من العذاب، أو الرغبات المؤجلة في الإشباع بدلا من إيمان يرتكز على الحب والاتصال بالله والكون، والأخرين، رغم أن كل شيء هو منه سبحانه، وإليه يعود!!
لا تكفي القراءات في التكوين الروحي، ولكن لابد من التجريب، والخلوات، والصمت، والمناجاة، والتأمل الفردي، والجماعي، وستجدين حولك دوائر من الروحانية القديمة مثل طرق التصوف، والروحانية الجديدة المتصلة بخبرات من أديان وثقافات أخرى ، ومرة أخرى فإن الفلترة مهمة، والقرأن دليل إلهام وإرشاد، وصاحب أمين في رحلة البحث عن الذات، وإيقاظ الروح.ولا يتفصل عن هذا التدريب على التركيز، والحضور الجسدي، وهو متاح عبر أشكال وممارسات التحريك مع التأمل، وهنا تفيد دروس اليوجا، وكافة تدريبات الإعداد للأداء الدرامي، وتدريبات الأداء الحركي!!
ستجدين حولك من هذه البرامج الكثير، وليس الهدف من الأستعانة بها أن نحترف التمثيل الدرامي، وستجدين بعضها تحت عنوان "برامج إعداد ممثل"، ولكن الهدف هو استعادة الصلة المفقودة بين الجسد، والعاطفة، والروح، ومن ذاق عرف، وعبر الممارسة سيتضح لك ما أحاول قوله أو وصفه هنا بالكلمات!!
وتحمل حركات الصلاة الخاشعة بعضا من هذا التدريب والوصل بين الجسد، والروح، والمشاعر، والحضور أمام الله مع آخرين، وأتطلع إلى اليوم الذي يستعيد فيه الناس هذا العمق، وذلك الكنز المخزون في عماد الدين، وعموده!!
التكوين الروحي يحتاج إلى جهد، ووقت، وصحبة مؤنسة ومساندة.
خامساً: التواصل مفتاح هام لكثير مما نبحث عنه، وللتواصل مستويات أولها النفس ثم تبدأ بالتواصل مع الناس، والانفتاح على العقليات النشطة، والنفوس الحية، والتجارب المتنوعة صار بلا حدود، وتخلف البيئات المحيطة بنا في درجة الانفتاح والتفاعل، وكثافة الركود والقيود، وبعد استيفاء إمكانات الواقع فإن الفضاء الرمزي الأثيري، والتواصل الأليكتروني يبدو بلا حدود!!أصبح متاحاً أن نتراسل ونتواصل ونتبادل الأفكار، ونشارك الخبرات، ونصقل المهارات، وأن نتعلم من التجارب.
ثورة الاتصالات هي ثورة معرفية ثقافية بالاساس، رغم أن أغلب العرب يتعاملون معها بوصفها فرصة للترفية والتنفيس لمن الحرمان، والكبت السياسي والجنسي فحسب، وهنا اختصار واختزال وابتذال!!
وأنبهك إلى أن التطوع ثقافة وباب ذهبي آخر لذلك إبدأي في توسيع دائرة البحث حولك في واقعك عن أية دوائر أو أنشطة حية فيها تثقيف أو تدريب أو تفاعل أو تطوع أو دراسات نظامية أو حرة تفيد فيما تناولناه هنا، وكلها تصب في مجرى استكشاف الذات، وإيقاظ الوعي، والنضج، والتعافي النفسي بمفهوم أوسع من مجرد وصفات الدواء، ولعلك أيضا تجدين خدمة علاجية منخفضة التكاليف في جمعية أهلية، أو مؤسسة حكومية، أو تحت مظلة التأمين العلاجي للطلاب، ولا أحسب كل العلاج في بلدك هو علاج خاص في العيادات مرتفعة الرسوم، مع الأخذ في الأعتبار أن العلاجات النفسية غير الدوائية تشمل أطيافاً واسعة ستجدين المتاح منها عبر الأنشطة المختلفة،
وقد تجدين منها ما هو متاح عبر الإنترنت:
حيث القراءة علاج، والموسيقى علاج، والمعرفة والتواصل،
وتابعينا بأخبارك.