كيف أعرف من أنا وماذا أريد؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
عندما كنت صغيره.. كنت أحب أن أنفذ ما أريد وكل شيء أريده يأتي إلى وكنت مدللة نوعاً ما والآن عندما كبرت لا أعرف من أنا... وما هي شخصيتي.. بعض الأحيان أكون شخص لطيف ويحب كل الناس ومرحه وهادئة ومتفائلة جداً ولكن يحصل شي بسيط ويعكر مزاجي أنقلب شخص آخر لا يعرف الهدوء.
وأهلي يعانون من هذا أيضا وأنا أعاني لا أعرف أن أتحكم بمشاعري أو كيف أضبط من نفسي.. وأتمنى أن أجد لديك الحل يا دكتوري العزيز... ولك مني تحياتي.
15/09/2003
رد المستشار
الأخت العزيزة السائلة أهلا وسهلاً بك، وشكرًا على ثقتك في صفحتنا استشارات مجانين؛
الحقيقة أن سؤالك مقتضبٌ بشكل كبير، كما أن العنوان الذي اخترته لمشكلتك (كيف أعرف من أنا وماذا أريد؟) يبدو غريبا إلى حد ما أن يسأل بينما عمرك فوق العشرين، إلى الحد الذي يجعلنا نفكر في تغيير الاختيارات المحددة في صفحة بيانات صاحب الاستشارة عند إرسال المشاكل بحيث يكتب السائل سنه بنفسه بالضبط، لأن المدى الزمني من عشرين سنة إلى خمسة وعشرين سنة يبدو واسعًا في بعض الأحيان في مجتمعاتنا،
أقول لك هذا لأن ما تسألين عنه الآن يفترض أنه كان سؤالك وشغلك الشاغل في مرحلة المراهقة، فلو كان عمرك مثلا ما بين الخامسة عشرة والعشرين سنةً لكان هذا السؤال مناسبا، لكن الذي يبدو هو أن لمجتمعاتنا وللإناث بصفةٍ خاصة في تلك المجتمعات خصوصيات أخرى وظروفٌ قد تكونُ مختلفةً بحيث أنك عندما بدأت تنفتحين على الحياة أخيرا واجهك السؤال الذي لم تتم الإجابة عليه في وقته المناسب، ولكننا في ظل التقلبات والتغيرات الاجتماعية التي تعتري مجتمعاتنا نستطيع أن نقول لك لا عليك يا عزيزتي، فإن شاء الله ستدركين ما فاتك ونحن معك.
*وسنبدأ أولاً هنا بأن نبين لك إطارًا عاما لمعنى المراهقة في علم النفس ومشاكل المراهقين التي يصادفها الطبيب النفسي، على أن تقومي بمتابعتنا وإبداء ما تودين أن تسألي عنه.
فأما المراهقة فهيَ مرحلةٌ يمرُّ بها الكائن البشري في المجتمعات الحديثة نتجت أصلاً عن وجود مسافةٍ كبيرةٍ وفاصل زمني لا يستهان به ما بين البلوغ الجسدي الجنسي (البيولوجي)، وبين البلوغ الاجتماعي، فأنت الآن ومنذ ما قد يزيد على خمس سنوات من الناحية الجسدية أنثى كاملة الأنوثة، لكنك لا تستطيعين أن تكوني كاملةً من الناحية الاجتماعية بمعنى أنك ما تزالين بنتا غير متزوجة، وليس مسموحا لك تقيمي علاقةً حميمة خارج الإطار الشرعي، أي الزواج، وبالتالي لم تبلغي اجتماعيا لأنك لم تقيمي أسرةً بعد، وهذا لا بد أن يتسببَ في معاناةٍ لا يستهان بها ويعطي أشكالا وألوانًا من المعاناة يقابل الطبيب النفسي بعضًا منها خلال عمله.
وأما من ناحية الواجبات النفسية التي يتعين على المراهق أن يجتازها فيمكن إيجازها في مهمتين كبيرتين: الأولى: هيَ الانتقال من الاعتمادية Dependency على الوالدين إلى الاستقلال Independency عنهما، وهذا ما يستلزم من المراهق أن يشعر داخله وأن يظهر على سلوكياته أن له آراءً أخرى تختلف عن آراء أبيه وأمه، وتبعا لتصرفات الوالدين وقدرتهما على التعامل الصحيح يمكن أن تمر الأمور بسلاسة ويمكن أن يحدثَ ما نسميه بصراع الأجيال على مستوى الأسرة الصغيرة بالطبع، ومن بين لوازم الاعتماد على الذات كما تعلم أن يستقل الشاب بنفسه اقتصاديا وهذا ما لم يعد من الممكن أن يتحقق لأسباب عديدة منها طول سنوات الدراسة، ومنها أيضًا ظروف المنطقة التي نعيش فيها اقتصاديا، إضافةً طبعا إلى تميز الوالدين الشرقيين بالرغبة في الحمائية الزائدة Over Protection فهم لا يريدون في معظم الأسر السماح لأبنائهم (وبناتهم أولى بالطبع) بالاستقلال المادي، ويضاف إلى كل ذلك عبء آخر في حالة الإناث، لأنهن لا يبلغن اجتماعيا إلا بالزواج وربما في بعض مجتمعاتنا تبقى المرأة طوال حياتها غير كاملة النمو اجتماعيا فقط لأنها أنثى!
وأما المهمة الثانية: فهيَ صراع الهوية Identity Crisis وصراع الهوية هذا يعني أن يعرف المراهق من هو أي من يكونُ وما هيَ قيمه ومبادئه وأهدافه وقدراته وميزاته ولماذا هو مختلف عن الآخرين وأن عليه أن يأخذ موقفًا من التيارات الفكرية والثقافية والدينة التي تسود مجتمعه، وهذه أيضًا مهمة ليست بالسهولة التي تبدو بها للمراهق نفسه أحيانا، لأن ما تتميز به المرحلة من تغيرات على المستوى المعرفي تجعله قادرًا لأول مرةٍ على التفكير بصورة مجردة (أي التفكير باستخدام المفاهيم المجردة كالحب والعدل والخير والشر وكلها مفاهيم لا تستطيع الإشارة إلى شيء في الكون لتعتبره ممثلاً لها لا يختلف عليه أحد) فمثلاً أنت تستطيعين الإشارة إلى السماء أو إلى البحر وسيتفق معك الجميع، لأن هذه مفاهيم عينية أو شيئية لكنك لا تستطيعين أن تجدي ما تشيرين إليه وتقولين مثلا هذا رخاء أو هذا حق أو مساواة أو ديموقراطية أو غير ذلك من المفاهيم التي يختلف عليها الناس فما ترين فيه أنت الحق يراه آخرون ظلما وهكذا.
0والواضح من عنوان إفادتك هو أن لديك مشكلةً في تحديد الهوية النفسية لك كما يتضح من العنوان ومن قولك (والآن عندما كبرت لا أعرف من أنا... وما هي شخصيتي..)، وربما يكون هنالك أيضًا بقايا من صراع التحول من الاعتمادية الكاملة على الوالدين إلى الاستغناء عنهما وإن لم يكن هذا بالتأكيد موجودًا كما أننا لا نستطيع رد أسباب هذه المشكلة كلها إلى كونك كما قلت في إفادتك (عندما كنت صغيره ..كنت أحب أن أنفذ ما أريد وكل شي أريده يأتي إلى وكنت مدللة نوعاً ما) فلابد أن أسباب أخرى لم تذكريها لنا كانت فاعلةً في نفس الاتجاه أو غيره، لكن قولك
(بعض الأحيان أكون شخص لطيف ويحب كل الناس ومرحه وهادئة ومتفائلة جداً ولكن يحصل شي بسيط ويعكر مزاجي أنقلب شخص آخر لا يعرف الهدوء..) وقولك (لا اعرف أن أتحكم بمشاعري أو كيف أضبط من نفسي..)، هاتان العبارتان ربما كانتا مجرد تعبير عن تلك الصراعات غير المحسومة داخلك، وربما كانت إشارةً إلى وجود خلل نوعي في سمات الشخصية لديك وهو ما يستلزم العرض على الطبيب النفسي لتقييم الحالة، ونحن في جميع الأحوال ننتظر منك إفادةً أخرى لا تلغرافية ولكن مفصلة فتابعينا.