معضلة؛
يتوجه إلي كثير من الناس بالشكوى من المس أعالجهم إذا تيسر، لكن لما تكون المشكلة متعلقة بالحالات النفسية أو الاضطرابات النفسية أحيلهم على المختصين النفسيين وأشرح لهم أن حالتهم هذه نفسية محضة وأقنعهم بأنها وسواس قهري أو ما شابه.
لكنهم حين يسمعون مني هذا الكلام تزداد رغبتهم في أن أعالجهم نفسيا، لأنهم وكما يقولون الأطباء النفسيون عندنا أغلبهم (يساريون) يسبون ديننا الذي هو السبب، مثل أن ينهوهم عن الصلاة وغير ذلك، ويقولون لي بما أنك تفهم في الوسواس مثلا فساعدنا.
01/09/2003
رد المستشار
الأخ السائل العزيز أهلا وسهلا بك؛ وشكرًا على ثقتك بموقعنا، الحقيقة أن ما تثيره رسالتك من شجونٍ كثير، وشديد الوطأة على كل حريص على أمر هذه الأمة الضائعة، فأول ما تثيرهُ أنت هو قضية المس والتي يشوبها كثيرٌ من اللبس والغموض سواءً في الفكر الإسلامي نفسه وفي تفسير بعض المفسرين الكبار كابن كثير لآية سورة البقرة "رقم 275":
بسم الله الرحمن الرحيم (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) صدق الله العظيم، إذ يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، انتهى كلام ابن كثير.
وهناك أيضًا بعض الأحاديث التي يستندُ إليها بعض المدافعين عن المس باعتباره سببًا للأمراض النفسية، ولا أريد أنا هنا أن أدخل في جدل لا أرى له داعيا معك في كيف يظهر مس الشيطان على الشخص الممسوس أو ما هيَ أعراضه، فأنا كمسلمٍ يقرأ هذه الآية لا أستطيع بأي حالٍ من الأحوال أن أنكرَ أن هنالك مسا من الشيطان يصيبُ الإنسان، لكنني لا أعرف نصا من القرآن أو السنة النبوية المطهرة يبينُ أعراض وعلامات المس ولا أدري ما هيَ؟!
بينما أعرف أن هناك تراثًا كبيرًا من الأقاويل والأقاويل المضادة، هذا فيما يتعلق بآراء المفسرين والفقهاء وعلماء العقيدة (وكلهم من البشر غير المعصومين) وأعرف أن من بينهم مثل محمد رشيد رضا وهو أحد علماء العقيدة وأحدُ تلاميذ محمد عبده وهو الذي رأى في الميكروبات عندما اكتشفها العلماء رأيا عُدَّ غريبًا في عصره عندما قال: "والمتكلمون يقولونَ: إن الجن أجسامٌ حيةٌ خفيةٌ لا تُرى، وقد قلنا في المنار (وهي مجلةٌ كان يملكها) غير مرة: إنه يصحُّ أن يقال إن الأجسام الحيةَ الخفيفة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى "بالميكروبات" يصحُّ أن تكونَ نوعًا من الجن، وقد ثبتَ أنها عللٌ لأكثر الأمراض" وهو هنا يكاد يقول بأن التهاب اللوزتين بعدوى البكتريا هو مس من الجن!، وبعد مرحلةٍ من حياته غيَّر موقفه ذلك بأن أشار إلى أن إدخال هذه الميكروبات في مفهوم الجن إنما يصحُّ لغةً لا اصطلاحًا فقال: "وفعل جنة الشياطين في أنفس البشر كفعل مثل هذه الجنة التي يسميها الأطباءُ الميكروبات في أجسادهم، فتؤثرُ فيها من حيث لا ترى فَتُتَّـقى، وإنما ينبغي للعقلاء أن يأخذوا في اتقاء ضررها بنصائح أطباء الأبدان" وفي أخريات حياته عدل محمد رشيد رضا عن ذلك الرأي تماما ورجع رجوعًا صريحًا عما قال به قبل ذلك، لأنه أدرك خطورة رأيه ذلك بعد انتقادات العلماء له، وبعد أن أدرك أنه سيسمح لقائلٍ أن يقول أننا بعقار البنسلين أخرجنا الجن من حلق المريض!
وأنا بسببِ ذلك لكي لا أقول ما أضطر إلى الرجوع عنه يوما ما قدر إمكاني، وبسببِ تراكم تراثٍ مخجلٍ من أفعال المشعوذين والدجالين التي يحكيها لنا مرضانا كل يوم عن معالجين -يختلفون عنك بكل تأكيد- أجدُ نفسيَ مرغمًا على القول بأن المس غيبٌ لكنني أؤمن به كمسلم، وأعراضه كذلك غيبٌ ولا أعرفها، ولكنني أعرفُ بعض ما يهديني إليه ربي من خلال مشاهداتي اليومية مع مرضاي، ولا أعتبرُ الظاهرةَ ظاهرةً علميةً تنتمي لعالم الشهادة إلا إذا كنتُ أستطيعُ أن أكررها بنفس الشروط والملابسات مع مرضاي وهم من أتعامل معهم وأتعلم منهم.
وأدعوك أنت ومن هم في مثل استنارتك وجديتك وصدقك مع نفسك ومع الله إلى أن تجمع مشاهداتك التي يصح أن ندرجها ضمن موجودات عالم الشهادة -حتى وإن كان لها تفسيرًا غيبيا- لكي تمثل ما يمكنُ أن نسميه بعلامات وأعراض المس بشرط أن تكونَ قابلةً للتكرار إذا وفرت لها نفس الظروف والملابسات وجربت نفس الطرق العلاجية فبدا لك الشفاء وتحقق في الممسوس،
ولكي أعطيك مثلاً يبينُ ما أقصده فقد قمنا في دراسة سابقةٍ لنا بدراسة تأثير الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم على مرضى اضطراب الوسواس القهري الذين يتناولون العقار الدوائي المناسب في نفس الوقت فوجدنا الاستجابةَ للعقاقير أفضل في من يطبقون الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم خاصةً في حالات الأفكار الكفرية الاجترارية وبعض حالات تكرار الوضوء مقارنةً بحالات وسواس القولون وكان من ملاحظاتنا الجديرة بالذكر أن الأفكار التسلطية التي أمرنا سيد الخلق عليه الصلاة والسلام فيها بالاستعاذة كانت من أكثر الأنواع تحسنا بالاستعاذة مقارنة بالحالات التي أمرنا فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمنع الاستجابة مثل
* عن عبد الله بن زيد–رضى الله عنه– قال: شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام هنا لم يأمر بالاستعاذة وإنما أمر بمنع الاستجابة للفكرة التسلطية (الوسواسية) المتمثلة في أن الشخص قد خرج منه الريح.
وكانَ أهم ما استنتجناهُ من هذه الدراسة أن على الطبيب النفسي في مجتمعاتنا العربية ألا يغفلَ الكثيرَ من معطيات ثقافتنا العربية الإسلامية لا أثناءَ سماعه لخبرات مريضه ولا أثناءَ اقتراحه لطريقة العلاج، وأن واجبَ الطبيب النفسي العربي هوَ أن يستخدمَ كل وسيلةٍ من شأنها أن تساعدَ المريضَ في مواجهة مرضه، كما يجبُ ألا نغلقَ عقولنا على معطيات الطب النفسي الغربي على أنها كل شيء! لسببٍ بسيط هوَ أنها ليستْ كل معطيات الحضارة البشرية القابلة للتطبيق، فضلاً عن أنها لا تناسبنا إذا نحنُ أخذناها كما هي أي بشكلها ومحتواها الذي أبدعها به أصحابها، بل أضيفُ إلى ذلك أن لدينا الكثيرَ في تراثنا العربي، وأنا شخصيا أرى ما استطعتُ العثورَ عليه حتى الآن من التراث العربي جاهزًا للبناءِ عليه لكي يكونَ لنا إسهامنا الذي نستطيع فرضهُ على تطور الأفكار في الطب النفسي لأنه بحقٍّ جديرٌ بذلك.
ولا أخفيك يا أخي الكريم أني ما زلت لا أستطيع تكوين الرأي الكامل عن كثيرٍ من معطيات تراثنا العربي الإسلامي بسبب ما يكتنفُ ذلك التراث من تداخل والتباس، وتراكم للمعقول واللا معقول، رغم إيماني بأن في تراثنا الضائع ما كان حريًّا بفك كل التباس لو أنه وصلنا كاملاً ولكنها إرادة الله على أي حال، وأحيلك إلى قراءة إجاباتنا السابقة على صفحتنا:
التلبس بالجن مسرحيةٌ نعيشها حتى البكاء
الوسواس والحسد واللغة العربية
إضافةً إلى عدة مقالات مدرجةٍ في موقعنا تحت باب الطب النفسي شبهات وردود.
وأما النقطة الثانية التي تستوجبُ النقاش فهي ما يحدثُ من بعض الأطباء النفسيين من ذوي الاتجاهات غير الإسلامية أو غير الدينية وهم في كل مكانٍ وليس في بلادكم فقط، ومنهم حتى من يعتبرُ الدين دينًا والطب النفسي علم ويعتبر الخلط بينهما غير جائز، ومن هؤلاء من يسيءُ بالفعل إلى الدين ومنهم من يطلب طلباتٍ من مرضاه خاصةً في حالات الوسواس القهري وهي طلبات من العجيب أن تسمع من مسلم، مثل ما نسمعه من مرضانا كقول إحداهن كيف تأمرني يا دكتور بقراء القرآن رغم أنني أوسوس إذا فعلت ذلك والطبيب الذي قبلك قال لي لا تصلي ولا تقرئي القرآن حتى إذا كانت الوساوس تأتيك منهما! ولا أدري كيف لطبيبٍ مسلمٍ أن ينصح مريضه المسلم بالكف عن الصلاة، بدلاً من أن يستغلها في العلاج السلوكي والاسترخاء (أو الاطمئنان).
المهم لكي لا يطول الحديث بنا وأنا أعرف أنه بدايةُ تواصل ما بيننا إن شاء الله تكونُ مجلبةً للخير والتفاهم والهدى من الله عز وجل، فإنني أقول لك أن في البلد الذي تعيش فيه من الأطباء النفسيين ممن أعرفهم من خلال موقع إسلام أون لاين أطباء مسلمون ملتزمون سوف أدلك على أحدهم إذا طلبت ذلك، وفي النهاية أتمنى أن أكونَ قد أرشدتك إلى أردت التساؤل عنه وأن أحفز فيك عقلية الباحث المسلم الصادق الصدوق وتواصل معنا دائمًا وأهلا بك.