الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد مشاركة
السلام عليكم ورحمة الله
قبل أن أعلق على رسالة الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد أود أن أؤمن على رأي الدكتور وائل بأنه ليس بالضرورة أن تكون الأفكار الوسواسية مجرد سفسطة بلا معنى تختفي باختفاء المرض، بل إنها قد تكون تفكيراً خاصاً إبداعياً للمريض ولكنني أعتقد أن الاختلاف يكون في طريقة التعامل مع الفكرة.
فالأفكار الوسواسية التي أتتني في مرحلة سابقة "اقتباس: كان لي أيضًا نظريتي الوسواسية عن نسبية الخطأ والصواب وعجز العقل البشري عن إيجاد الخطأ والصواب؛ لأنه لا يوجد خطأ وصواب، بل ما يعتقد هذا الشخص نتيجة لتراكمه المعرفي وبيئته ودوافعه أنه خطأ وصواب، وهذه طبعًا "سفسطة"!" مررت بها لاحقاً هي وغيرها من الأفكار التجديفية أو لنقل الأفكار والفلسفات المغايرة للتفكير الإسلامي ولكن الفرق كان في طريقة تعاملي معها، لا فزع ورعب وتسلط والتفكير المستمر الذي يتساءل دون توقف: ماذا لو؟ ماذا لو؟، بل والتفكير أن هذه هي الطريقة الصحيحة في التعامل مع أي فكرة مماثلة، على كل سأوضح ما أعنيه لاحقاً في الخطاب.
أبدأ هذا التعليق باعتذار عما سيبدو مني افتاء في غير تخصصي وهو الطب النفسي، ولكنني أريد أن أنقل تصورات وأفكار تدور في عقل شخص في الطرف الآخر من العلاقة بناء على ما مر به، وأرجو من فريق الاستشارات تصويبي عندما أكون خاطئاً.
أحب أن أنبه صاحب المشكلة وأي مريض آخر أن ما سأعرض له من آراء هو نتيجة تجربتي وآثرت عرض أفكاري كما هي دون أن أحاول تنقيتها من آراء شخصية منحازة لفكرة معينة لأنني أفضل أن تثري الآراء والتجربة الشخصية المناقشة بدلاً من أن تصب في قوالب إجماع جامدة.
يقول صاحب المشكلة: "كثيرا من هذه الشبهات إما قرأتها وقرأت إجابات لها أو طرحتها بنفسي على بعض الشيوخ، ولكن تبقى إجابتهم غير كافية وغير مرضية، هذا بالإضافة إلى أني في داخلي وأنا أذهب إلى عالم مسلم لأطرح عليه شبهة أشعر أني أفعل ذلك لأني أحب البقاء على هذا الدين، ولذلك أسأل عالما في نفس الدين فقط ليخلصني من الشبهة. وللعلم فإن أسلوب التأويل يمكن أن يستعمله أيضا عالم نصراني مثلا ليقنعك بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؛ يعني هو أسلوب ضعيف، فلو ذهب المسيحي إلى قسيسه ليذهب عنه شبهة بهذه الطريقة فإن النتيجة واحدة."
"تخيل مثلا لو أن شابا مسيحيا أو يهوديا أصيب بهذا الوسواس القهري بسبب شك أصابه من بعض ما قرأه في كتبه المقدسة، ثم ذهب إلى طبيب نفسي -مسيحي أيضا- فأخبره أن هذا شيء طبيعي وليس فيه عيب، وعليه فقط أن يأخذ بعض العقاقير ثم يشغل نفسه بأنشطة أخرى مفيدة، ويتوقف عن التفكير في هذا الموضوع؛ لأن هذا وسواس قهري ولا علاقة له بالإيمان والكفر؟ ربما نجح العلاج مع هذا الشاب وذهبت عنه تلك الأفكار، ولكن النتيجة أنه بقي على نصرانيته أو يهوديته، فخسر آخرته، والعياذ بالله."
فإن ذهب ذلك الشاب إلى قسيس أو راهب فقد يمنعه -كما يفعل بعض علمائنا- من الاطلاع على كتب العقائد الأخرى؛ لأنه ليس من المختصين، وقد يقع في الشك في معتقده؛ لذلك فإن على أهل العلم فقط أن يطلعوا على هذه الكتب، وهكذا حرم ذلك المسكين بسبب الطبيب النفسي وعالم الدين من أن يبحث عن الدين الصحيح والعقيدة الصحيحة؛ وهو ما جعل مصيره الخلود في النار إلى الأبد.
*بداية أقول أنه في حالة الشاب المسيحي المصاب بالوسواس القهري، ألا تظن أن الشاب غير قادر نتيجة حالته المرضية على إيجاد (الحقيقة الحقيقية).
*تخيل فكرة أو موقف تم تحويله إلى مصدر للتفكير الاجتراري، التفكير في أتباع الأديان الأخرى وفي مصيرهم والقلق حولهم، ثم التفكير في كيفية التأكد من صحة الدين وسط كل هذه الأديان وعن النتائج المرعبة المترتبة على ذلك وعلى مدى أهمية الخيار الإيماني ومركزيته الأبدية مررت بها أنا أيضاً، ولن نخوض في جدل عقائدي هنا، كل ما أقوله هو أنني لم أصل إلى جواب عندما كنت مصاباً بالوسواس القهري، يمكن تلخيص الأمر بعدة كلمات: طالما استمريت في هذا الطريق، فإن الحالة فقط تزداد سوءاً. لا يمكنك التوصل إلى الحقيقة الحقيقية وأنت في مثل هذه الحالة، أي قرار ستتخذه وأي رأي تتبعه ستشك فيه بصورة مرضية.
*تقول أنك لا تقبل ما يقوله علماء الدين من رد على الشبهات لأنه كما هو واضح يقوم بنفس التبرير القسس والرهبان، أهلاً بك في عالمي: عالم الوسواس القهري! أجل انتابني هذا التفكير أيضاً، كيف تكون متأكداً أنه تبرير وتأويل ولي عنق؟ قد يكون وقد لا يكون، دعنا نشبه الأمر بقضية يترافع فيها المحامي وممثل
الادعاء، كل منهما يدعم قضية معينة معاكسة للأخرى، منطقك -الذي اقتنعت أنا به أثناء إصابتي بالمرض- أنه إذا اقتنعت أنت برأي المحامي سيصرخ عقلك ولكن ماذا عن ممثل الادعاء، كلهم يتحدثون، كلهم أصحاب حجج، المحصلة: أنا إذن عاجز عن اتخاذ القرار! ولكن بالنسبة لي فاقتناعي المرضي كان أن هذا العجز عام فأي شخص وكل شخص هو ليس سوى انعكاساً لمجتمعه وبيئته وجيناته، كل الناس يؤمنون ما يظنون أنه الصواب ولكل شخص صواب خاص به ضمن أطره المعينة، أي أننا نحن من اكتشفنا زيف هذا العالم وأن الحقيقة نسبية والعقل نسبي. (سأناقش النسبية لاحقاً بتفصيل أكثر) إذن فهل كل الناس مثلنا عاجزة عن الاختيار؟
*الناس قادرة على الاختيار، الناس يقومون بالاختيار. هناك أناس يغيرون معتقداتهم ويطورونها ولديهم القدرة على القيام بذلك، هناك من قضى حياته ملحداً ويؤمن والعكس صحيح. (سأعرض لاحقاً للعقل والفطرة والإيمان) ستقول لي (كما كنت أقول لنفسي) أنني أعرف هذا ولكن كيف يضمنون؟ حتى لو اقتنعت عقلياً ماذا لو كان هذا خاطئاً؟ ما الذي يضمن أن هذا صحيح؟ ألا يعلمون النتائج الأخروية المرعبة المترتبة على ذلك؟ كيف يتحملون ذلك؟ كيف يعيشون؟ الجواب هو أنهم يضعون هذا التساؤل في حسبانهم ولكنهم يتجاوزونه.
إذن؟ الجواب هو أنك يا صديقي -مثلي- الشخص صاحب رد الفعل غير الطبيعي ، سيفيدك د.وائل أكثر مني عن التغيرات الكيميائية الدالة على المرض، إلا أنها لا تمنحنا للأسف الفكرة عما إذا كانت سبباً في ذاتها أم نتيجة ، مما يقفز بنا إلى التساؤل: أليس ممكناً أن لا عقلانية الحياة التي تحاول عقلنتها هي السبب في عدم قدرة عقلك على تحمل النتيجة المرعبة التي واجهتك أنت المؤمن المتدين؟ أقتبس هنا فكرة من إحدى الروايات الهامة لسومرست موم (عن عبودية الإنسان) ويعبر عنها أن البطل أدرك معنى الحياة بتأمله سجادة عجمية: متشابكات وأشكال : معقدة كثيراً ، متداخلة، جميلة في بعض الأحيان ،ولكنها بلا معنى على الإطلاق. ما رد الفعل؟ جميل! رائع! فكرة مميزة ، شكراً! سيكون رد فعلك على هذه الفكرة مثل رد فعلك على أي فكرة أخرى، تغذية الأفكار الوسواسية، الاكتئاب، القلق، التفكير الاجتراري.
ولكن مرة أخرى هذه الفكرة تعبر عن فلسفة لاأدرية من أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك سوى ما تدركه حواسه وغير ذلك لا يرفضه ولا يقبله لأنه عاجز عن إدراكه. هل تستطيع تقبل هذه الفكرة على الرغم من أنك أنت-إذا افترضنا أن أفكارك ليست مرضية كما نلمح من رسالتك- تعبير عن مآل من يحاول عقلنة ما لا يعقل؟!
*تعتقد أنك أصبت بالوسواس القهري سابقاً وأنك الآن سواء عانيت منه أم لم تعان (على الرغم من أن جملاً معينة في رسالتك تصرخ: وسواس قهري، وسواس قهري)، فإنك ترفض تماماً ايقاف "رحلتك للبحث عن الحقيقة"، الوسواس القهري غير مهم، المهم أن أصل إلى الحقيقة المطلقة. حسناً، يمكنك أن تتأكد من قدرتك على مواصلة الرحلة -عن تجربة- عن طريق تحدي كل ما يثير الشبهات للوصول إلى الحقيقة: اقرأ كتبا ومواضيعَ على الانترنت عن الإلحاد والمسيحية واليهودية والشبهات حول الإسلام وتيار القراءة التاريخية للإسلام واتهامات الشيعة للسنة واتهامات السنة للشيعة ...إلخ. لو كنت مثلي ساعتها فإن مجرد قراءة هذه الأسماء كفيل بإثارة عش الدبابير! إذن فحتى لو لم تقتنع بعدم قدرتك -في حالتك الذهنية الراهنة- على اكتشاف الحقيقة، فإن جزءاً مهماً من المصادر المتطلبة للبحث عن الحقيقة تعجز عن قراءته ، ولو قرأته - كما فعلت أنا يوماً - بطريقة تحدي كل المخاوف وكسر التابو وإنهاء المسألة فإنك ستواجه قمة من الأفكار الاجترارية لم تتصور يوماً أنها ممكنة، يدلك هذا على أن هناك خللا ما في السياسة التي تتبعها أو الوسائل التي استخدمتها، لأن رد الفعل غير الطبيعي له أسباب غير طبيعية.
* ما أعنيه هو أن الطريق من هذه الناحية مسدود، اضغط وتقدم أكثر لا نتيجة، فكر أكثر: لا نتيجة، حتى لو وصلت إلى مرحلة الصراخ وضرب الرأس في الحائط أو قمة الغضب واليأس ستظل الأسئلة الوسواسية كما هي.
* لا بد لك إذن أن تقتنع بأهمية كونك مريضاً بمرض يتطلب العلاج ولو كنت راغباً حقاً في البحث عن الحقيقة، فإن هناك أملا ولو ضئيلاً في أن تجد إجابة بعد أن تواصل رحلتك بعد شفائك من المرض إن شاء الله، هناك إذن خياران بين طريقين أحدهما فقط يحمل احتمال كونه مثمراً.
* ما يلي هو خبرتي الشخصية في التعامل مع مرحلة ما بعد المرض: -ربما تتعلم بالطريق المؤلم أن هناك حقائق في الحياة لا يمكنك تجاهلها ولا يمكنك تغييرها، يجب أن تتقبلها: مثل وجود أديان أخرى غير الإسلام لها تابعون أكبر من عدد المسلمين، ستفكر: وماذا بعد، وماذا عنهم، ولكنك ستتعلم أن طريق التساؤلات الطويل لن يفضي بك إلى النتيجة الحاسمة التي حلمت أثناء إصابتك بالوسواس بوجودها: لقد مشيت في هذا الطريق وأعلم انه لا يفضي إلى أي مكان، تعلم أنك مهما ضغطت على نفسك وعلى عقلك سيظل الأمر كما هو وسيستمر نهر الحياة في الجريان، فإما أن تفقد إيمانك (الذي بنيته على أسس أخرى) أو تقر في كثير من الحزن والألم بأحقيتهم في الاختيار. (ربما تقتنع بآراء دينية ومنها رأي للشيخ شلتوت أن الكافر هو من رفض الإيمان مع إدراكه القلبي ومعرفته الكاملة بدين الإسلام وينكره لأسباب في نفسه، أما من لم تصله تلك الرسالة أو وصلته مشوهة أو بحث عنها ومات قبل الوصول إليها فلا يعد كافراً وليس هنا باب تفصيل ذلك)- ربما تتعلم أن تحصل على ما يمكننا تسميته : بنسخة الإسلام الخاصة، أو الإيمان الخاص بك. ربما تجد أنك بعد هذه التجربة القاسية تعلمت أن تنظر نظرة أكثر شمولية للدين، وتؤمن بالأطر العامة له، وقد تجد نفسك تكتشف أن الكثير مما قد أسبلت عليه القدسية ليس سوى اجتهادات لها آراء أخرى (تقع ضمن إطار الإسلام) ولكنها لا تحظى بالقبول، قد تقتنع بهذه الآراء المخالفة وقد لا تقتنع ولكنها ستريك أن مجال الحركة داخل هذا الدين واسع وستمنحك حرية أكثر في تجاوز أشياء مسهلة عليك أن تحافظ على إيمانك، قد تجد نفسك بعيداً عن إجماعات عامة على آراء علماء سبقوك وقد تجد نفسك تحت نيران اتهامات بالزندقة أو ضعف الإيمان، لكن من يهتم، لم يمر أحدهم بما مررت به ولم يكتسب ذات خبراتك، لن يحكم أي منهم عليك، المهم أن لا تفقد إيمانك.
ستجد أنك خلصت من جزء كبير من شكوكك، ولكنك ستشك بعدها في منهجك، جميل جداً، الكل أو لا شيء ممكنة في الرياضيات، ولكن في الفلسفة والإيمان ستجد أنك لن تجد مسائل يجمع عليها البشر كلهم 1+1=2، ما الحل، لا أدرية، ستجد أنك ترفضها، إذن ستبحث عن أفضل إطار عام قد يحتوي على ما تختلف معه في التفاصيل الدقيقة (لنتذكر أن الفقه والعقيدة الإسلامية ليس عملية رياضية بل تراكماً لعمل آلاف الأشخاص) وتحاول قدر جهدك أن تصل للأفضل وتدعو الله الذي تؤمن بوجوده أن يغفر لك ما أخطأت فيه، ستدرك أن هذا هو أفضل الحلول الممكنة.
-ستجد أنك - للأسف - ودعت مرحلة الإيمان السهل السلس الذي يتمتع به البعض باستمرار ودون شك أو متاعب من المهد وإلى اللحد (يسميه توفيق الحكيم إيمان العجائز)، وأنك ملزم بسلوك الطريق الصعب المليء بالشكوك والمناظرات العقلية والجدلية والإيمانية، وأنك ستخوض معارك لتجد الإيمان وتحافظ عليه.
ربما يعزيك أنك أقرب إلى تعاليم الإسلام التي دأبت على مهاجمة أتباع دين الآباء دون شك.
*ربما رغبت في أن تدعو الله سائلاً إياه الهداية، وإن أعيتك الشكوك فيمكنك أن تجرب أن تدعو الله دون تمييز ديني، كأن تدعو خالقك وخالق السماوات والأرض أن يهديك إليه، أو حتى أن تدعو: يا رب، لو كنت موجوداً فاهدني إليك (وهو الدعاء الذي سمعته كثيراً ممن خاضوا رحلة البحث عن الحقيقة)
*تقول الفلسفة الإيمانية أن الإنسان قادر على الوصول إلى الحقيقة وأن له الخيار والقدرة على الاختيار وأنه ليس فقط ابناً لظروف نشأته وبيئته وعوامل الوراثة المحملة على جيناته وأنه يحمل رسالة معينة مخبئة في نفسه وبذلك يتحمل المسؤولية، في حين يؤمن البعض أن الإنسان ليس سوى حيوان متطور ابن للبيئة والوراثة وما يعتقد أنه يقوم به نتيجة حس روحاني ليس سوى انعكاسا لغرائزه أو رغباته أو ما تناقلته الأجيال عن الإنسان الأول ثم نسيت أصله وأبقت عليه.
يتحدد الكثير فيما يلي باختيار الإنسان أي المسارين يتبع، وعلى كل باحث عن الحقيقة أن يختار أي الطريقين يسلك، وأنصحك أخي بعد التخلص من مرضك بأن تنظر في نفسك والعالم وما فكر فيه الآخرون ممن سبقوك لتسلك "طريق الآلام" هذا.
ثم إذا اتفقنا على أننا مسلمون بعد إنجاز هذه الرحلة، نواجه بسؤال عن إيمان المقلدين (وهو ما يطرح النقطة الأساسية التي طرحتها عن محتوى أفكارك الوسواسية وتجاهل الصفحة لها) لن أتجاهلها الآن، إيمان المقلدين، لنفترض أن ديناً معيناً كان صحيحاً وأن البحث العقلي والروحي يصل ببعض الناس إلى الإيمان به، هل نتوقع من كل أتباعه (وكثيرون منهم ولدوا ليجدوا أنفسهم مؤمنين بهذا الدين) أن يخوضوا رحلة طويلة بين كتب الأديان المقارنة واللاهوت والفلسفة وعلم الكلام؟ ربما لهذا نفهم الاتجاهات القرآنية التي تعلي من شأن العقل والتفكير والتفكر مما دفع بعض العلماء المسلمين إلى التشكيك في إيمان المقلدين دون تفكير أو تفكر.
ولكن على الجانب الآخر هل بالضرورة أن يقرأ المرء كل الكتب السماوية وكتب علم الكلام وماركس وفرويد وكانط... إلخ ليصل إلى الإيمان؟ ثم من قال أن هذا كاف؟ ألا يجب أن نعرف كل شيء لنصل إلى نتيجة؟ عامل آخر يقفز إلى الواجهة وهو الفطرة.. من أفضل من عبر عنها علي عزت بيجوفيتش في حديثه عن الإنسان في أكثر صوره بدائية، الإنسان هنا حيوان: خلاياه وأعضاؤه، له غرائز ورغبات، ولكن هناك شيئاً ما يجعل الإنسان على الرغم من أنه ككل الكائنات عنصر من عناصر هذه الطبيعة لا يتقبل اندماجه فيها ببساطة دون تعقيد كبقية الحيوانات بل ينظر إلى خارج هذه الطبيعة، ليست كل تصرفاته منصبة داخل إطاره الحيواني، ولكنه عندما يذهب إلى الصيد يؤدي طقوساً بدائية لجلب الحظ أو يدعو آلهة تخيليين، ليس الدين هنا مجرد تفسير لخوف الإنسان البدائي من الطبيعة، بل إن السؤال هو لماذا لم يتقبل وضعه في الطبيعة ببساطة بل سعى إلى ما ورائها إلى ما هو خارجها على الرغم من أنه ككل الكائنات الأخرى جزء منها، إلى أن ينطلق من هذه النقطة إلى وجود العنصر الروحاني في الإنسان.. بوجود الفطرة فإن البحث عن الإيمان لا يتطلب ذهنية خاصة، بل إن الإجابة تقفز إلى العقل والروح بسهولة... إذن لا وصول بعد لنتيجة قاطعة حول العقل والفطرة والدين وإيمان المقلدين ، وذلك لأن الإجابة عن مثل هذا التساؤل غير ممكنة، من المستحيل علينا أن نلم بخلفيات أي إنسان وبما دار في عقله طوال حياته وبدرجة إيمانه ومسؤوليته عن أفعاله ، وإذا حدثت هذه المعرفة المستحيلة فإن الحكم أكثر استحالة، دع الحكم على الخلق لخالقهم، ودع مسؤولية أفعالهم لهم، هكذا تعلمت.
* فكر ملياً فيما قاله جبران في كتابه (النبي): لا تقل "لقد وجدت الحقيقة" ولكن قل "لقد وجدت حقيقة".
والسلام عليكم ورحمة الله
*ملحوظة أخيرة: ظللت متحيراً حول تسجيلي لهذه النقطة من عدمه، حتى لا أؤدي لعكس مفعول رسالتي السابقة كما وصفها د. وائل "تساهم بحق في إعطاء الأمل لصاحب مشكلة الوسواس القهري، ولكل راغب في معرفة خبرات المرضى النفسانيين الذين منّ الله عليهم بالشفاء." أو إفساد مظهر الثقة المزيفة بالنفس، ثم قررت أن المصارحة أفضل، لقد أصبت بانتكاسة مرضية من عودة للوسواس القهري منذ بضعة أيام بعد مدة شفاء تبلغ عدة شهور، ولكنها والحمد لله شديدة الخفة وحتى الآن أستطيع التحكم بها.
تجربة شخصية أخيرة في التحكم في الوساوس: تعقب الطريقة التي تضايقك بها الفكرة وحاول إغلاق ذلك المنفذ، بالنسبة لي كان :
-الشعور بالذنب: الفكرة تظل مجرد فكرة، أي فكرة مهما كانت تجديفية وخصوصاً لو كانت مرضية لا تحمل على صاحبها أي وزر وبالتالي فلا سبب للخوف من مجرد فكرة
- وقف التفكير الاجتراري: عند هجوم الفكرة تعامل معها بكل برود وجمود ممكن، قل هذه الفكرة قد تكون وقد لا تكون صحيحة، هل الفزع والخوف والشعور بالذنب يخلقان وضعاً ملائماً في التفكير في قضايا في مثل تلك الأهمية، سنناقشها لاحقاً دون ضغط ولا مشاعر سيئة
-عند التعرض لمنشط للتفكير الوسواسي (منشط وليس فكرة جدلية وسواسية، كإصابة البعض بوساوس لمجرد ذكر اسم الله أو قراءة كلمة ملحد): حقائق الحياة التي يجب أن تتقبلها، مهما فكرت سيظل هناك من يقول أنا ملحد وأنا مسلم وأنا مسيحي وأنا بوذي، لماذا تصاب بهذا الفزع من حقائق بمثل هذه البساطة؟ وإلى ماذا سيؤدي هذا الفزع سوى إلى الطريق الذي تعرفه أي أنني كتبت هذه الرسالة الطويلة وأنا أذب الأفكار والمشاعر الوسواسية كالذباب وحتى الآن أنا ناجح ولله الحمد .
السبب الذي ذكرت من أجله هذه الملحوظة الأخيرة هو أن طبيبي أخبرني أن السبب في هذه الانتكاسة هو الاكتئاب المستمر الذي أعاني منه (لأسباب أخرى غير الوسواس القهري الذي كنت أوشكت على نسيانه) وهو ما يجب معالجته وليس الوسواس القهري الذي لم يحتج حتى الآن علاجاً دوائياً، بصراحة لم أقتنع، عندها ذكر كتابك عن الوسواس القهري يا د. وائل.
ولذا أسألك يا د. وائل عن العلاقة بين الاكتئاب والوسواس القهري (سبب؟ نتيجة؟ عامل مساعد؟ منشط؟ كل ذلك؟)
والسلام عليكم ورحمة الله.
17/8/2024
رد المستشار
الأخ العزيز "فريد"، أهلا وسهلا بك، أسعدتني مشاركتك، وإن أرهقتني بسبب طولها، وأرى أن ما جاء فيها جديرٌ بالفعل بالقراءة والتأمل ومفيدٌ إن شاء الله لمن يتصفح المشاركة من أصدقاء صفحتنا ومن المعذبين بالأفكار الاجترارية التسلطية، فأنت كما قلت تقدم لنا خبرة الطرف الآخر في العملية العلاجية من الوسواس القهري ولا أحد يستطيع اتهامك بأنك لم تجرب العذاب، عافاك الله وعافانا، بل يكفي تلك الطريقة المعرفية السلوكية للتعامل مع الأفكار التسلطية التي تقدمها لنا عن تجربتك الشخصية.
إلا أنني وبسبب طول المشاركة، مضطر إلى اختيار نقطتين فقط مما أثرت للإجابة عنهما، لكيلا تطول الصفحة عن الحد المعقول، خاصة وأنني أتفق معك في معظم ما استعرضت من أفكار وخبرات لعل صاحب المشكلة الأصلية: الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء، يجد فيها ضالته، وكذلك أصحاب المشاركات الأخرى في تلك المشكلة، فأما النقطتان اللتان أنوي التعقيب عليهما فهما:
الأولى هي علاقة التغيرات الكيميائية التي سجلت في أدمغة مرضى الوسواس القهري بأعراضهم: فحصاد البحث العلمي الآنَ يتجه إلى رسم حلقة مفرغة في الدماغ المتوسط تتخذُ من منطقة النوى القاعدية مكانًا لها وترتبطُ بالفص الأمامي للمخ أيضًـا ويسمون هذه الدائرة العصبية "القشرية المخططية المهادية القشرية" "ق.م.م.ق" «CSTC» "حلقة اضطراب الوسواس القهري" وتتميز هذه الحلقةُ بكونها دائرً ترجيعيةَ الاستثارة Reverberating Circuit أي أنها دائرةٌ عصبيةٌ تستعيدُ استثارةَ نفسها بنفسها وهذا هو أحدُ النماذجِ العصبية المتخيلة لتفسير الأفعال التكرارية، ومنذ عقود ثلاثة ما تزال هذه الدائرة العصبية «ق.م.م.ق» هي الدائرة المحورية والمستهدفة بعلاجات التعديل العصبي Neuro-modulation لمرضى الوسواس.
ورغم أن هذه الدائرةُ العصبيةُ موجودةٌ في كل إنسان إلا أنها تكونُ نشطةً بشكلٍ غير عادي في مرضى الوسواس القهري، ومن المعروف أن النواة المذنبة والتي هيَ الجزءُ المسؤول عن الوظائف المعرفية في النوى القاعدية تتغيرُ في مرضى اضطراب الوسواس القهري عن الأشخاص العاديين كما يتضحُ ذلك من الأبحاث العلمية العديـدةِ التي تستخدم التقنيات الحديثة في تصوير المخ وظيفيًّـا.
والنقطة الثانية هي علاقة الوسواس القهري بالاكتئاب حيث تظهرُ أعراض الاكتئاب في كثيرِ من مرضى اضطراب الوسواس القهري وربما تبدو هذه الأعراضُ في بعض الحالات كردِ فعلٍ مفهومٍ لأعراض الوسواس القهري لكنها ليستْ دائمًـا كذلك ؛ فهناك من مرضى اضطراب الوسواس القهري من يعانون من فترات اعتلالٍ مزاجي كالاكتئاب يبدو حدوثها مستقلاً عن أعراض الوسواس القهري لأنه لا يرتبطُ بفترات زيادة الأعراض القهرية؛ وهكذا لا نستطيعُ في مثل هذه الحالات أن نرجعَ سبب أعراض الاكتئاب إلى رد فعل المريض على أعراضه القهرية؛ ويثور التساؤل حول ماهية هذه الأعراض الاكتئابية هل هيَ جزءٌ من اضطراب الوسواس القهري؟ أم هيَ أعراض اضطراب اكتئابٍ جسيمٍ قائمٍ بذاته في نفس المريض باضطراب الوسواس القهري؟، وجديرٌ بالذكر هنا أن أولَ منْ نبهَ إلى وجود علاقة بين الوسواس القهري والاكتئاب كانَ حجة الطب الإسلامي أبو بكر الرازي (854 –932 م) في القرن التاسع/العاشر، كما أطلق الرازي على اضطراب الاكتئاب الجسيم اسم الوسواس السوداوي وهو بذلك سبق كل الغرب في الانتباه إلى هذه العلاقة، لكن محصلة البحث والتأمل في هذا المبحث تصل بنا إلى ما عبرت عنه أنت في تساؤلك: (سبب؟ نتيجة؟ عامل مساعد؟ منشط؟ كل ذلك؟)، فمن الممكن فعلا أن يكونَ الاكتئاب في حالة ما أيا من هذا ومن الممكن أن يكونَ كل هذا في نفس الوقت ويمكنك الاستزادة من هذه النقطة بالنقر على الرابط التالي:
الوسواس القهري والاكتئاب
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب(1-2)
وفي النهاية أشكرك على مشاركتك القيمة، وأنصحك باتباع ما يرشدك إليه طبيبك ليزول عنك اكتئابك بفضل الله عز وجل وأهلا وسهلا بك دائما فتابعنا بأخبارك وشاركنا بآرائك.
ويتبع>>>>>: الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد مشاركة2