أكثر من مكان في وقت واحد
السلام عليكم ورحمة الله، بارك الله فيكم على كل ما تبذلونه من جهود جعلها الله في ميزان حسناتكم وسأطرح استفساري في شكل مختصر ألا وهو:
أنا عندي حاجة غريبة ومش عارفة أحدد إيه سببها أو مدلولها، هي مش بتحصل لي بشكل مستمر ولكن أحيانا وممكن نقول أحيانا كثيرة، وهى أني أكون بتكلم مع شخص أو أكثر من شخص في موضوع، أو حتى أكثر من موضوع وبتكون مواضيع مناقشة مهمة ومحتاجة تركيز في مناقشتها، وفعلا أكون بتكلم كويس جدا وبتفاعل مع الطرف أو الأطراف اللي قدامي وتمر المناقشة وأديرها بشكل لبق وأتفاعل معها كويس...... لكنى جوايا:
بكون حاسة إن فيه جزء من تفكيري في ذات الوقت في حته تانيه أو بيفكر في ذات الوقت في موضوع ثاني مرتبط بحاجه تانيه أو ممكن أحس إن فيه جزء منى مش معايا وفى مكان ما... لكن مشغول في إيه تحديدا؟ مش عارفه وما أعتقدش إن حد بيلاحظ ده عليا لأني مش بسرح بشكل كامل، ولا الحالة دى بيتاثر على مناقشتي وحواري بأي شكل.
لكن أنا اللي بحسها وعايزه أعرف إيه مدلولها لأني بقول لنفسي كفاية علي أفكر وأتكلم في مكان واحد وأجيد فيه ومش في كل الاتجاهات فيا ترى ما سبب هذه الحالة وإيه مدلولها وهل هي مرض أو مقدمة لمرض؟
وشكرا على سعه صدركم
مع رجاء أن يتفضل الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي بالرد على رسالتي وله مني جزيل الشكر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
25/03/2005
رد المستشار
الابنة العزيزة أهلا وسهلا بك على موقعنا مجانين وشكرا على ثقتك، أسعدتني إفادتك هذه ودعتني إلى التأمل طويلا، ورغم أنك لا تتحدثين عن اضطراب نفسي وإنما عن ظاهرة نفسية ما تزال غير مفهومة بالكامل بعد، وهي انشقاق الوعي أو الشعور بالوجود المزدوج Double Existence، والحقيقة أن ظاهرة التفارق أو الانشقاق Dissociation، والتي سأفصل لك بعض الشيء في شرح ما نفهمه منها في هذا الرد، ظاهرة جديرة بالتأمل والبحث.
لكنني تأملت طويلا في إفادتك لسببٍ آخر، أتدرين لماذا تأملت طويلا؟ السبب هو حضورك المبهر في السطور الإليكترونية، بحيث أنني بصدق أضعُ إفادتك بين إفادات قلائل لقيتها عبر عملي الإليكتروني -مستشارا نفسيا لكائنات إليكترونية أفترضها من خلال السطور- والذي بدأ منذ ثلاثة أعوام تقريبا، فأنا قابلت استشارات قلائل تعد على أصابع يمناي-من بين ما يقارب ألف استشارة تصديت للإجابة عليها-، تتميز بميزة الحضور الحي لصاحب الاستشارة رغم أن ما بيننا تواصل افتراضي أصلا، وكانت ذلك الحضور يظهر لي من أنني في مجمل أجزاء كاملة من الاستشارة وربما في مجمل استشارة كاملة لا أجد لدي رغبة متكررة للتساؤل والاستفسار لأن صاحبة السطور (وقد كن غالبا بل دائما إناث) تكونُ غطت الموضوع من جوانبه كلها بمنتهى البراءة والوضوح والإبهار مثلما فعلت، إذن أحييك قبل أي شيء.
ظاهرة التفارق أو انشقاق الوعي -أو ازدواجه الجزئي مثلما معك- كظاهرة نفسية تعني معان عديدة، ولها أيضًا تعريفات تختلف باختلاف كبار الباحثين والدارسين والمتكلمين المتخصصين بمبحث الوعي الإنساني الفردي، ولكن الاختلاف يجيء في التفاصيل غالبا، وأما ما يكاد يكونُ مشتركا فهو أن ظاهرة التفارق تعني غياب الواحدية المتماسكة التي يحسها الإنسان عادةً وتشمل كل ما يعيه من ذاته نفسيا (معرفيا ووجدانيا) وجسديا في أي لحظة من لحظات الوعي.
فالمفترض فينا كأشخاص طبيعيين هو أن أفكارنا وعواطفنا وحركاتنا وإحساساتنا الجسدية وذكرياتنا ووعينا بذواتنا ومحيطنا وزماننا ومكاننا وهويتنا كأفراد، ومن هم حولنا أيضًا، المفترض أن يكونَ كل هذا متناغما مع بعضه البعض في لحظات صحونا وخلو أدمغتنا من أثر المواد نفسانية التأثير، هذا هو الطبيعي لكن التفارق يعني شكلا ما أو خللا ما أو توليفة ما من الأعراض -وربما العلامات في الحالات المرضية- مؤداها أنني أشعر أنني غير مكتمل الحضور في مكان ما، أو أن جزءًا من وعيّ موجودٌ في مكان آخر في نفس الوقت، أو أنني تركت جزءًا من وعيّ لينفصل عني بشكل أو بآخر فلا يكونُ دائم أو كامل الحضور معي.
مثلا أشعر أحيانا وأنا أطفئ جهاز مجانين أو جهاز الكومبيوتر المرتبط بالإنترنت، وبعد أن أتأهب للقيام، أشعر أن جزءًا من وجودي المعرفي في الدنيا موجود هناك أطفأته ولم آخذه معي، للحظة أو لحظتين أحس بذلك ثم أعود لعالم مجانيني خارج الجهاز، كذلك تتكررُ من فترة لفترة أن تمتصني كلي إجابة على استشارة إليكترونية على جهاز مجانين حتى أنني لا أشعر جيدا بما حولي، ولكنها أيضًا لحظات أحيانا ولا أقول كثيرا مثلما قلت، هذا أيضًا يحدث لي، إذن شخصيا لدي خبرات مما يمكن أن ينطبق عليه أحد تعاريف التفارق الطبيعي.
وأقول في بداية الكلام عن التعريف ما لا يقوله المتكلمون من رجال العلوم النفسية في بداية الكلام غالبا، وإن قالوه ففي النهاية أو فيما بين السطور، وهو أن الوعي البشري نفسه ما يزال أحد الأسرار التي يحاول العلم تفهمها والدراسات فيه ما تزال غير محققة للكثير من المؤكد أو الثابت علميا أو المتفق عليه، ولكن نحتاج أن نعرف إحساسا بعدم التناغم أو التوافق أو التماسك الواعي بين أجزاء وعي الذات بذاتها ومحيطها وتاريخها وهويتها، إحساسا قد يكونُ لحظيا يعزوه الفرد إلى أي سببٍ من الأسباب (الإرهاق مثلا أو الجوع أو عدم النوم أو الانشغال)، وقد يكونُ لحظيا أيضًا ولكن الشخص لا يجدُ له تفسيرا حاضرا في ذهنه، مثلما يمكنُ أن يكونَ الإحساس صادما كما نجد في حالات اختلال الإنية ، وقد يكونُ مستمرا وحاضرا في وعي المريض الذي يشتكي من شعوره بتغير دائم في خبرته بذاته، أو غير واعٍ بحيث يفقد الشخص القدرة على الوصول إلى جزء من محتويات ذاكرته، أو ذاكرته كلها، أو ربما يفقد الشعور بمن يكون هو أو ربما يكتسب لذاته هوية أخرى غير هويته الأصلية، كل هذه أنواع ودرجات من التفارق أو انشقاق الوعي مثلما شرحنا من قبل في ردودنا على استشارات مجانين تحت العناوين التالية:
تعدد الشخصية: أرجوك افهمني
الجن المخفي: التفارق وادعاء العلم بالغيب
الجن الأحمر والزار: التفارق والغيبة والتملك
وما تصفينه أنت يا ابنتي لا علاقة له مباشرة بكل ما سبق فقط أردت أن أوضح لك الظاهرة النفسية في بعضٍ من شتى تجلياتها، ومهم هنا أن أذكر بأن قولك في إفادتك: (وما أعتقدش إن حد بيلاحظ ده عليا لأني مش بسرح بشكل كامل، ولا الحالة دى بيتاثر على مناقشتي وحواري بأي شكل) هذا السطر ينفي أي احتمال لوجود اضطراب نفسي لديك من الأنواع المذكورة، ويؤكد أن لديك ربما قدراتٍ وطاقات لا تعرفينها أي أنه على عكس المرض والاضطراب لديك ربما ملكاتٌ غير مستغلة، وقد يفيدك أن تتعلمي كيفية استغلالها.
ومن الممكن على أية حال أن يجري لك أحد المختصين بعلم النفس أو الطب النفسي بعض القياسات لمعرفة قابليتك لانشقاق الوعي بصفة عامة حيث تجيبين على أسئلة من نوع:
هل يحدثُ أحيانا أن تستغرقي في متابعة التلفزيون أو قراءة رواية إلى حد الانفصال تماما عن البيئة المحيطة؟
هل أحيانا تجدين بداخلك مشاعر قوية لكنك تشعرين بأنها لا تخصك؟
هل يخبرك الآخرون أحيانا بأنك قلت أو فعلت ما لا تتذكرين قوله أو فعله بالمرة؟
..................
................
والحقيقة أنه من غير المتفق عليه تماما ما إذا كانت كل الظواهر التي أشرت إليها في هذا الرد تنتمي أصلا لظاهرة التفارق وانشقاق الوعي أم لا، وكذلك ليس معروفا بشكل علمي ما إن كانت الظواهر المرضية التي يعتبر انشقاق الوعي فيها لب المرض تمثل ظواهر مختلفة ومستقلة تماما عن ظواهر انشقاق الوعي العادية العابرة التي يمر بها كل إنسان، أم أن الظواهر المرضية مجرد تضخم أو تطور للظواهر الطبيعية، بمعنى آخر هل شعورك بأن جزءًا من وعيك منشغل أو منفصل عن الموقف الذي تكونين فيه في لحظة ما، وهي خبرة طبيعية كما قلت، لكن هل تعني أنك مثلا أكثر استعدادا للمعاناة من اضطرابات انشقاق الوعي من الآخرين، أم أن لا علاقة بين مثل هذه الخبرة الطبيعية والاضطرابات النفسية الانشقاقية؟
باختصار أذكرك بأن الفيصل في اعتبار خبرة نفسية ما مرضية أو غير مرضية هو تأثيرها على أداء الشخص، وبما أن خبرتك هذه لا تؤثر على حضورك الواعي وأدائك الاجتماعي بشكل عام فلا داعي للقلق،
وأهلا وسهلا بك دائما على مجانين، فتابعينا بأخبارك.
ويتبع >>>>>>: انشقاق الوعي أم الوجود المزدوج؟ مشاركة