السلام عليكم ورحمة الله؛
المشكلة التي أكتب لكم بخصوصها تتعلق بأختي والتي تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، فهي ما تزال في بداية حياتها الجامعية، والمشكلة تتعلق بالإنترنت فهي تجلس على الإنترنت مدةً لا تقل عن أربعة ساعات يوميا، تدخل في الشات، وتتصفح المواقع العربية والأجنبية، ستقولون لي وما المشكلة؟
ومعكم كل الحق فحتى الآن لا تبدو مشكلة، ولكن المشكلة تكمن في أنها لا تستطيع الكف عن ذلك، وأن عدد ساعات دخولها إلى النت وبقائها عليها يزيد من شهر لشهر، وأنها أصبحت بلا علاقات اجتماعية تقريبا مع إنها فتاة جميلة لبقة وكانت منطلقة إلى حد كبير، ونحن لم ننتبه إلى ما يحدث إلا عندما كانت في السنة النهائية للمرحلة الثانوية، فهي لم تكن تستطيع الاقتصاص من وقت الإنترنت، بينما تستطيع الاقتصاص من نومها ومن جلوسها معنا على مائدة الطعام، فهي الآن تقريبا لا تأكل إلا أمام الإنترنت، ولم تعد تهتم بصديقاتها إلا من تقابلهن على النت، ماذا أقول لكم لكي تتصوروا المشكلة كما هي فعلاً؟
أنا أذكر جيدًا عندما كانت امتحانها في الثانوية بعد أقل من شهرين أصرت أمي على منعها من الجلوس للشات لأنها أكثر ما تفعله على النت هو الشات، ولم نكن نستطيع منعها، وعندما قمنا بنزع كارت الفاكس من الجهاز، رغم ما كان يمثله هذا من عبءٍ علينا جميعًا لأننا كلنا نستخدم الإنترنت ما عدا أمي طبعا، ولكن كنا نلجأ إلى أحد مقاهي الإنترنت الموجود في نفس البناية التي نسكن فيها.
المهم أننا اكتشفنا بعد أسبوع من فصل كارت الفاكس أنها تقوم من سريرها بعد أن ننام جميعا، وتخرج من البيت لتجلس في المقهى تحت البيت وتدخل النت منها، تخيلوا فتاة في الثامنة عشرة من عمرها تخرج من بيتها بعد الثانية صباحًا لتدخل النت من الشارع، صحيح أن المقهى في نفس البناية ولكنه شارع! ثم أن معظم مرتادي مقاهي الإنترنت في مثل هذا الوقت يكونون من الشباب الذين لا يعلم بسلوكياتهم إلا الله، واكتشفنا أنها كانت ترشو صاحب المقهى لكي لا يخبرنا!
أتدرون كيف اكتشفنا ما تفعله؟ لقد كان ذلك بالصدفة فقد اتصلت بنا واحدةٌ من قريباتنا تعيش في أمريكا لظرفٍ طارئ وكان اتصالها في الثالثة صباحًا ولأن سماعة التليفون الموجود بصالة البيت كانت سيئةً فقد دخلت إلى غرفتها لسماع المكالمة وكانت المفاجأة أختي غير موجودة في سريرها، ثم اتضح أنها غير موجودة بالشقة كلها، وعندها أيقظت أخي من نومه وأخبرته بأنها غير موجودة، فارتدى ملابسه وخرج وهو في منتهى القلق إلى الشارع لا يدري أين سيذهب! ليفاجأ بأختنا الصغرى جالسة على النت في المقهى! في الثالثة والربع صباحا وقد بقي على امتحانها أسبوعان؟؟ فهل هذا تصرف طبيعي؟
المهم أننا والحمد لله لم نثر فضيحةً كبيرةً، فقد أحسن أخي التصرف لكن لم يكن بد من مناقشة الأمر بعد ذلك معها، فاسمعوا ماذا قالت " أنا أعرف أنني تصرفت تصرفا خاطئا، ولكنكم لا تدركون ما أشعر به وتحسبون أنه بإمكاني، إن الأمر أكبر من أنني لا أستطيع منع نفسي، أنا أصلا لا أفهم ماذا يحدث لي؟ لكنني لا أستطيع الاستغناء عن دخول الإنترنت! أنا أشعر أنها عالمي الذي أعيش فيه ولا أستطيع أن أعيش دائما خارجه، قولوا أنني كالسمكة والإنترنت كالماء، أنا حتى عندما أحلم وأنا نائمة أحلم بأنني أتصفح من موقع إلى موقع، إنني أشعر بالاختناق وعدم القدرة على التركيز وأشعر بالضيق والملل، ولا يخرجني من هذا الإحساس إلا أن أتذكر صوت اللوجنج إن! وأنا لكي أذاكر بعدما فعلتموه أصبر نفسي طول النهار بأنني سأدخل النت بعد أن تناموا!"
وعندما قال لها أخي بأنها بهذا الشكل لابد أنها تفعل أشياءً غير موثوقٍ بها على النت أو أن لها علاقاتٍ مريبةً بأشخاص من خلالها أقسمت بالله العظيم أن المشكلة التي تعانيها لا علاقة لها بذلك، وأنه مجرد الدخول على الإنترنت بغض النظر عما تفعل!، المهم أننا بعد ذلك نجحنا في تخفيض دخولها النت من البيت إلى ما بين نصف الساعة والساعة يوميا على مرات متفرقة وكان ذلك يحدث حتى في ليالي الامتحانات وصدقوني مرات يوم الامتحان في الصباح!، لكنها بالطبع بعد نهاية الامتحان عادت كما كانت تجلس أربعة أو خمسة ساعات يوميا على النت.
سؤالي الآن هو إذا كان هذا الذي تعاني منه أختي هو ما يسمى إدمان الإنترنت فهل له علاج؟ نسيت أن أقول لكم أن أختي هذه تمتاز طول عمرها بالإتقان والدقة ودائما تحب ترتيب كل شيء زيادة عن اللزوم، وتهتم جدا بمظهرها وهيئتها حتى أنها من الممكن أن تضبط الخمار عدة مرات أثناء زيارتنا لأحد الأقرباء، أيام كانت تخرج معنا، كما أنها تهتم جدا بنظافتها وتصفيف شعرها وإن كانت تقطعه أحيانا وهي أمام الكومبيوتر، كما أنها كثيرًا ما تهز رجلها بطريقة مستفزة ولا تستطيع منع نفسها عن ذلك.
لكنها والله ما تزال رائعة ومحبوبة، فكيف تكونُ مدمنة؟ والإدمان كما يقولون عنه دائما داءٌ بلا دواء. أتمنى أن أكونَ قد أفدتكم عن حالة أختي بما يكفي، وأنا في أمس الحاجة إلى ردكم الوافي والسريع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
21/9/2003
رد المستشار
الأخت السائلة أهلا وسهلا بك وشكرًا على ثقتك في موقعنا، وفي صفحتنا استشارات مجانين، والحقيقة أن المشكلة التي تطرحينها علينا هي واحدةٌ من أهم المشكلات التي لم ندرك لا كمجتمع ولا كأطباء نفسيين أبعادها الحقيقية بعد، وأحب في البداية أن أطمئنك إلى أن علاج مشكلة أختك ممكن بفضل الله ولكنه أولاً: صعب، وثانيا: يحتاج إلى رغبةٍ أكيدةٍ منها في التعاون مع المعالج ومع مساعديه من أفراد أسرتكم، ولعل أفضل ما حالة أختك هو أنها أصبحت معروفةً لكم في البيت، فهي لم تعد مضطرةً للكذب عليكم والاستمرار في خداعكم بإخفاء تورطها مع الشبكة العنكبوتية!
والحقيقة أن سؤالك عن أختك هل هيَ مدمنة إنترنت هو سؤالٌ قد تبدو الإجابة عليه بنعم سهلةً لأول وهلة إلا أن تلك الإجابة السهلة تظل محفوفةً بالمخاطر دون إجراء مقابلة إكلينيكية وقياس نفسي لها، خاصةً وأن إدمان الإنترنت Internet Addiction هو في حد ذاته مصطلح ما زال تحت الدراسة والتغيير حسب مستجدات الدراسات والبحوث، وآخر ما تم التوصل إليه في هذا المضمار هو أن مدمن الإنترنت هو من أصيب بخمسة من الأعراض الثمانية التالية:
1 ـ التفكير الدائم في الإنترنت حتى أثناء البعد عن الكمبيوتر.
2 ـ الشعور بالرغبة في زيادة عدد ساعات استخدام الإنترنت.
3 ـ المكوث على الشبكة لفترة أطول من المخطط له.
4 ـ الفشل مرارًا في ضبط عدد ساعات استخدام الإنترنت.
5 ـ التوتر عند عدم استخدام الإنترنت.
6 ـ الشعور بالندم على فقد مكتسبات معينة وعلاقات، صفقات، التزامات، بسبب كثرة استخدام الإنترنت.
7 ـ الكذب على المحيطين لأجل التفرغ للمزيد من استخدام الإنترنت.
8 ـ اللجوء للإنترنت للهروب من مشاكل الحياة.
ورغم ذلك فقد تم تحديد خمسة أنواع من إدمان الإنترنت حتى الآن:
الإدمان الجنسي Sexual Addiction،
وإدمان الصداقات Chat Addiction،
والإدمان المالي Commercial Addiction،
والإدمان المعرفي Cognitive Addiction،
وإدمان الألعاب Game Addiction،
ونحن طبعا لا نجد في إفادتك عدا الإشارة إلى إكثار أختك من الدخول في غرف الشات، ولا ندري حتى هل تدخل بذات واحدة أم بعدة ذوات، ولا ندري لا مع من تتحاور ولا في أي مواضيع للحوار. كما أن هذا التصنيف بقدر ما يجعل الأمور تبدو سهلةً بقدر ما يعقدها فأولاً: قد تجتمع هذه الأنواع أو بعضها في نفس الشخص، وثانيا: قد يكونُ تصنيف الإدمان إلى أنواع حسب اهتمامات الشخص نفسه على الشبكة هو في حد ذاته هدما لمفهوم الإدمان في جوهره، فحتى اليوم لا يوجد تعريف دقيق لماهية إدمان الإنترنت، وذلك لضعف جميع الأساليب التي استخدمت في الأبحاث التي أجريت حول هذا الموضوع..
إن الوقت المستنفد في استخدام الإنترنت ليس دليلا كافيا على الإدمان بل يجب أن تؤخذ في الاعتبار عوامل أخرى مثل كون المستخدم طالبا جامعيا أو موظفا يحتاج للإنترنت لإتمام عمله، أو إنسانا مضطربا نفسيا أو عقليا، أو إنسانا ذا مشاكل اجتماعية..
هل يمكن أن نصف الوقت الذي يقضيه المراهق في الحديث بالساعات على الهاتف مع أصدقائه بالإدمان؟ بالطبع لا.
هنالك بعض الأفراد الذين يقرءون الكتب بكثافة ويتجاهلون أصدقاءهم وعائلاتهم هل يمكن أن نصفهم بالمدمنين؟ بالطبع لا.
إذا بدأ الأطباء والباحثون بتعريف الإدمان بالتفاعلات الاجتماعية، فإن جميع العلاقات الاجتماعية الموجودة في الحياة الحقيقية هي إدمان. كما أن إدمان الإنترنت عملية مرحلية، حيث أن المستخدمين الجدد عادة هم الأكثر استخدامًا وإسرافًا لاستخدام الإنترنت؛ بسبب انبهارهم بتلك الوسيلة.. ثم بعد فترة يحدث للمستخدم عملية خيبة أمل من الإنترنت ،
وحسب بعض الدراسات التي تمت في هذا المجال فإن أكثر الناس قابلية للإدمان هم أصحاب حالات الاكتئاب والشخصيات القلقة... وهؤلاء الذين يتماثلون للشفاء من حالات إدمان سابقة. وقد اقتنع بعض العلماء أن هناك من يسمون بمدمني الإنترنت في حين اعترض آخرون وتعرضوا لاستخدام بعض الناس الإنترنت استخدامًا زائدًا عن الحد على أنه نوع من أنواع الرغبات التي لا تقاوم وبصرف النظر عن التعريف واختلاف العلماء في التسمية، فإنه لا خلاف على أن هناك عدداً كبيراً من مستخدمي الإنترنت يسرفون في استخدام الإنترنت حتى يؤثر ذلك على حياتهم الشخصية.
ولدى مدمني الإنترنت بصفة عامة قابلية لتكوين ارتباط عاطفي مع أصدقاء الإنترنت والأنشطة التي يقومون بها داخل شاشات الكمبيوتر، وتوفر تلك المجتمعات الافتراضية (Virtual communities) وسيلة للهروب من الواقع، وللبحث عن طريقة لتحقيق احتياجات نفسية وعاطفية غير محققة في الواقع.
وتؤكد البحوث النفسية أن الاستخدام المبالغ لشبكة الإنترنت يسبب إدماناً نفسياً قريباً من الإدمان الذي يسببه التعاطي المكثف للمخدرات.. وهذا الإدمان يؤثر على مزاج ونفسية الإنسان في حالة الابتعاد عنه.. ويعرف بأنه حالة اضطراب إكلينيكي يستدل عليها بوجود "ظاهرة التحمل Tolerance" أي الميل إلى زيادة ساعات استخدام الإنترنت لإشباع الرغبة نفسها التي كانت تشبعها من قبل ساعات أقل..
وأيضا ظاهرة "الانسحاب Withdrawal" أي المعاناة من أعراض نفسية وجسمية عند انقطاع الاتصال بالشبكة ومنها التوتر النفسي الحركي "حركات عصبية زائدة" والقلق وتركز التفكير بشكل قهري حول الإنترنت وما يجري فيها.. وأحلام وتخيلات مرتبطة بالإنترنت وحركات إرادية ولا إرادية تؤديها الأصابع على الكمبيوتر والرغبة في العودة إلى استخدام الإنترنت للتخفيف أو تجنب أعراض الانسحاب..
إضافة إلى الميل إلى الاستخدام بمعدل أكثر تكراراً أو لمدة زمنية أطول...، وهناك في إفادتك في الواقع ما يشير إلى وجود هذه العلامات كلها في حالة أختك إلا أنك في الجزء الأخير من إفادتك أضفت لنا معلومات نحمد الله أنك لم تنس إضافتها إذ تقولين (أختي هذه تمتاز طول عمرها بالإتقان والدقة ودائما تحب ترتيب كل شيء زيادة عن اللزوم، وتهتم جدا بمظهرها وهيئتها حتى أنها من الممكن أن تضبط الخمار عدة مرات أثناء زيارتنا لأحد الأقرباء، أيام كانت تخرج معنا، كما أنها تهتم جدا بنظافتها وتصفيف شعرها وإن كانت تقطعه أحيانا وهي أمام الكومبيوتر، كما أنها كثيرًا ما تهز رجلها بطريقة مستفزة ولا تستطيع منع ذلك).
فهذه العبارات تشير إلى أننا ربما نتحرك داخل نطاق اضطرابات الوسواس القهري OCD Spectrum، خاصةً وأن إدمان الإنترنت ينتظر أن يصنف تحت اضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders، وهي أحد محتويات نطاق الوسواس القهري.
ومعنى ذلك هو أن أختك قد تكونُ لديها معاناةٌ نفسيةٌ غير تلك التي تعرفون بها، وأنها ربما تخفيها وتعتبرها سرا من أسرارها وهو ما يحتم عليكم استشارة أقرب طبيب نفسي. وبوجه عام نحب أن نقول لك أن إدمان الإنترنت ولله الحمد ليس في أغلب الحالات من أنواع الإدمان التي يصعب الخلاص منها أو علاجها، فلا تنطبق عليه مقولة أنه داء بلا دواء، وهناك عدة طرق للعلاج أول ثلاث منها تتمثل في تغيير الوقت الذي يجلس فيه الشخص على النت أو تأجيله بشكل أو بآخر والطريقة الثانية هي إيجاد بعض الموانع الخارجية كضبط ساعة منبهةٍ قبل بداية دخوله الإنترنت بحيث ينوي الدخول على الإنترنت ساعة واحدة قبل النزول للجامعة مثلاً ـ حتى لا يندمج في الإنترنت.
والطريقة الثالثة هي أن يطلب من المريض تقليل وتنظيم ساعات استخدامه بحيث إذا كان –مثلاً- يدخل على الإنترنت لمدة 40 ساعة أسبوعيًّا نطلب منه التقليل إلى20 ساعة أسبوعيًّا، وتنظيم تلك الساعات بتوزيعها على أيام الأسبوع في ساعات محددة من اليوم بحيث لا يتعدى الجدول المحدد.
وإن كانت هذه الطرق الثلاثة –عادة- لا تكفي في حالة الإدمان الشديد، بل يجب استخدام وسائل أكثر هجومية مثل الامتناع التام عن استخدام أكثر مجالات استخدامه للإنترنت في حين تترك له حرية استخدام المجالات الأخرى، فإذا كان المريض مدمنًا لحجرات الحوارات الحية نطلب منه الامتناع عن تلك الوسيلة امتناعًا تامًا في حين نترك له حرية استخدام البحث مثلاً، كما يستفيد البعض من وضع بطاقات يكتب فيها مساوئ الاستخدام المفرط للإنترنت وتعلق بجوار الجهاز، كما يمكن أن تفيد مجموعات الدعم Support Groups، كما يحتاج الأمر في كثيرٍ من الأحيان إلى إشراك الأسرة كلها في العملية العلاجية، بل ربما في بعض الأحيان تحتاج الأسرة بأكملها إلى تلقي علاج أسري بسبب المشاكل الأسرية التي يحدثها إدمان الإنترنت بحيث يساعد الطبيب الأسرة على استعادة النقاش والحوار فيما بينها ولتقتنع الأسرة بمدى أهميتها في إعانة المريض ليقلع عن إدمانه.
إلا أن من المهم تذكيرك بأن حدسنا يشير إلى احتمالية وجود اضطرابٍ أعمق في حالة أختك، ونؤكد على أن وضع خطةٍ معينةٍ لعلاج حالةٍ بعينها يحتاج إلى معاينة المعالج النفسي للحالة، خاصةً وأن أختك (ولا ندري لماذا!!) لم تقم بالكتابة لنا بنفسها، وهو ما يعني أن مشكلاتٍ أخرى قد تكونَ خافيةً عليك وعلينا بالتالي، وفي النهاية نشكر لك ثقتك وننتظر متابعتك.