البالطو الأبيض هو من أحب......ولكن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكركم جزيل الشكر، وأعانكم الله على ما تبذلونه من جهد وجعله في ميزان حسناتكم... دكتوري العزيز ... الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي
أريد دخول الجامعة بعد فترة انقطاع عن الدراسة لظروف قاهرة مدة عشر سنين والتخصص الذي أريد هو بيت القصيد فأنا محتارة ماذا أختار؟؟؟ أود استشارتك فيه وكلي رجاء أن تمعن في المشكلة وتخلص في الرد علي وهذا ما أتوقعه من حضرتك فإني أرغب أن تضع نفسك في مكاني في هذا الأمر لأهميته بالنسبة لي .. فأنا طيلة حياتي كنت أحلم بالطب أعشقه كله دراسته..أدواته......رائحة المعقم ...علاج المرضى.. وحتى الجراثيم الطفيلية..وصديقتي الخلية والبنات في مثل سني يحلمون بالفارس على حصان أبيض وأنا احلم بالبالطو الأبيض..وجمع الدرجات تلو الدرجات لألبسه في يوم طالما حلمت به.........
أما الآن بعد مرور عشر سنوات فقد تغير الوضع، فالظروف غيرت من فكرة التخصص الذي أدرسه مع العلم أني مازلت أعشق الطب وأقدره بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني وأحترم كل من يعمل في هذه المهنة، وهنا أقع في الحيرة وأحتاج إلى المشورة وسأتكلم عن الظروف التي أرى أنها سبب لتغيير الدراسة:
أولا: مهنة الطب فيها اختلاط بالرجال وهذا مالا أريده وفترة الدوام يوميا يعني احتكاك دائم وهذا الأمر لا أريده، وأنا ولله الحمد ملتزمة باللباس الشرعي الكامل وهذا فيه صعوبة في العمل والحركة والأطباء الرجال والمرضى موجودون على الدوام.
ثانيا: أفكر في المستقبل كيف أوفق بين مهنة الطب -وأنا من النوعية المخلصة للعمل والمثابرة وغير مقصرة وهي مهنة تحتاج للوقت والجهد- وبين البيت والأسرة والزوج والأولاد وحياتي الخاصة...هل سيكون ضغطا علي؟ أم أنا مخطئة..؟
ثالثا:مدة الدراسة فالطب سنين الدراسة به طويلة وأنا بدأت متأخرة
فكل هذه الأسباب وأولها أهمها، وأسباب عامة أخرى تنحي دراسة الطب جانبا ..فأرى أن أختار تخصصا آخر لأن ظروفي لا تناسب الطب وإن كنت أحبه ...وأختار تخصص علم نفس فأنا أحبه أيضا ودائما أستعمل التحليل النفسي في حياتي وأقرأ عنه.. ومجالاته الوظيفية في المستقبل بعضها يناسبني..فهل قراري سليم؟
لأني أرى وضعي وأفكر أن الأنسب هو هذا الأمر وإن كنت أحب الطب.. ..... والتخصص النفسي فيه معالجه للمرضى أي ممكن القول أنه ابن عم الطب ......... ولكن يدور في خلدي أحيانا أني سأندم يوما على تركي الطب وأني أثكل نفسي بنفسي حين أتركه. فهل علي أن أكون جريئة وأتقدم لدراسة الطب وبالنسبة للوقت والجهد ومدة الدراسة فكل شيء يحتاج لتضحية ولا يحصل الإنسان على ما يريد بسهوله.ولكن بعد التخصص كيف أحل مشكلة الاختلاط؟
أشر علي يا دكتور وان كنت صائبة أم لا فإني أثق بك........ وأعتذر إن كنت قد أثقلت على حضرتك فهل لك أن تذكر كيفية الاختيار الصائب واتخاذ القرار بصورة عامة.
وشكرا على سعة صدرك ووفقك الله لما يحب ويرضى
إن كان لديك أي استفسار أنا جاهزة للرد عليه
30/12/2004
رد المستشار
الأخت العزيزة السائلة "أنا" أهلا وسهلا بك على مجانين وشكرا على ثقتك وإطرائك، أنا لابدَّ بالطبع أعرف من "أنا"، فإن سألتني: من أين؟ وكيف؟؟ فإن الجواب سيبدأ من أنا وينتهي عندك يا "أنا"، شكرا على اختيارك الذي أخشى أن "يلخبطَ الدنيا" في إجابتي أنا هنا.
الحقيقة أن ما تستنفره استشارتك هذه من نقاطٍ للحوار كثيرٌ وذو شجون في مجمله، فبعضه يتعلق بأوضاعنا كمجتمع ومفاهيمنا المبتورة الشائعة، والملغزة -من ناحية نشوئها وانتشارها- ويظهر ذلك الإلغاز بشكل خاص في سياق أصولنا الثقافية عند من يتتبعها ويتفهمها، ولعلني سأختار بعض النقاط وليس كلها لعلها تُسْتَنْفَرُ واحدةٌ إثر واحدةٍ قريبا في إطار المتابعة أو المشاركات في استشارتك هذه بعد ظهورها على الصفحة.
من الغريب منك أن تخفي سر ما عبرت عنه بقولك: (فترة انقطاع عن الدراسة لظروف قاهرة مدة عشر سنين)، ألا ترين ذلك يعني كثيرا لمن ستستشيرين في أمر اختيار دراسة الطبِّ أو غيره وأنت في النصف الثاني من العشرينات، عمرك 25-30 كما اخترته في خانة البيانات؟ أي ظروف قاهرة كانت تلك الظروف؟
لا أستطع "الإفتاءَ النفسي" في أمرك هذا حتى أعرف تفاصيل هذا وكل ما سيردُّ في سطوري من إشارات تنمُّ عن الاتجاه طبيا أو نفسيا ليس ردا عليك بشكلٍ خاص بقدر ما هو مناقشة مفاهيم وردت الإشارة إليها في استشارتك، ومحاولة لتقصيها ومواجهتها.
أطربني تعبير "صديقتي الخلية"، يبدو أنك كنت عِشَريَّـةَ الطبع منذ سنين عمرك الأولى وهذا جميلٌ ومناسبٌ لدراسة الطب وممارسته، ولولا سنك الحالي لنصحتك مباشرة به، لعلك تنعمين بالقرب دوما من صديقتك الخلية، لكن الأهم عندي الآن هو أول الأسباب الذي أشرت إلى أهميته أنت بقولك: (فكل هذه الأسباب وأولها أهمها، وأسباب عامة أخرى تنحي دراسة الطب جانبا)، فإذا به أن (مهنة الطب فيها اختلاط بالرجال)، من قال يا عزيزتي المسلمة الملتزمة لا يصحُّ أن تمتهنَّ مهنة فيها "رجال" وأسألكُ أنا يا "ستّ أنا" -بلا مؤاخذة يعني- لماذا؟؟ هل لأنهم عفاريت أم لأنهم شياطين الإنس أم لأنهم نار وبنزينك من النوع الطيار؟ مثلاً لا أكثر!!، لماذا؟؟؟ هل لضعف فيك – قواك الله- أم لضعف في بنية المجتمع؟
ثم إذا كنت كما تصفين نفسك (ولله الحمد ملتزمة باللباس الشرعي الكامل)، فإنك قد فعلت المطلوبَ منك وأكثر ليكون من الممكن أن تعملي في وجود "رجال" وذلك من ناحية الشكل، والباقي عليك هو المضمون السوي -والذي أتوسمه فيك يا أنا-، وأما قولك (وهذا فيه صعوبة في العمل والحركة) فإنني أرده عليك كلية لأنه غير صحيح ومن الدلائل ما يدحضه إذا أنت تذكرت ما رأيته من الصور فالمسلمة الملتزمة امتهنت كل شيء -محترم- ونجحت فيه، وبشكل عام أقول أن الالتزام بشرع الله لا يمكن أن يحول بينك وبين مهنة شريفة إلا أن يكونَ الخطأ في فهمك أو طريقة تطبيقك لذلك الشرع،
وأما قولك (والأطباء الرجال والمرضى موجودون على الدوام)، فعودٍ للعزف على العقدة الأولى التي أسميتها لابنتي التي كانت تفشُّ شعرها على استشارات مجانين: رهاب الرجال، وهي نفسها ابنتنا التي بعدما كانت -بهدلة-أصبحت-منار- ، والتعامل مع مثل هذه العقد يكونُ بإصلاح النفس والمجتمع أحدهما أو كليهما، وأكتفي بذلك في مناقشة مسألة اختيارك للطب دراسةً ومهنة من عدمه، تاركا الباقي لتشير إليه قصيدة لطاووس على إبداعات مجانين تحت عنوان: النفس...والطب!!، يعبر فيها عن معاناة لا ينتظرُ الواعي بعدها نعيما إلا أن يثيبه به الله سبحانه.
وأحيلك هنا إلى عددٍ من الردود السابقة التي تناقش نفس القضية على موقعنا مجانين، فقط قومي بنقر ما يلي من عناوين:
حيرة متفوق ، بين الطب والسعادة !
طالب الطب ، ورحلة الأهوال !
ضحايا الطب سابقا: خبرة. المرض والتعافي مشاركة
تطرحين بعد ذلك مقابلة بين دراسة الطب ودراسة النفس، وترين أن دراسة علم النفس قريبةٌ من دراسة الطب وامتهانها كذلك، وتقولين: (والتخصص النفسي فيه معالجه للمرضى أي ممكن القول أنه ابن عم الطب)، وأنا هنا أنبه أولا إلى أنه ليس في كل مجتمع يا عزيزتي يسمح للمشتغلين بعلم النفس بمعالجة المرضى،
ومجتمعاتنا ما زالت تتخذُ مواقف متباينة من المشتغلين بعلم النفس أو الطب النفسي على حد سواء، وإن كان للطبيب بريقا حتى ولو امتهن تخصص الطب النفسي خاصة في ظل تقلبات مفاهيمنا وممارساتنا الاجتماعية،
وثانيا من قال لك أن العلاقة بين ممارسة الطب وممارسة علم النفس العيادي أو الإكلينيكي (من جانب طبيب نفسي أو متخصص نفسي) هي علاقة ابن العم؟ واقع الأمر وحقيقته هي أن العلاقة -بعكس التصور السائد- هي علاقة بنوة!، وممارسة التأثير النفسي في المريض هي الأصل أو الأب وليس العكس.
إذا رجعنا بعقولنا وذاكراتنا إلى التاريخ سنجدُ فن المداواة والتطبيب كان خطابا نفسيا بالأساس، لسببٍ بسيط هو عدم معرفة سبب الشكوى (أو المرض) في معظم الحالات، فلا كانت الجراثيم معروفة ولا كانت عقاقير العلاج مفهومة إلا بالتجريب، وكانت كل التعاملات تعتمدُّ الأثر العلاجي لشخصية المعالج على المريض وتفاعلهما معا أساسا لكل العملية العلاجية،
وما حدثَ بعد ذلك على مرِّ التاريخ البشري هو باختصار أنه كلما عرفَ سببُ علة أو شكوى، وفهمت أو حتى خُمِّنَتْ آلية حدوثها بحثَ لها عن علاجٍ، فإن وجدَ أخرجت من عباءة المعالجة النفسية وأسكنت في سواها، وبقيت شكاوى غير مفهومة بالكامل بعد تركت ليحار فيها المهتمون بأمور النفس والغيب،
حتى أننا نقول لطلاب الطب وهم يدرسون الطبيَّ النفسي كفرعٍ من مجموعة الأمراض الباطنية وهي باسم الله ما شاء الله كثيرة العدد، نقول لهم ليس الطب النفسي فرعاً شجرة العلم الطبية بل هو الأصل، ولا فرع يستغني عن أصله إلا ويضيع.
وأما قولك في استشارتك (ولكن يدور في خلدي أحيانا أني سأندم يوما على تركي الطب وأني أثكل نفسي بنفسي حين أتركه)، فأقول لك لا ندمت على غالٍ يا عزيزتي، فكم يمكنُ أن يندم الإنسان في حياته على اختيار؟ ولكن المسلم الصحيح لا يصح له الندم إلا على وقوعٍ في حرام لم يستغفر الله منه!،
وإذا جعلت هدفك الأسمى في حياتك هو إرضاء الله فإن ذلك هو الطريق الذي لا تندمين فيه اللهم إلا بحكم طبيعتك البشرية، ولكنك سريعا ما تفيقين من الندم ولا تستسلمين، إذا كان العمل المأمول من جانبك هو أن تساعدي أصحاب الشكوى من المرضى أو المشتكين بشكل عام، فإن في ممارسة العلاج النفسي كأخصائية نفسية أو كطبيبة ما يناسبُ ما تأملين فيه من عمل، وعليك باختيار ما يتواءم مع شكل الحياة التي تريدين لنفسك وفي مثل ظروفك أنت كلها بحلوها ومرِّها، وخاصة في وجود "الرجال" جعل الله كلامنا خفيفا عليهم.
ولا أظنُّ سؤالك بعد ذلك (ولكن بعد التخصص كيف أحل مشكلة الاختلاط؟) بمتروك دون رد، فقد أجبت عليه أنا يا "أنا"، وأنتظرُ منك أن تقرئي وتفكري ثم تابعي معنا على مجانين.
ويتبع>>>>>> : الطب أم علم النفس بعيدا عن الرجال م