بين الأمس واليوم: أسئلة التغيير والنهضة م
عزيزي الدكتور/ أحمد عبد الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا تستطيع الكلمات وصف ما أشعر به عندما أتصفح موقعكم، لعلّي لأول مرة أجدني أتصفح الكثير من الموضوعات التي كانت في السابق لا تدخل في نطاق اهتمامي بشغف وحب كبيرين للمعرفة.
فقد كانت اهتماماتي في السابق متعلقة فقط بمجال الأدب والشعر؛ فأنا عاشقة للروايات، خاصة العاطفية، ومولعة بالشعر الرومانسي منذ بدايات الوعي، وقد تطورت اهتماماتي بالشأن العام وبالسياسة محليا وخارجيا، خاصة بعدما حصل ما حصل في فلسطين والعراق وأخيرا غزة الصامدة.
ولأني أريد أن أرد الفضل لأهله، فإني أرى ما أنا عليه من وعي بقضايانا كعرب ومسلمين يعود الفضل في كثير منه لموقعكم الرائع، خاصة صفحة "استشارات مجانين" التي لا أمل من تصفحها أبدًا؛ حيث إنها تأتي غير تقليدية، وغالبًا ما يكون الرد على المشاكل في صورة مقال أدبي ينتقي جمال العبارة، ويسترسل ليفيد القراء وصاحب المشكلة معا؛ فأشكركم مرة أخرى، وأتمنى لكم المزيد من النجاحات التي أتوقعها، وأعتقد أن لديكم الكثير من الأفكار للتطوير والتحسين لكي تأتونا دائمًا بالأفضل. وأعتذر عن طول المقدمة، وأريد أن أشارككم في الرد على رسالة بين الأمس واليوم: أسئلة التغيير والنهضة م.
وقبل أن أبدأ أحب أن أعرفكم بنفسي، فأنا فتاة مصرية جامعية في الثلاثين من عمري، والذي لفت نظري في الرسالة هو أنه تأتيني الآن نفس الأسئلة أو ما يشبهها بما تطرق إليه الأخ عماد الذي أعتقد أنه من نفس بلدي.
فأنا دائمًا ما أسأل نفسي وأتوقف أمام الكثير من مظاهر الحياة السياسية في بلدي، أو في مجتمعاتنا العربية بصفة عامة، فأجد أننا لا نملك من مظاهر الديمقراطية إلا ما يريد القائمون على الحكم أن يظهروه للمجتمع الغربي، بعد ما أصبحت الأنظمة الديكتاتورية هي الذريعة الأولى لإقامة الحروب التحريرية الآن.
فما زال أمامنا كعرب الكثير لنلحق بالآخرين، فما أتيح لنا الآن وما يطلق عليه حرية التعبير أصبح لعبة في يد حكامنا يوجهونه الوجهة التي يريدونها لخدمة أغراضهم، وفي نطاق الأمان؛ فهناك دائمًا خطوط فاصلة يجب ألا نتعداها وإلا.
ولا فرق هنا بين ملكية أو جمهورية في مجتمعاتنا العربية.. الكل سواء، والآن كل شيء يورث، حتى الشعوب. والازدواجية التي تدعو للعجب هو إيهام الشاب بأنه يجب عليه أن يشارك، وأن رأيه مؤثر ومعتد به، في حين أننا لعبة في أيديهم يوجهوننا كما يشاءون، حتى مجرد التعبير عن آرائنا تجاه قضايانا العربية (بعد أن حرم علينا التعبير عن قضايا وطننا) من وجهة نظرهم خطأ كبير من جانبنا؛ فيجب علينا أن نكون متلقين فقط، أنانيين.
وعندما تزيد حرارة الوعي لدينا، ويرون أن هناك قضية عامة يمشي الشباب وراءها، بدلا بالذي يفرضونه هم على هؤلاء الشباب من التوافه، يبدأ الإعلام في تحريك جيوشه من الموالين والمنتفعين بالنظام؛ ليوضحوا (كناصحين أمناء) أن ما وقع فيه الشباب من حماسة ليس لها أي "لزوم" أو داع، ولا مانع من تثبيط عزيمتهم بأن هذا لن يغير من الأمر شيئا.
وإذا رأى الشاب أنه يريد أن يقوم بالفعل الذي يغير -من وجهة نظـره- فإنهم يحاصرونه ويكبلونه، وتبدأ الأساليب القذرة؛ ليعود الحمل الوديع إلى الحظيرة يرضى بالقليل ويعيش حياة هادئة بعيدًا عن المشاكل.
هذا الأسلوب الذي يتبع في أغلب مجتمعاتنا العربية أدى بالشباب إلى عدم وضوح الهدف بالنسبة لهم، وإلى تذبذب مستوى ومعيار القدوة، وإلى الفردية في التعامل مع القضايا المختلفة. ودعني أتحدث عن بعض الشباب الذي أحتك به عمليا في كافة مجالات الحياة، هذا الشباب للأسف أصبح في حالة يرثى لها، من غياب الوعي بالهدف الذي يجب عليه تحقيقه، وإن وجد هذا الهدف فإنه هدف -في الأغلب- فردي شخصي ينحصر في الانتهاء من الدراسة، والحصول على العمل ذي الأجر المرتفع ليتمكن من امتلاك مظاهر الرفاهية المختلفة من شقة فاخرة وسيارة، ثم الزواج من فتاة جميلة... إلخ.
فإن تحدثت إلى بعض هؤلاء الشباب عن أي قضية من قضايانا التي تمس حياته تفاجأ بالرد الذي يلجمك: "يا عم قول يا باسط - كبر دماغك"، وإن ألححت عليه بأننا منوط بنا التغيير في المجتمع وأن جيلنا عليه العبء الأكبر.. يرد عليك "خليها على الله" طبعًا ونعم بالله.. ولــكن الله لم يطلب منا الاستسلام.. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حثنا على التغيير لأنه سنة الحياة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فلا بد أن يكون التغيير نابعا من داخلنا، بمعنى أن نحس بالوضع الخطأ وأن نتعاون ونتكاتف لإحداث التغيير.
وأنا مع الأخ عماد في أننا عجزنا عن أن نكون مثل جيل 23 يوليو 1952 الذي شعر بالهوان والذل في ظل حكم غير وطني، وعندما شعر وتألم لم يكتف بمجرد الحلم فقط بحدوث تغيير، ولكنه أصر عليه فدبر وأحسن التدبير واختار عناصره بعناية ليحدث التغيير المطلوب بأقل الخسائر المحتملة، وعلى لسان صانعي تلك الثورة لم يكونوا يتخيلون هذا القدر من النجاح لثورتهم، وهنا تأتي العناية الإلهية، ويؤيد الله بنصره من يستحق هذا النصر من أخذ بأسبابه وعمل على تحقيقها، ثم توجهه له عز وجل بالدعاء بالتوفيق والسداد والتوكل لا التواكل.
ونحن بالطبع لسنا بصدد تقييم ثورة يوليو فهذا حديث يطول، ولكن ما يهمنا هو المبادرة (الإحساس بالظلم.. التألم لهذا الظلم.. العمل على التغيير والأخذ بالأسباب نحو تحقيق هذا التغيير)، وقد مرت الذكرى 51 للثورة وقد مرت هذه السنوات الطويلة وحدث فيها ما حدث من أحداث جسام، والمفروض أن يزداد الإنسان وعيًا، وأن يدرس تجارب الآخرين ليكون أكثر إدراكًا وأكثر تأثيرا، ولكن ما أراه الآن (من البعض) هو العكس، فإني أرى الخنوع والتسليم، والأسوأ أني لا أرى أي إحساس بأن هناك مشكلة، أو قضية تتطلب الكفاح من أجلها، وكأن قضايانا قد انتهت بطرد المحتل من بلادنا وتحرير أرضنا.
أنا لا أتجنى على الشباب، ولكني أحاول أن أرصد الواقع، كنا نسمع في الماضي أن القدوة للشباب كانت متمثلة في زعماء العمل الوطني "مصطفى كامل، أحمد عرابي..." وغيرهما، ولكن الآن قدوة الشباب هم مجموعة من المطربين والممثلين الذين يتخطف الشباب أخبارهم، ويحاولون تقليدهم في تسريحة الشعر وطريقة ارتداء الملابس، وأصبح جل اهتمام الكثيرين أن يكون ربع موهوب يمتلك شبكة من العلاقات الاجتماعية بالأوساط الفنية؛ ليقدم إليها و"تلعب البلية معه" كما نقول في مصر.. ليصبح في وقت قصير جداً محط أنظار المعجبين والمعجبات ويمتلك الأموال الطائلة التي يحصل عليها دون إرهاق نفسه في أعمال شاقة تتطلب الدراسة أو إتقان لغة أو مهارة معينة.
وأرى أن المسؤول الأول عن هذا الاتجاه هو الإعلام الذي يركز في إبراز هؤلاء كنماذج للشباب، ويبرز أخبارهم من خلال صحفه وقنواته الأرضية أو الفضائية التي تبث لكل العالم؛ وهو ما سهل الطريق كثيرًا لأنصاف الموهوبين إلى الشهرة والأموال، وأغرى غيرهم بحذو حذوهم.
هذا الوضع يحزنني جدًّا خاصة عندما يحارب الإعلام الرموز الطيبة والنابغين في المجالات العلمية أو يجعلها في غياهب النسيان على أقل تقدير، هذا علاوة على ما يسكبه في آذاننا من التمجيد والتهليل لقادتنا، وإسباغ صفات الحكمة والحنكة السياسية عليهم؛ فكل ما يفعلونه صحيح مائة في المائة، فكل عمل حسب توجهاتهم، ثم يختمون كلامهم بالدعاء لله أن يعينهم على العبء الفظيع الذي أنيط بهم حمله.. وهو هذا الشعب كثير المشاكل.. الذي لا يتوقف عن التناسل والتكاثر الذي يضيع ظهور أثر المجهودات الاقتصادية الفظيعة التي يقوم بها أولو الأمر لتحسين مستوى معيشة الشعب، هذا بخلاف كم الأكاذيب والتلفيقات التي تلصق بمن تسول له نفسه أن يسعى من خلال موقعه ليحيد عن السياسة التي رسمت له ليحقق الأفضل لأبناء شعبه.. إما أن يستبعد.. أو أن ُيتهم في أمانته.
لقد أطلت في السرد، فعذرًا، ولكني أؤمن بأن الإنسان العادي عليه عامل كبير، وأومن بتربية هذا الإنسان على رفض كل ما هو خطأ والعمل على تغييره ببتر الجزء الفاسد والعمل على تنمية الأجزاء الجيدة فيه، وأرى أن هناك أمراضا عديدة في الجسد العربي تعرفونها أكثر مني ولعل أبرزها الرضا بالأمر الواقع كأنه أمر مسلم به بالرغم من سوئه؛ ولذلك فالأمم تتقدم ونحن نتراجع، ولسوف تحاسبنا الأجيال القادمة على ما فرطنا فيه من حقوق.
والآن ما هو الحل لما نحن فيه؟ وكيف نستطيع أن نكون حزب التغيير الذي يبدأ من داخلنا أولا ثم ينعكس على مجتمعنا الداخلي والعالم الخارجي؟ فنحن بحاجة إلى ثورة في المفاهيم العربية بصفة عامة لنأخذ الجيد منها ونطرد الرديء، وهذا أمر صعب يحتاج إلى وجود مقترحات وأساليب عمل للوصول للنتائج المطلوبة ولكن كيف؟ وبم نبدأ؟
ولأن موقعكم أحدث فيّ التغيير وأعتقد أنه يحدث التغيير في الكثيرين، فهو أنسب من يحمل هذا اللواء، وأعتقد أن البداية سوف تكون بإدراك حاجتنا للتغيير..
وفقكم الله لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
20/11/2023
رد المستشار
الأخت الفاضلة، هذه هي المشاركة الأولى التي تصلني منك، وهناك أخرى أرجو أن أرد عليها قريبًا بمشيئة الله، ولا أدري هل قرأت مقالي "الجهاد المدني" أم لا؟
ورغم أن التحليل والتشخيص هما من الأمور التي تهم صفحتنا فإن المبالغة فيهما تصبح من قبيل التكرار الذي لا يجذب أحدًا، ولا يتحمس له غير الجدد على الصفحة أو الجدد على الاهتمام العام.
وأنا أشكرك على جهدك ووقتك ونشاطك وتواصلك معنا، وأرجو أن يكون تركيزنا مستقبلا، في اتجاه: ما العمل؟! لأنني أعتقد أنه لا يختلف أحد عاقل مع ما تطرحينه هنا، وما نعرفه عن أحوالنا العامة والخاصة.
وأخالفك ـ بعض الشيء ـ فيما يخص الغفلة السائدة وسط شبابنا، فأحسب أن بقية الصورة تحوي جوانب أخرى مضيئة، فهناك طاقة حماسية متدفقة هنا وهناك، وروح تندفع مثل الأمواج، وقد تنحسر في مرحلة جزر، ولكنها ما تلبث أن تعود لتعلو.
لدى شبابنا وأمتنا -في هذه المرحلة التاريخية- رصيد لا بأس به أبدًا من اليقظة، ولكنها مهدرة حتى الآن أو مبددة في اتجاهات عديمة أو قليلة القيمة. ويمكنك أن تتابعي عشرات المبادرات على الشبكة وغيرها لتشاهدي أن هناك طاقة وحرصا ومتابعة، ووعيًا معقولاً. ولكن تشغيل هذا كله واستثماره ما زال مفتقدًا، وهنا تحديدًا نحتاج إلى تفكير هادئ، وتأمل عميق، ثم عمل دائم، وصبر ومتابعة.
الظروف مختلفة بعض الشيء، أو ربما كثيرًا بيننا وبين مطلع الخمسينيات؛ فالأوضاع الدولية، والإقليمية، والمحلية تبدو أكثر تعقيدًا، وبالنسبة لمن يريد أن يعمل بإيجابية فإنها تحمل في طياتها مجموعة من التحديات والفرص واجبة الدراسة لاختيار الأساليب المناسبة للعمل والتغيير.
ومن أهم ما تتحدثين عنه في رسالتك التعويل على ما أسميته أنت: الفرد العادي، وهذا الفرد حتى يمكن تكوينه وتمكينه من أن ينخرط يحتاج إلى خطة وتدريبات في ميادين شتى، وبعض الإشكال يكمن في أننا انقطعنا عن عالم الجهاد المدني، وإدارة الأمة لشئونها منذ ما يقترب من قرن!!
ولذلك فإن من يطرحون الفكرة الصحيحة حول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، حتى هؤلاء نجدهم يتخبطون حين يبدءون في البحث عن برامج وأعمال وأنشطة لتحويل هذه السنة الإلهية إلى خطة عمل فعالة ومناسبة.
وأرى أنه ما لم تنفتح طاقات شبابنا ووعيه وشعوره بحتمية التغيير.. على مفاهيم وأدوات وأساليب الحركة المدنية، وتاريخ وتراث النضال السلمي الأهلي الخاص بنا وبغيرنا من أجل الحصول على الحقوق، وتغيير الأوضاع، وبدون القناعة التامة بجدوى ونفع هذه التحركات والأساليب بديلا عن القعود، وبعيدًا عن استخدام العنف في التغيير الداخلي، ونحن نشهد الآن حصاد شيوع الأسلوبيين في مراحل سابقة.. بدون هذا أعتقد أننا سنظل في حالة "محلك سر"، وهي حالة فيها من التردد والتخبط أكثر مما فيها من السلبية والقعود، وكوني على صلة بنا