أعاني من اكتئاب شديد، وأتمتع بحساسية مفرطة، ومعظم تصرفاتي عبارة عن ردات فعل لها أول وليس لها آخر. صحيح أن هذه التصرفات تكون سليمة من حيث الشكل العام، وتأخذ طابع العقلانية إلا أن فيها الكثير من القسوة والمبالغة التي تحمل بين طياتها نوعاً من التكبر وعدم الرضا.
أنا من النوع الانطوائي الذي لا يحب الاختلاط بالناس دائماً؛ مزاجية الطبع والأهواء، مترددة في معظم الأحيان، لا أستطيع تحديد ما أريده بالضبط، وهذه مشكلة في حد ذاتها ولا يمكن تجاهلها.. شخصيتي متناقضة، فباستطاعتي تنفيذ قسوة لم أعهدها من قبل، وفي نفس الوقت لدى من مشاعر العطف والحنان ما إن وزعت على اثنين لكفتهما وفاضت. ربما تكون هذه المشاعر لمسة جميلة ولطيفة بل ومهمة في هذا العصر المادي المتهور، إلا أنها تفتقد إلى شيء من التوازن والنضج الفعلي، فكل أمر زاد عن حده الطبيعي أعطى نتائج عكسية. إلى جانب ذلك كله، فأنا أنضم إلى ركب المتميزين بالصراحة اللاذعة. فكلامي منفِّر وجارح، وبعبارة أوضح فإنني لا أجيد لغة الحوار وحسن اللباقة في التعامل مع الآخرين وخاصة مع أهلي وعائلتي الحبيبة.
لا أخفيكم.. الجو العائلي يعاني من توتر عنيف، بسبب الخلافات شبه الدائمة بين والديّ رعاهما الله وغفر لهما، وكل فرد منا لديه ما يكفيه من الهموم، فنحن عائلة مشتتة رغم أننا نعيش تحت سقف واحد. حتى أبواي قد واجها ما يكفيهما قبل أن يتزوجا. فأبي رجل عصامي بنى نفسه بنفسه، وله مني كل تقدير واحترام؛ أما أمي فهي لا تعوّض بثمن، وأحمد الله تعالى أن أنعم علينا بمثل هذه الأم العطوف، ومع ذلك كله لست بارة بهما على النحو المطلوب والمفروض.
صحيح أن هذه الخلافات والمنازعات تزرع في نفسي وذاكرتي الحزن والألم وتهزني من الأعماق، غير أني لا أريد أن أتخذ هذه الخلافات حججاً واهية لتبرير ما وصلت إليه من سوء الخلق والتصرف واحتوائي على كمية من الصفات السلبية.
فأنا أريد من جذوري أن تكون قوية، صلبة، سليمة البنية والتفكير حتى أستطيع الانطلاق إلى مواطن النور بإذن الله تعالى، وهذا لن يتحقق؛ إذ ما زلت أعيش مستنقع العزلة والفراغ، بسبب تأثري الشديد بهذه المشاكل التي رافقتني منذ طفولتي؛ وكأن حياتي انحصرت ضمن هذا الإطار الضيق، وأصبحت لا أرى إلا الجانب السئ والمظلم من الأمور.
وهنا تبدو المفارقة شاسعة، فأنا من ناحية لا أريد من هذه الخلافات أن تحبطني، ومن ناحية أخرى أجد نفسي مستمتعة بلعب دور الضحية وهذا ما يغيظني ويجعلني أكره نفسي.. وفي الآونة الأخيرة بدأت أعاني من قصور في الهمة، وكأن طاقتي بدأت بالنفاذ، وأنا بحاجة ماسة لهذه الطاقة، معنوية كانت أم جسدية، لسد بعض الثغرات التي نواجهها في المنزل، لأني على ما يبدو فقدت الرغبة في كل شيء، حتى عبادتي وصلتي بالله تعالى في تدهور وتأخر مستمر.. ومما زاد الطين بلة أنني اكتشفت أن لدي بعضاً من صفات الشخصية القسرية. واللافت في الأمر أن شهيتي -ما شاء الله عليها- معنوياتها مرتفعة!! وصلت إلى حد الشراهة.
الآن أواجه مشكلة في زيادة الوزن، والغريب أنني غير مبالية. والمشكلة الحقيقية: أن هذه الصفات والتصرفات (الانفعال الشديد، تعقيد الأمور، الحساسية الزائدة، الاكتئاب الذي زاد عن حده، فتور الهمة، التردد والعزوف عن الاندماج بالآخرين، التكبر الذي ألبسه قناع عزة النفس، التفكير المتناقض المصحوب بردات الفعل) أصبحت عادات مألوفة (روتينية) بالنسبة إلي، وكأنها نمط سلوكي طبيعي، وكلما أحرزت تقدماً ملموساً للتغُّير نحو الأفضل أحس بغرابة مشوبة بخوف شديد، ثم ما يلبث هذا التقدم أن يتلاشى مع أول خلاف أو مشكلة.. "وتعود ريما لعادتها القديمة".
ساعدوني وأشيروا علي. فأنا أحترم آراءكم وأقدرها. وكلّي أمل في الله تعالى فهو خير معين.
وجزاكم الله كل خير.
1/6/2023
رد المستشار
شكراً على مراسلتك الموقع.
تبدأ استشارتك بالحديث عن إصابتك باكتئاب شديد. بعد ذلك تفصل الاستشارة شخصية تتميز بردود فعل عاطفية متطرفة من غضب وحنان وغير ذلك. بعد ذلك تأتي الفقرة الثالثة التي تتطرق إلى الجو العائلي وبصراحة من الصعب القول بأن ما يحدث في العائلة فيه ما هو غير طبيعي مقارنة ببقية العوائل٬ ولا يوجد في الرسالة ما يشير إلى تعرضك لصدمة عاطفية في الطفولة. ثم تشيرين كذلك إلـى شخصيتك القسرية٬ وبصراحة من الصعب إثبات ذلك. ثم بعد ذلك تتحدثين عن مشكلة زيادة في الوزن وتتحدثين عن صفاتك وتصرفاتك كما يلي: انفعال شديد٬ تعقيد المور٬ الحساسية الزائدة٬ اكتئاب٬ فتور الهمة٬ التردد والعزوف عن الآخرين ٬ التكبر٬ التناقض في التفكير والسلوك.
ما تم وصفه أعلاه صفات شخصية غير مستقرة عاطفياً أو ما يسميه البعض شخصية حدية بحاجة إلى تعزيز قدراتها حول تنظيم المشاعر٬ تحمل الضيق٬ وأن تكون أكثر وعياً وعقلانيةً. هذا لا يعني أنك مصابة باضطراب الشخصية الحدية ولكن شخصيتك تتميز بسمات شخصية حدية. ابحثي عن هواية واحرصي على تنظيم جدولك اليومي وتفاعلي بصورة عقلانية مع من حولك. لديك وعي بمشاكلك النفسية ولا أظن أن الأمور ستتدهور إلى إصابتك باضطراب الشخصية الحدية . القاعدة العامة أن عملية النضج العاطفي تصل القمة في منتصف العقد الثالث من العمر٬ وربما بعد عام من الآن ستلاحظين بأن شخصيتك غير شخصية الأمس واليوم. جلسات علاج نفساني لها فائدتها٬ ولكن لا أنصحك بعقاقير مضادة للاكتئاب أو غيرها.
وفقك الله.
واقرئي أيضًا:
التنظيم العاطفي Emotional Regulation
الشخصية الحدية... تحديات التشخيص السريري
العلاج النفسي لاضطراب الشخصية الحدية