أنا فتاة في بداية الدراسة الجامعية
وأدرس في تخصص بالعلوم الإنسانية، وأعتقد أن لي أسلوبًا مميزًا ومتعمقًا في التفكير، وفي اهتمامي بمظهري، واختلاطي بالناس، وسأحكي لكم بعض الشيء عني وعن شخصيتي لتقولوا لي: هل أنا طبيعية أم لا؟!
أنا أرى شابًّا يلاحقني بنظراته في الجامعة، وألمح في عينيه نوعًا من الحزن والحب، وأحيانًا يرتبك حين أضبطه ينظر إلي، وأحيانًا لا يرفع عينيه عني.
هذا الشاب كان على صلة بفتاة أخرى، أو بالأحرى كان معجبًا بها، وحاول إعطاءها رقم هاتفه فرفضت، ومن المفترض في مثل هذه الحالة أن أبتعد عنه، وأصدر عليه حكمًا بأنه فاسد، ويعاكس البنات، وغير محترم، ولكن طريقتي في التفكير تدفعني إلى محاولة البحث عن أسباب أخرى لفعله هذا مع الفتاة، وأقول إنه ربما يحبني فعلاً، وهذا سبب ارتباكه أمامي، ولأنه لم يلاحقني، أو يحاول إعطائي رقم هاتفه، ثم أرد على نفسي بأنه ربما يحاول استخدام طريقة جديدة في المعاكسة من بعيد.
أنا لا أحاول الدفاع عنه، ولا أجد في نفسي إلا ميلاً أعتقد أنه تراجع بعد معرفتي بما فعل مع الأخرى، ولكنني هنا أصف لكم أمثلة لطريقتي في التفكير، والاهتمام بالتفاصيل؛ فحتى الكلمة التي قد تصدر عن أحد بطريق الخطأ أهتم بها، وعندي أفكار وصلت إليها، وأعتبرها نظريات أو قوانين من كثرة تفكيري فيها، ومنها:
- الإنسان يفسر نظرات الآخرين له حسب ما بداخله هو، وليس كما يقصدون هم بداخلهم غالبًا.
- الإنسان يحس بمشاعر الآخرين تجاهه حتى لو لم تصدر عنهم أفعال أو تصرفات تعبر عن هذه المشاعر بوضوح.
- الناس يعرفونني بأكثر مما أعرفه أنا عن نفسي؛ لأن الناس يلاحظون ويرون التصرفات، وأنا لا أستطيع الكلام عن نفسي، بينما هم يستطيعون الحكم على تصرفاتي..
فهل تتكرمون بالرد علي؟
وسأكون في انتظار ردكم بفارغ الصبر.
23/2/2019
رد المستشار
ما تصفينه في إفادتك عن طريقتك في التفكير، هي طريقة توجد عند الكثيرين من الناس تتميز بعدم القدرة على إهمال أي من التفاصيل الصغيرة، وبتقليب الأمور على كل النواحي، بعض الناس يفكر بهذه الطريقة أحيانًا وبغيرها أحيانًا أخرى، أو يفكر بها في مرحلة من حياته وبغيرها في مراحل أخرى، وبعضهم يفكر بهذه الطريقة في الأمور المهمة في حياته فقط، وبعضهم مثلما هو حالك يفكر بها في كل شيء!
ولكن لا تنسَى أنك الآن في مرحلة المراهقة التي تتطور فيها قدرات الإنسان المعرفية لكي يتمكن من التفكير التجريدي (أي القدرة على استخدام المعاني المجردة كمعطيات للتفكير)؛ لأننا في طفولتنا الأولى لا نستطيع التفكير إلا في الأشياء العينية أو المدركة بإحدى الحواس الخمس مباشرة مثل الكرسي أو القلم أو الكراس أو الباب أو الشباك..فهذه كلها أشياء نستطيع إدراكها بحواسنا الخمس، ولذلك نادرًا ما نختلف عليها كبشر، ولكننا بدءً من عمر الحادية أو الثانية عشرة نستطيع التفكير في المعاني المجردة،
أي التي لا يوجد لها مثال حسي في عالم الأشياء مثل الحق والحرية والديمقراطية والعدل والظلم؛ فليس هناك من شيء يمكن أن تشيري إليه وتقولي: هذا هو العدل، أو هذا هو الحق، أو هذه هي الحرية، وإنما يوجد فقط مفهوم للعدل في رأسك الصغير هو العدل بالنسبة لك، بينما يوجد في رأسي أنا مفهوم قد يشبه مفهومك، وقد لا يشبهه، ولكنه هو العدل بالنسبة لي، وعلى مثل هذه المفاهيم يختلف الناس؛ فكل طرف في معظم النزاعات يكون على حق حسب مفهومه هو للحق، وأكتفي بهذا القدر من التعريف بطريقة تفكيرك التي تسمينها فلسفة!
وأريدك فقط أن تتذكري أن هذا النوع من التفكير لم تكوني تستطيعينه وأنت صغيرة، وربما كنت متقدمة بعض الشيء على الأخريات، ولكن ليس قبل عمر التاسعة على أقل تقدير، المهم أن البعض في مرحلة المراهقة تعجبه هذه الطريقة في التفكير وتمتعه؛ فيعطيها حقها وربما أكثر قليلاً، وهذا ما أخمن أنه حدث معك يا عزيزتي، فأصبح الاسترسال في التفكير عادتك التي تستمتعين بها، وعرفت بذلك بين المحيطين بك؛ فصرت مشروع حكيمة صغيرة بينهم، ولكن ذلك ليس مرضًا إن شاء الله فلا تقلقي!
إن الفيصل عند تقييم سلوك معين لا يتعلق بطبيعة ذلك السلوك بقدر ما يتعلق بتأثيراته على الشخص المعني أو على المحيطين به؛ فإذا كان تفكيرك الكثير هذا يؤثر على علاقتك بالله عز وجل أو على دراستك أو على أدائك لالتزاماتك تجاه أسرتك أو صاحباتك أو جيرانك، فهنا يصبح الأمر في حاجة إلى تدخل علاجي معرفي، أما مثلما هو الحال معك عندما لا يزيد الأمر عن اختلاف في الرأي مع الآخرين بما لا يضر؛ فإن الأمر بسيط؛ فأين أنت من هذا المقياس، وهل تفكيرك هذا يعيقك عن أداء مهام حياتك؟! أم لا ؟!!.
وما أنصحك به هو أن تستغلي تلك الهبة من الله عز وجل بتنمية معارفك ومعلوماتك، حاولي أن تستغلي تلك الطاقة في تكوين المرأة المسلمة التي تكون كما أراد لها دينها عالمة عاملة، وكما تفرضه على كل ذات دين ، حالةُ أمتنا الحالية (التي لا تسر إلا عدوًّا حقودًا). وأعود الآن إلى الإجابة على بقية النقاط التي كتبتها كأمثلة على طريقة تفكيرك أو نتائجها:
أولاً: حكاية الشاب الذي شغلك، وتؤكدين أنه موضوع لا يهمك وإنما ذكرته لنا فقط من أجل التمثيل؛ فأنا لا أستطيع الحكم طبعًا على قصده من سلوكه، لكنني أرى مثلك أنه يجب عدم إعطاء هذا الموضوع أكثر من حقه؛ لأننا لا نستطيع معرفة ما بداخل الآخر، خاصة عندما يكون راغبًا في إخفائه وقادرًا على ذلك، حتى وهو قريب يجلس معنا، وحتى لو كنا أطباء نفسيين، نعم لا نستطيع إلا وضع افتراضات كذا أو كذا، وهذا الكلام يتعلق بالشخص القريب؛ فما بالك بالبعيد؟ أي الذي يعاكس من بعيد!
عليك إذن أن تفكري فيما تحتاجين إليه في هذه المرحلة من حياتك، وأنت الآن في مرحلة البناء؛ فاستمري فيها، وفكري في تنمية قدراتك الواعدة؛ لأن هذا التفكير سوف يوصل إلى أشياء كثيرة جيدة كلها بإذن الله ، وأما التفكير في مقصد الشاب الذي يعاكس من بعيد، فلا يوصلك لشيء كما جربت، وقلت بنفسك في إفادتك، فلا تشغلي نفسك بشيء بعيد، وغير مفيد، واستثمري طاقتك الذهنية في أشياء أهم.
ثانيًا: حكاية زلات اللسان التي أشرت إليها، فهذه واحدة من الظواهر التي تحدث للناس، ويضربون عليها المثل في مصر بقولهم بالعامية المصرية "كلمة الحق بتطلع الأول"، وأنا لا أعرف تاريخ هذا المثل المصري للأسف، لكنني أعرف أن فرويد اعتبر هذه الظاهرة من الظواهر التي تشير إلى وجود عالم اللاوعي، مع أنني لا أرى الأمر يحتاج إلى تفسير باطني كتفسير فرويد، ولا أرى ما يمنع من كون هذه الظاهرة ناتجة عن الصراع (الذي لا يشترط أن يكون لاواعيًا) ما بين اضطرار الشخص للكذب وبين عدم رغبة الشخص في الكذب، أو لعلها الأعضاء التي تميل بفطرتها إلى الحق، بينما الأفكار تحاول تنحيتها عنه، وهذا اجتهاد أنا مرجعه الوحيد، وقد يصيب وقد يحيد!
وثالثًا: حكاية تفسير الإنسان لما يراه في عيون الغير بالشكل الذي يريده الإنسان (الذي يفسر)، وليس بالضرورة كما يقصده الغير من نظرته؛ فنحن فعلاً في الكثير من الأحيان نفسر ما حولنا بالشكل الذي نحبه ونتمناه، ولكن في حدود بالطبع، فكلنا مثلاً لا يرى الكثير من عيوبه التي يراها الناس، وكلنا على استعداد لأن يخدع نفسه أحيانًا، ولكن هذه كلها ليست قوانين عامة يا صغيرتي؛ فلا هي بالشاملة ولا هي بالدائمة، وإنما تعرض للناس أحيانًا.
وإن كانت هناك نظريات تصل من مثل نقطة البداية التي تبدئين منها تلك (وهي إدراكنا للواقع بالشكل الذي نريده لا كما هو الواقع في الأصل)، إلى استنتاج أن الواقع الحقيقي شيء غير الواقع الذي ندركه نحن بحواسنا، أي أن شكل البرتقالة مثلاً ليس بالضرورة شكلها الذي نراها به نحن! وأظن من الممكن أيضًا أن نقول: إننا ندرك الواقع قدر استطاعتنا، أي قدر استطاعة حواسنا ووسائل إدراكنا دائمًا، وفي بعض الأحيان يظهر لنا ما يبين لنا عجزنا عن إدراك كل شيء، وليس الأمر إذن فقط أننا ندرك كما نريد، بل أيضًا ندرك ما نستطيع أو قدر استطاعتنا.. فحواسنا محدودة القدرات.
رابعًا: قدرة الإنسان على أن يحس بمشاعر الآخر أو توجهاته نحوه رغم عدم لجوء الآخر إلى التعبير عن مشاعره، فأنا أقول لك: إن هذا أمر يختلف فيه الناس؛ فبعضهم يستطيع ذلك وبعضهم لا يستطيع، وتسمعين من يقول لك بأن قلبه دليله، أي أنه تعود أن يصدق حدسه في الناس، وتسمعين من يقول لك: "استفت قلبك ولو أفتوك" في نفس هذا الموضع أيضًا، وإن كان المثل الأخير يقال أحيانًا للتفريق بين الحرام والحلال أو الصحيح والخطأ، لكنك تسمعين في نفس الوقت من يقول لك: إن إحساسه خدعة، ومن الناس من يتعلم بعد أن يخدع مرة، ومنهم من لا يتعلم .
خامسًا: نظريتك التي تقول: "إن الناس يعرفونني بأكثر مما أعرف به نفسي"، ليس الأمر كذلك بالطبع، والصحيح أن تقولي: إن الناس ربما يعرفون عن بعض عيوبي أكثر مما أعرف أنا، وهذا حالي أنا أيضًا، وحال جميع الناس؛ لأننا لا نرى الكثير من عيوبنا كما قلت لك من قبل. ونفسية كل إنسان يا صغيرتي نستطيع تقسيمها نظريًّا كما يلي:
1- جزء يعرفه الشخص عن نفسه، ويعرفه الآخرون عنه، وهو واجهتنا الاجتماعية التي نصنعها بإرادتنا.
2 - جزء يعرفه الشخص عن نفسه، ويخفيه عن الآخرين، وهو أسرار هذا الشخص.
3 - جزء لا يعرفه الشخص عن نفسه، ويعرفه الآخرون عنه، وهذا الجزء يمثل بعض العيوب التي يراها الناس في تصرفاته، ويعجز هو عن رؤيتها؛ لأنها تمثل تهديدًا لفكرته عن نفسه فيتجاهل إدراكها لها أو اعترافه بها.
4 - جزء لا يعرفه الشخص عن نفسه، ولا يعرفه عنه الآخرون، وهو ما يقابل العقل الباطن أو اللاوعي كما يسميه بعض علماء النفس. فلا نستطيع بعد أن نقول: إن الناس يعرفون الشخص أكثر مما يعرف هو نفسه، إلا إذا كنا نقصر قولنا على عيوب الشخص.
في النهاية أشكر لك إرسالك لهذه الرسالة الرقيقة الأنيقة التي سررت بها كثيرًا، رغم أنك قلقة بعض الشيء، وأنا أطمئنك، وأذكرك بما نصحتك به وهو استغلال طاقتك تلك في الاطلاع، والاستزادة من المعرفة، وفقك الله وتابعيني بأخبارك.