لملف العائدون من الخليج..
سيدي الفاضل/ الدكتور أحمد عبد الله قرأت قبل فترة في هذا الموقع الخارق للعادة مشكلة جديدة أضيفت لملف "العائدون من الخليج".. وقررت وقتها أن أكتب لك عني.. وعن صديقاتي.. خصوصًا وأننا جميعًا كنا أو مازلنا نعيش في ذات الدولة والمدينة التي كتبت عنها صاحبة الرسالة الأولى..
ضياع النشء هي الضريبة الأولى للغربة.. والموضوع عن المساوئ يطول ويطول.. وحطام في الكبار والصغار.. لكن.. يكفي أن الكبار قد ذهبوا بملء إرادتهم وكامل قواهم العقلية.. والصغار.. ما هم إلا.. ضحايا.. أبدأ بالحديث عن نفسي.. ثم عن صديقتين فقط من صديقاتي.. وهي نقطة في بحر مما يحدث في باقي العائلات للأسف المحبط المدمر..
وقبل أن أبدأ أبين أنني أتكلم عن شريحة معينة من المغتربين.. وهم الذين حاولوا الانسلاخ من وطنهم الأم بأي صورة كانت فخرج أبناؤهم ضائعين بلا انتماء أو هوية.. من زمان.. لا أعرف متى حيث أني من مواليد 1980 كانت هناك في بلادنا مشاكل حسب ما سمعنا ونحن كبار عن سبب غربة آبائنا.. الذين كانوا يؤكدون لنا أنهم أتوا إلى هنا.. لا لكسب المزيد من الدخل.. فكلهم أصحاب مراكز مرموقة وشهادات عالية في بلادهم وإنما جاءوا من أجل (الدين)... وهنا تكمل المشكلة.. لأن الذي جاء من أجل المال.. يكتفي ويعود. ولكن الذي جاء من أجل الدين.. يعلق أوهامه على سراب ويتوغل في الضياع..
أعذرني يا سيدي ربما لا أكون خبيرة في التعبير عن نفسي لأني أكتب بقلب متمزق عن أفكار وأشكال وأحوال مهولة.. مما حدث ويحدث يوميًا من الأهل (المتدينين) جدًا.. الذين جاءوا بالدين من بلاد ما وراء الأفلاك.. عندما كبرنا ووعينا وتعلمنا الدين الصحيح (جميعنا خريجات دراسات إسلامية) عرفنا أنهم لم يكونوا يعلمون عن الدين أي شيء... اكتفوا بالمظهر والعاطفة وبكل جهل أرعن.. مضوا في حياتهم ومازالوا يحطموننا كل يوم ويدفعوننا للانتحار بسبب الجهل والتعصب و (يظنون أنهم يحسنون صنعًا).. وحتى لا تتهمني بالجنون.. إذ كيف أقول ذلك عن أهلي وأهل صديقاتي فاستمع لمآسينا..
الغربة تجعل الإنسان محاصرا بالقلق والشك والريبة والحذر وربما تطور الحال إلى الذهان والجنون والتخلف (وهذا ما يحدث للكبار والحمد لله) أما نحن.. فلم نأخذ من الغربة إلا الانكسار وانعدام الأمان والحزن والكآبة.. وكلنا والحمد لله نعاني من اضطرابات نفسية عميقة منا من أرسلها أهلها إلى الأطباء النفسيين ومنهم من رأى في ذلك العار والشنار واستمر في مسلسل القتل اليومي.. وحتى تكون هذه الرسالة مواساة لصديقتنا الحزينة التي لم يبق من مشاكلها إلا إيجاد الشخص المناسب لبداية الحياة/التي ربما لم تفهم منها أي شيء مثلما كنا.. أقول لها أنني لما بلغت سن الذهاب إلى الجامعة رفضت والدتي رفضًا قاطعًا أن أكمل دراستي (حتى لا أسافر إلى مصر بلد الفساد) وكانت تحاربني بشراسة في ذلك وتحطمني إلى أبعد مدى تتخيلينه.. ثم رضخت أمام ضغوط من أهل والدي الذين كانوا يريدونني أن أسافر حتى أتزوج من أحد الأقارب.. وكنت أسافر (والله العظيم) أسبوعين الامتحانات في الترم.. باليوم والليلة ولا ينتهي اليوم الأخير إلا وأكون نائمة عند أهلي.. وبعد كل تيرم تهددني بالإيقاف.. تخيلي أنني كنت أذهب وأستلم الكتب (ليلة الامتحان) وكان يجب علي أن أذاكر وأن أنجح أيضًا بنتيجة مشرفة.. فأي ضغط كان وأي دمار.. وعندما لمحت برغبتي في الذهاب إلى المدينة الجامعية كإحدى صديقاتي كانت القاضية وأقيمت الحروب لمجرد اقتراح..
وأقمت عند خالتي الساكنة بجوار الجامعة يوصلني سائقها إلى باب الكلية من الداخل وينتظرني حتى أنتهي من امتحاني ويرجعني.. وانتهت الأيام.. وأرغمت من الزواج بقريبي برغم كل اختلاف بيننا.. واشترطت أمي أن يأتي لذات الدولة التي نقيم بها وأتى في مدينة أخرى وكانت أيامًا تعسة انتهت بي إلى طلب الطلاق والحصول عليه بعد مآسي فظيعة.. وطلبت من أهلي السفر والاستقلال بحياتي والعمل والحياة بعيدًا عن الحزن والكبت والأذى النفسي الذي لاقيته منهم طوال عمري.. فماذا كانت النتيجة؟؟؟
أبي يتهمني أني أقابل رجال وعندي صداقات وأريد السفر إلى مصر حتى يخلو لي الجو و(أصيع).. أمي تتهمني بالشذوذ وانحراف.. يحاولون تدميري بكل الأساليب.. ما تميزت في شيءٍ إلا وسخروا منه حتى يزيدوا في إذلالي وتحطيمي وهم بذلك يظنون أنهم يبررون لأنفسهم طلاقي ورجوعي إليهم مرة أخرى..
أنا الآن يا صديقتي الجميلة مازلت في نفس المدينة من 22 عامًا.. لو أقسمت لكِ أنني لو خرجت من البيت لا أستطيع العودة فلن تصدقيني.. لا أرى/ لا أسمع/لا أتكلم.. وأنتظر الموت ولا يأتيني..
صديقتي الأخرى بنفس ظروفي.. غير أن أهلها يتبعون مذهبًا دينيًا منحرفًا يقضي بتبديع كل شيء وتعقيد كل شيء وكانت والدتها ونحن صغار تمزق لي مجلات (باسم) عندما تراها عندي وترميها في القمامة أمامي ولا تهمها دموعي وتوسلاتي.. عرفتها من المدرسة من الصف الثالث الابتدائي.. تكبرني بعام تقريبًا ولكنها معي في نفس مرحلتي الدراسية.. تقدم لها رجل وهي في (الحادية عشر من عمرها) ونحن في الصف السادس الابتدائي وكان من جنسية أعجمية أخجل من ذكرها ووافق أهلها بحجة (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه) انظر إلى حجم الجهل والتحكم في مصير طفلة لم تبلغ بعد .. تزوجت صديقتي ونحن في الصف الأول المتوسط (الإعدادي) وفرضت علي أمي مقاطعتها لأنها (متزوجة) وكنت أبكي وأنا لا أفهم أي شيء لماذا يحرموني من صديقتي التي أحبها.. وكانت دائمًا ما تحكي لي وتبكي عن قوم تعيش بينهم لا يتكلمون العربية ويحبسونها في غرفة بلا طعام ويريد منها زوجها الذي يكبرها بخمسة عشر عامًا أن تتوقف عن الدراسة تمامًا وهي صاحبة الطموح المجتهدة النابهة (الأولى على المدرسة)..
بعد ثلاث سنوات اكتشف أهلها عدم مناسبة النسب.. فأبعدوا ابنتهم ب(خلع) وخرجت بطفل عمره أشهر وهي في الصف الأول الثانوي لم تكمل الخامسة عشرة.. من يومها إلى الآن وصديقتي تنال من العذاب المعنوي مالا يعلمه إلا الله.. فقد أخذ منها ابنها وهو رضيع.. ثم مرت فترات رفض أهلها ضمه إليهم لأن والده يرفض أن يصرف عليه.. ولم يخرج له شهادة ميلاد ولا أدخله مدرسة إلى أن أصبح في التاسعة من عمرة حتى اضطرت هي أن تخرج للعمل حتى تساهم في مصاريفه مع والدها ليوافق أبو الولد على تسليمه لهم ليعلموه.. والدها مشغول بحياته الخاصة جدًا.. والدتها متطوعة في العمل الخيري.. إخوتها يدرسون.. تجرأت في إحدى المرات وطلبت الاستقلال بحياتها فثارت عليها الثائرة.. هي خادمة في بيتهم برغم من وجود الخادمة.. إخوتها الأصغر منها لأنهم أولاد فهم يتحكمون فيها لدرجة (مراقبة دخولها الانترنت).. صديقتي الآن جثة هامدة.. انطفأت بهجتها.. ابنها في الصف السادس الابتدائي وكل خلجة من خلجاتها تقول متى الموت..
صديقتي الثالثة قضت بعضًا من طفولتها في مصر ولم تفتح عينها مثلنا على الغربة.. تخرجت من الثانوية هنا وعند دخولها للجامعة هناك فرض عليها والدها وأخواتها الأولاد عدم ذهابها للجامعة إطلاقًا.. فكانت لا تعرف أي شيء من المحاضرات أو الدروس وكانت تسافر شهور الدراسة: لتخدم أخويها الذين يدرسون في الجامعة وتطبخ لهم ولأصدقائهم طوال الليل والنهار.. لم تحتمل هذه الكآبة وقررت الرجوع إلى هنا وفصلت أوراقها من الجامعة لتلتحق هنا بجامعة تابعة لإحدى السفارات العربية غير معترف بها إلا في تلك الدولة العجيبة التي لا يمكن لها زيارتها بأي حال من الأحوال ولكنها.. جامعة والسلام.. في مأساة عدم الاستقرار... تقرر والدتها ووالدها كل يومين السفر أو البقاء.. وتظل حاملة حقيبتها بين المطارات.. تخدم هنا وهناك.. هنا مع نصف العائلة وهناك النصف الآخر.. فما أن يأتي متقدمًا لها عريس من هناك يعتذرون له بأن والدها هنا.. وما إن يأتي هنا حتى يثور شقيقها هناك.. وعلى أي حال فهنا لا توجد إلا العاهات المستديمة ولأحوال العرسان المغتربين هنا أشكال لا توصف ولا يتخيلها إنسان..
بعد اقترابها من الخامسة والعشرين لم يرحمها أهلها من التعليقات اللاذعة ولم يكفِ أنها مزعت بينهم حد الانتحار يعايرونها بأن كل من تقدم لها غير مناسب وأشياء من عينة /لن نصرف عليك طوال العمر/ هذا ليس بيتك/ ليس لك شيء هنا/ نهايتك أنك ستتزوجين رجلا فقيرا/.. ومسلسلات الشك الطبيعية.. جوالها يفتش/ جهازها حقيبتها.. مخافة أن تكون تعرف أي أحد أو تكلم أحدا لأنها ترفض كل من يتقدم لها ببساطة لأنهم غير مناسبين إطلاقًا.. لدرجة أننا عندما نفكر أن نخرج سويًا يتآمر الأهل علينا بإخراج كلمات مثل: خارجين والله أعلم رايحين فين؟؟/ خلاصة الأمر أن صديقتي ستسافر بعد يومين وتدعو إلى الله بابتهال أن تسقط الطائرة بها لأنها سئمت الحياة.. هذه يا سيدي نقطة من بحر .. وقد تقول لي في أحيان .. ما علاقة هذا بالاغتراب؟؟ فأقول لك..
الرجال هنا غير الرجال عندكم.. المصريون هنا أصبحوا مسخًا معقدًا بلا هوية.. كل هذا الظلم والتعسف والقتل والخنق.. اسمه تدين ومحافظة على الأبناء.. ولا أريد أن أذكر لك عن أبناء عائلات من هذه العينة إلى أي درجة وصلوا في الانحراف من وراء أهلهم وعندما أتيحت لهم الفرصة.. دائمًا ما أنادي وأهيب بكل من يفكر في السفر.. سافر.. ولكن بشروط..
1) : أن تتعلم الدين الصحيح القائم على الفهم وليس التطبيق الأعمى والعمل بظاهر النص عن جهل.
2) : إعطاء الثقة للأبناء وعدم الخوف عليهم بشكل مرضي بحجة أن الغربة تعلم الخوف.
3) : عدم مناقشة موضوعات الاستقرار هنا أو هناك أمام الأبناء حتى لا يشعروا بالتشتت.
4) : عدم إدخال الأبناء مدارس وطنية أبدًا لأنهم يغرسون لهم فيها الدونية والصغار ولا ينالون سوى الاحتقار والإحباط النفسي لمجرد أنهم مصريون.
5) : على من يريد السفر أن يفعل ذلك قبل زواجه أو إلى أن يبلغ الأولاد سن الخامسة على أقصى حد ثم يعود.
6) : يجب أن يكون متصلاً بالعالم لأن هذه البلد تعلم الصمت والقسوة.. وخصوصًا الاتصال بمصر.. وروح مصر.. ولا أقصد هنا التحزبات الوطنية وإنما الانتماء الطبيعي بالمكان الذي كانت فيه حياة الآباء وفيه الأهل جميعًا والأقارب الذين يتوجب علينا صلتهم وحبهم ومن حقنا أن نشعر بدفئهم وحنانهم ولأن الحديث ذو شجون.. وأخاف من الإطالة حتى لا تغلق دوني نافذة الإرسال أختم بالرغم من دمعاتي الحزينة التي تملأ وجهي..
وأدعو الله أن يثيبك يا سيدي كل الخير والأجر وأن يفك أسرنا وأسر جميع المسلمين.
11/2/2005
رد المستشار
كنت في الكويت، وعدت للتو، بعد المشاركة في مؤتمر عن التغيير ونهضة الأمة، وفي طريقي للمطار عائدا من هناك التقيت بصديق سبق وقابلته عندما زار القاهرة ووجدت فيه العقل الواسع، والخبرة وعمق الرؤية والنظر.
هو أكبر مني وأكثر عيالا، وقابلته هذه المرة في محل عمله، وكان بيننا كلام كثير أعتبره من أفضل ما سمعت مؤخرا، وكان من أقواله،:
يا أخي مصر ينبغي أن تتغير أحوالها، ولا أمل لنا بغير هذا، لأنه لا يوجد أصلا غيرها، إذا كنا نتحدث عن شيء جاد أو تغيير، أو تغيير حقيقي لأوضاع العرب. وهي نفس النتيجة التي وصل إليها كل فاهم أو حكيم سواءً صرح بهذا أو لم يصرح، ولذلك فإن نقاش جاد حول مصر والمصريين ينبغي أن يهم كل منشغل بمستقبل العرب.
ولن أنفق أي وقت أو جهد لأنفي عن نفسي أو عن موقعنا تهمة التعصب، أو الشوفينية، رغم أسفي لارتفاع الأصوات السخيفة أو المغرضة بدعوات ونعرات الانتصار للقطرية والمذهبية التي تملأ الآفاق الإعلامية والفضائية والإليكترونية، وتكرار ترديدها أو الانجراف لمعارك من هذا النوع إنما هو من عمى البصيرة الذي أعوذ بالله منه وأدعو الله أن يعافيكم من الكل: العصبية الجاهلية، ومن عمي البصيرة، ومن معارك الفراغ.
قاسو سطورك يه مثل واقعك، ومثل واقعنا كمصريين نعيش غربة مفروضة علينا في وطننا وخارجه، ومن قبل الكويت مررت علي كندا، لأرى كيف يعيش الشباب العربي في صقيع الشمال يلتمس الدفء في احترام آدميته هناك، أو في وجود شيء اسمه القانون، أو في مكاسب مادية بسيطة وهم يدورون في السواقي التي تروي أرض الغرباء لأنهم ليس لهم في أوطانهم مكان لائق!!!
ثم يخرج جاهل أو قليل الخبرة بالأحوال والأوضاع ليقول: لماذا يحلم كل شاب بالهجرة والاغتراب؟!!
والمصريون الذين عرفوا تاريخيا بالتمسك بأرضهم وعدم مغادرتها إلا لضرورة قصوى قد صاروا عبر العقود الخمس الماضية من الشعوب المرتحلة مثل أهل العراق ولبنان والمغرب وغيرها، فهل أروي لك لماذا حدث هذا؟! وهل أحاول مع صديقي د.جلال أمين الإجابة علي سؤال: ماذا حدث للمصريين؟!!
تقولين: ذهب الكبار بإرادتهم وفي كامل قواهم العقلية، وتأملي جيدا في تفاصيل الواقع الذي تعيشه أية أسرة مصرية متوسطة، والنماذج حولي وحولك كثيرة، وستدركين بعد تأمل بسيط، أنه لا عقل في المسألة ولا إرادة وأنت تشتكين من الحبس، ولكنك ربما لم تجربي الفاقة، ولم تعرفي معنى أن يعمل الزوج وتعمل الزوجة طوال النهار – وربما الليل أيضا - لسد الاحتياجات الأساسية لأسرة صغيرة من تعليم وعلاج وطعام وشراب وملابس.....الخ
الأحلام والتطلعات لأوضاع مريحة، وبناء بيوت وامتلاك سيارات كانت هي دوافع أجيال مضت، منها أبوك وأمك، أما أجيال اليوم يا فاضلة فتخرج بحثا عن موطئ قدم، عن رصيد بسيط يكفل بعض الراحة للبدن والنفس بدلا من الدوران في ساقية العيش، والعمل في مهنتين أو ثلاثة!!!
ولأن بلادنا مليئة بأصحاب الشهادات العالية فإن قانون العرض والطلب لا يكفل لهؤلاء المكان المرموق كما تتوقعين وتربطين، الفروق كانت وما تزال كبيرة بين الدخل هنا، والحياة هنا، والظروف المادية هنا وهناك، وهذا كان وما يزال –أي الدافع المادي– هو الأهم والأبقى، وإلا فقولي لأبيك وأمك أن يذهبا إلى بلد إفريقي أو آسيوي، أو غير ذلك من البلدان الفقيرة، فرارا بدينهم، وكوني واثقة أنهما لن يفعلا، وكل ما في الأمر أنهما مثل غيرهما اعتبرا الغربة هي "أرض الميعاد" وهي الملاذ، وأعادا صياغة مواقفهما من الحياة، ولا أعتقد أنه قد كان لديهما موقف أو مبادئ غير الكلام العام الموجود في رؤوس أغلب أهلنا عن القيم والأخلاق والمحافظة، وهو كلام قابل للطرق والسحب والتشكيل وإعادة الإنتاج حسب القالب المتاح، وهكذا يفعل الغرباء غالبا في كل مكان، طالما اعتبروا أنه لا يوجد لهم غير هذا المكان تحت الشمس.
تذكري أن أغلب شعبنا أصوله ريفية منغلقة، وعلاقته بالدنيا والدين مركبة فيها من الطموح إلي الراحة بعد التعب، وفيها التباس كبير بين ما هو عيب ولا يجوز، وبين ما هو حرام، أو أيضا ما هو السلوك الصحيح في شأن العلاقة بين الرجل والمرأة مثلا، أو ما هي الحياة الطيبة، أو صحيح الدين؟!!
وفي مناخ التشويش المستمر العميق، وفي دوران السواقي المتعبة، وفي توابع وتجليات الانكسارات العامة والخاصة يكون الدين هنا شيئا من الهروب أو محاولة الإمساك أو التماسك، والتشدد والجمود هو الاختيار الأفضل لكل منكسر هش، لأن الانفتاح يحتاج إلى حد أدنى من القوة ومن الوضوح ومن القدرة على المرونة والأخذ والرد، وهذا كله مفتقد كما شرحت توا.
بالمناسبة نفس اختيار التشدد والجمود اختاره أهلنا أو بعضهم من سكان الخليج الأصليين وغيرهم في ظل نفس المناخ من التغيرات في ظل ضخ إمكانيات مالية جاء بها النفط، وفي ظل قائمة طويلة من الأسئلة لم تنحسم عليها أية إجابات، وجاء الدين ملاذا لمصادرة الحوار أو بديلا عنه، ولقمع كل محاولة نقاش أو اعتراض أو شك في أن الوضع القائم ربما لا يكون هو الوضع الأمثل.
"لدين" كان وما يزال لدى أغلبنا شيء مثل التعاويذ أو التراتيل الكنسية التي يتلوها البعض لتسكين نفسه المضغوطة دون أن يتعمق في المعنى أو يبحث في الحكمة أو يفهم المقصد، إنه مثل الحفظ والتلقين والتسميع!!
وفي هذه الحالة لا تسألي عن المنطق، ولا عن العقل، ولا عن المعقول لأنها جميعا تمت مصادرها لصالح نوع من التجميد والاستغناء، عن التفكير والحوار والمساءلة الحقيقية. ماذا أقول لك؟!!
أمك مهزومة وهشة، وتخفي هذا وراء أقنعة الصلابة والتشدد، وأهل صديقاتك كذلك لا عمق في تدين، ولا فهم في شريعة، إنما هي العشوائية والفوضى في المفاهيم والسلوكيات كما هي أغلب حياتنا، والتعامل مع هكذا عقول يحتاج صبرا وضغطا ومجادلةً بالتي هي أحسن، يحتاج إلى حصار بالفكر السليم، وإصرار على دحض أطروحات التخلف باسم الدين دون أن نفقد الأدب أو الاحترام الواجب لمقام الوالدية فنقع في خلط نتلظى بممارسته علينا من الآخرين، وينبغي أن نترفع عنه نحن في تعاملنا معهم.
إن الخوف المرضي المستمر الذي يحكم سلوك الآباء والأمهات على مستقبل وأخلاق البنات، والشبان بشكل أقل، يحتاج منا إلى تفهم وإلى معالجة، والضغط جزء من العلاج، ولكنه وحده قد يضر أكثر مما ينفع، وحل مشكلاتنا المزمنة في الاقتصاد والثقافة والمجتمع مقدمات لازمة.
زارنا وفد من الأخوات الداعيات العاملات في بلد إقامتك يسألوننا النصيحة على خلفية خبرتنا في التعامل مع المشكلات والقضايا النفسية والاجتماعية، وشئت يومها ألا أتكلم لكن سؤالا مباشرا من إحداهن أخرجني عن صمتي: دكتور أحمد بماذا تنصح؟! فقلت لها: إن شئتن فالمطلوب أن ندعو الناس في كل أقطار العرب إلى البداية بشيء واحد فقط، فسألت: وما هو؟!
قلت لها: الكف عن الكذب، وبعد دقائق من الحوار حول قصدي من كلماتي قالت أخرى: أنت تعرف أن العديد من مجتمعاتنا يمكن أن ينهار لو كف الناس عن الكذب لأنه أساس حياة أغلب الناس في تلك المجتمعات، وأذهلني عمق استيعابها فقلت لها: الأفضل أن نكون نحن -الدعاة إلى الله وإلى صحيح الدين- من ندعو إلى المصارحة والمعالجة لأننا فيما يبدو نتخرج فنترك هذه المهمة لآخرين ينتقدون المجتمع من منطلق أن أمراضه إنما نشأت عن الدين والالتزام به، وأن الحل هو الانخلاع من الدين، وليس تصحيح أسلوب تناولنا له!!!
ليس هناك فارق كبير بين أن تكوني هناك أو هنا من حيث أن المعركة واحدة، والمهمة واحدة: مدافعة شديدة للظلم والتخلف وجمود العقل، وتغييب التفكير، والتلاعب بالشرع، ومواجهة مستمرة للشر في ثياب الواعظين، ونقد عميق يهدف إلى تصحيح المسار، وبناء ما نحتاجه من كيانات ومفاهيم وسفن تخوضي بها وسط أمواج العصر المتلاطمة، وساحة المدافعة تمتد من داخل كل نفس وبيت لتشمل كل ساحة ودائرة، وفي ذلك كلام كثير وأنت تشيرين إلى "روح" مصر، وكدت أن أقول لك أن هناك وراء هذه الركامات والمغالطات والعوائق والإحباطات، وراء المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وراء عجز واستبداد السلطات، ومحاولات الناس للتمسك أو التماسك فينجحون تارة، ويفشلون أخرى، هناك وراء كل ذلك شيء اسمه:
"روح مصر": تحتاج إلى من يعرفها ويميز ملامحها لأنها تائهة وسط هذا الضياع، وملتبسة بين دواعي التشويش، وممارسات التشويه.
"روح مصر": التي يؤذيها أبناؤها بالكثير مما يجرحها أعداؤها، ولكن الغريب الحكيم يلمسها ويدركها ويهيم بها مقيما أو مرتحلا!!!
"روح مصر": المبثوثة في هوائها الملوث الآن، وبين ثنايا تاريخها المجيد، وتفاصيل حاضرها الزاخم الذاخر الممتلئ بالإمكانيات كما الصعوبات.
"روح مصر": التي تحتاج إلى من ينفذ إليها فيوقظها، تنبلج ليرى الناس عجبا، يحررها من أثقالها وقيودها وضغط المشكلات المصنوعة والمتراكمة عليها.
أشكرك على رسالتك، وعلى لغتك، وأرجو أن يضمنا تحالف أسري لنعمل معا كل في محبسهِ حتى ننعتق جميعا، وتنعتق بلادنا من سجون الروح، ومعتقلات الجسد والله معنا.
ويتبع:>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> أبناء الصمت والقسوة: تغيير العالم مشاركتان