أريد أن أهرب لكن إلى أين ؟ م10
استفسارات عن الطب النفساني
الآن يا دكتور لدي أسئلة بخصوص الطب النفساني لحضرتك بما أنك أستاذ مخضرم في المجال.
أنا كما طرحت في مشكلتي السابقة مهتمة بتخصص الطب النفساني، لكن بنفس الوقت أنا واعية للتحديات التي تواجه المجال، حيث أن عدد الأطباء النفسانيين حول العالم في تراجع حسب أحد المقالات التي قرأتها، هناك عزوف من طلبة الطب عن اختيار هذا التخصص نظرا للوصمة الملازمة له. وهناك مقال بعنوان هل الاطباء النفسانيون كائنات مهددة بالانقراض؟!
لكن هل الوصمة وحدها هي السبب؟!
بصراحة من خلال بحثي ومتابعتي لعدد من الأطباء النفسانيين وجدت أنهم أنفسهم لديهم أقوال متضاربة فيما يتعلق بالطب النفساني. حتى أنني قرأت لأحدهم منشورا يقول به أن المرض النفساني ليس مجرد أعراض وأن طرق التشخيص الحالية بالية ويجب عمل ثورة في الطب النفساني وأنه سيأتي اليوم الذي يصبح فيه ال DSM من "الماضي الأسود للطب النفساني". و أنه وجب التركيز بشكل أكبر على العلاج النفساني والسلوكي وأن المرض النفساني ليس مجرد أعراض لكنني لم أفهم معنى وغاية هذا الكلام ،،، ألا يناقض هذا القول قولنا أن "المرض النفساني مثله مثل المرض العضوي مجموعة أعراض" ؟!
لماذا؟! لماذا يصبح مقياس التشخيص النفساني من الماضي؟! أوليست هذه الأعراض تصف بدقة الأمراض النفسانية وتفرق بينها؟! أيضا لدينا تحدي الدخلاء على المجال أو المنافسون وما أكثرهم! فمن أطباء الأعصاب الذين لا يترددون في تشخيص ووصف الأدوية للمرضى النفسانيين ويعتبرون الطب النفساني ما هو إلا باب أو مبحث في طب الأعصاب وهم ملمون به باعتبارهم ملمين بالطب العصبي، إلى المعالجين النفسانيين والذين أصبحت شعبيتهم تفوق الأطباء النفسانيين وذلك لأنهم يروجون لفكرة أنهم يعالجون دون أدوية ويأخذون هذا الشعار أنه نقطة في صالحهم لا عليهم! بأمانة الحدود مائعة قليلا بين المعالج والطبيب إذا كان المعالج يشخص اضطرابات واضطرابات شخصية ويعالج الإدمان والاكتئاب وغيره فما الفرق بينه وبين الطبيب؟! أنا أعلم الفوارق بينهما النظرية وهي الإجابة المعروفة عندما وبحث في أي كتاب في الفارق بينهما لكن على أرض الواقع ما مقدار اختلافهما؟! هل يقوم الطبيب بشيء لا يستطيع المعالج القيام به؟!
إذا قلنا أن الأمراض المستعصية كالفصام والذهان واضطراب ثنائي القطب تترك للطبيب فيما يعالج المعالج اضطرابات الشخصية وأغلب علاج الإدمان عدا الدوائي والقلق والاكتئاب فما نسبة هذه الأمراض المستعصية التي بقيت للطبيب ليعمل عليها؟! هذه النسبة الضئيلة المتبقية ألا تشكل تحديا أمام الطبيب النفساني ومستقبله المهني؟! هل يؤول الطب النفساني للانقراض يوما ويتم استبداله بالمعالجين وال life coach ؟! فيما يتدرب أطباء الأعصاب والممارسون العامون على الأمراض القليلة الباقية ويعالجونها باعتبارها أمراض عصبية وانتهينا؟! ،، رأي حضرتك في كون الأطباء لدينا يمارسون العلاج السلوكي المعرفي أليس تخصص الطب النفساني لوحده كافيا فلماذا يقومون بذلك ولا يدعون هذه المهمة للمعالجين؟!
لدي أيضا أسئلة عن طبيعة الأمراض النفسانية. هل جميعها مزمنة أم ثمة ما هو مزمن وما هو قابل للعلاج؟! لأنني أجد معظم الأمراض مزمنة كالاكتئاب والوسواس والذهان والفصام وغيرها. لا أجد ردا واضحا حينما يسألني أحد عن رأيي في العلاج النفساني ومدى جدواه وهل يشفى المرضى أم سيستمرون مدى الحياة؟! هل أحرز الطب النفساني تقدما كافيا كما حدث في بقية التخصصات الطبية؟! أو ليس بعد؟! هل الأدوية فعالة بما فيه الكفاية وإلى أي درجة أم تراها ما زالت تحتاج المزيد من التطوير والجهود؟! هل سيأتي يوم وينفصل فيه هذا التخصص عن كلية الطب ويستقل بنفسه أم لا؟! وهل نحن بانتظار يوم يتخلون به عن الطبيب النفساني ويستبدلونه بغيره فتدريب غيره يحتاج جهودا ووقتا ومالا أقل ... كلية علم النفس ٤ سنوات. فيما يدرس الطبيب النفساني ٧ سنوات طب على الأقل و٤ سنوات تخصص!
وماذا عن اختلاف الأطباء النفسانيين فيما بينهم وتعدد المدارس العلاجية على نحو كبير جدا وليس ثمة من لغة واحدة يتحدثها الجميع كما في أفرع الطب الأخرى. حتى أن مقياس DSM لديه ناقدوه من داخل المجال، ولا أفهم لماذا بعد. وهناك أطباء يقولون أن التدين لا علاقة له بالأمراض النفسانية وهناك من يقول أن التدين وقاية لكنه لا يكفل عدم إصابة الشخص بالأمراض وغيرهم من يقول أن التدين يزود من الأمراض النفسانية بسبب الشعور بالذنب.
رأيك الموضوعي بمستقبل الطب النفساني؟! وما هو بحاجة إليه ليستمر ويطور من نفسه؟! وهل الأمور تؤول للأفضل أم لا؟! لماذا مستحقات وأتعاب الأطباء النفسانيين حول العالم تعتبر الأقل نسبيا بين زملائهم الأطباء؟! هل عدد الحالات في الطب النفساني أقل من غيرها؟! ولماذا هناك عوز عالمي في هذا التخصص ومع ذلك ففرص العمل ليست قوية وليست مطلوبة كالتخصصات الأخرى التي تعاني عوزا مثل العناية والتخدير والطوارئ؟!
قرأت مقالا سابقا عن حاجة الطب النفساني لتغيير شامل والبدء بتطوير المسميات لإزالة الوصمة القديمة. بدءا بتسمية التخصص نفسه انتهاء بالأمراض ... لا أخفي عليك أن كل هذه التحديات عدم الوضوح هذا والتخبط الذي لمسته لحد ما والمنافسة الشديدة بين الأطباء والمعالجين وأطباء الأعصاب والصورة الضبابية ،، كل هذا يسبب لي القلق والحيرة ويجعلني أفكر أكثر وأتردد من موضوع العمل في هذا التخصص الذي أحبه جدا فلدي استعداد لتحمل تعب العمل لساعات طويلة ولدي بإذن الله شخصية تحتمل التعامل مع المرضى النفسانيين.
ولكني ذكرت مخاوفي في الاعلى فهل تنصحوني بالتوكل على الله ودخول هذا التخصص؟!
لكم جزيل الشكر.
7/7/2022
رد المستشار
شكراً على مراسلتك الموقع.
قبل ربع قرن من الزمان تنبأ طبيب نفساني بريطاني بنهاية الطب النفساني خلال عشرة أعوام٬ وكان يقدم برنامج على أريكة الطبيب النفساني أسبوعيا. كان هذا الطبيب رحمه الله من أعلام الطب النفساني. لكن بعد ٢٥ عاما تغير موقع الطب النفساني في العالم الغربي وأصبحت الناس لا تتحدث فقط عن الأمراض العقلية Mental disorders وإنما عن الصحة العقلية Mental health للشعب عامة وبسبب ذلك ارتفع استثمار الدولة في مجال الصحة العقلية أو النفسانية وتم استحداث اختصاص للطب النفساني العدلي٬ الطب النفساني للأحداث٫ اضطرابات الأكل وغير ذلك كثير. تنوع الاختصاصات في الطب النفساني لا يختلف عن تنوع الاختصاصات في مختلف فروع الطب والجراحة، لا يوجد جراح أخصائي في العظام والكسور وإنما هناك من هو مختص في اليد أو القدم أو الكتف وغير ذلك. لا توجد وصمة الآن للطب النفساني إلا في مناطق الجهل والتخلف.
حدثت قفزات هائلة في الطب النفساني والحديث اليوم عن الجينات والدوائر العصبية وغير ذلك. اليوم نفهم كيف يعمل الدماغ وما يحدث مع المرض العقلي. كذلك الطب النفساني أكثر من مجلدات تشخيصية وهناك فرق علاج كما هو الحال مع فرق جراحة وطب عام.
كل طبيب يجب أن يمارس ضمن ما هو معترف بكفاءته فيه٬ ولا يجب لطبيب عام أو جراح أن يشخص الاكتئاب أو الفصام ويعالجه وإنما يترك ذلك لمن هو كفء في هذا المجال.
الطب النفساني لا يزال على قيد الحياة ولم يختفي ولن يختفي.
وفقك الله.
ويتبع >>>>>: أريد أن أهرب لكن إلى أين ؟ م12