لقد كنت في حضرة الله فلماذا لم تعترض؟!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هذه مشاركة على استشارة: لقد كنت في حضرة الله فلماذا لم تعترض؟! أولا أشكر الأفاضل القائمين على الموقع لفتحهم المجال لنا لنشارك بآرائنا وتجاربنا فيما يعرضونه من مشاكل فهذه خطوة رائعة على طريق التقدم والتواصل بيننا كمسلمين.
ثانيا أوجه كلامي الآن للأخ السائل: استرعت شكواك انتباهي كثيرا، لأنني في يوم من أيام الماضي كنت مكانك، ولكن السبب الذي أوصلني إلى هذه الحالة مختلف تماما عن السبب الذي أوصلك أنت لهذه الحالة، أما عن سببي فهو الحياة الأسرية السيئة التي أحياها والتي تستطيع تسميتها بالجحيم، ولم أكن أجد سبيلا للخروج منها، حتى باب الزواج أغلق ولم أجد أنه باب الهرب الحقيقي مما أنا فيه.
وبقيت وحيدة أعاني وأجتر الآلام ولا أجد لها مخرجا، كم هو شعور مقيت ذلك الشعور باليأس ولأنه لم تعد هناك فائدة من أي شيء، إنه شعور قاتل: لا شيء يهم. تحوّلت إلى حجر، لا والله الحجر أفضل مني لأن له مهمة في هذه الدنيا، أما أنا.. فليس هناك ما يهم، كنت أحسد الحجر على أن له شيئا يهتم به، ويفعله، كانت هذه الفترة التي أمر بها تزامن وقت اندلاع الانتفاضة فكنت أعارضها وأقول بيني وبين نفسي: وما الفائدة، لماذا يهتمون ببيوتهم وبأبنائهم إلى هذا الحد، فيدافعون عنها بأرواحهم؟؟!! كنت أعلم أنه جهاد والجهاد فرض ولكنني لم أكن أراه مهما جدا، أي لو كنت مكانهم لنفّذته فقط لأنه أمر الله تعالى وليس لأنني أراه مهما.
مشاعر سلبية كثيرة كانت تغطي كل حياتي، حتى الشيء المفرح كنت أجد فيه معنى حزينا وكئيبا وأجده لا معنى له، حتى السماء الزرقاء وتغريد الطيور ورائحة الزهور لم تعد تعني لي شيئا سوى النوح والحزن والألم والكآبة، وأخيرا لا شيء يهم، حتى بسمة الطفل الصغير، كانت تبكيني لأنها تذكرني بآلامي، كنت أرى ألمي في كل ما حولي وطبعا كانت تنتابني فكرة الانتحار كثيرا، وكانت أيضا تراودني أفكار سيئة عن الله عز وجل، أنه ما خلقني إلا ليعذبني.... ووو؛
ولكن في قرارة نفسي كنت أعلم أن ما أنا فيه خطأ وأن الله تعالى لا يمكن أن يكون إلها سيئا، بل هو لطيف جدا خصوصا أنه قد كانت له سبحانه وتعالى مواقف رائعة معي عندما كنت أمر بأزمات فأدعوه فيلبيني فورا، ولكن لا أدري أهو إبليس عليه لعنة الله، أم هي النفس الأمارة بالسوء، أم هو الألم الشديد الذي كنت أتعرض له، لا أدري أي منها أفقدني بصيرتي، وربما كلها معا.
ولكن أظن أن تعرفي على الله تعالى في أوقات الرخاء هو الذي أنقذني في هذه الشدة، لقد وقف الله تعالى إلى جانبي هذه المرة أيضا وأنقذني مما أنا فيه، كان سبحانه وتعالى يعلم الأفكار التي تخطر في بالي عنه ولكنه كان يسمع دعائي له وتضرعي إليه واستغاثتي به فلم يكن ذلك عائقا عن تقديم مساعدته لي، أنا لا أستطيع أن أوفي الله تعالى حقه أبدا مهما حاولت في هذه الدنيا لأن ما قدّمه لي أكبر بكثير مما يمكنني أنا أن أفعله، لقد أنقذني وهو أهل لذلك دائما، بل إنه سبحانه وتعالى كان يهيّئ لي أمورا قد تبدو غريبة ليجذبني إليه.
فأذكر أنه مرة –وكانت هذه الحادثة منذ سنتين تماما وفي الصيف– كنت نائمة ، واستيقظت قبل الفجر بحوالي ربع ساعة وكأن أحدا ما أيقظني، استيقظت على رائحة جميلة جدا كانت تأتي من الشرفة إلى الغرفة التي أنام فيها والمطلة مباشرة على هذه الشرفة، رائحة ليست برائحة الياسمين ولا الفل ولا الورد، رائحة أجمل بكثير فتبعت هذه الرائحة إلى الشرفة وبحثت عن مصدرها فوجدتها تنبعث من ثياب الصلاة –فنحن في الصيف نصلي على الشرفة ابتغاء النسمات العليلة-.... فحسبت أن والدتي قد عطّرت ثياب الصلاة بهذا العطر، ولشدة جمال هذا العطر قررت أن أصلي قيام الليل قبل أن يؤذن الفجر، ثم في الصباح سألت والدتي عن ذلك العطر فقالت بأنها لم تعطر ثياب الصلاة بشيء وكانت الرائحة لا تزال عالقة بها.
قصصت عليك هذه الحادثة لأقول لك الله سبحانه وتعالى لم يخلقك لينساك، حاشا وكلا، إنه إله رائع بكل ما في هذه الكلمة من معاني الروعة. ستجد ولا بد فيما حولك نسائم تدلك عليه، لم تكن هذه الرائحة هي آخر المطاف، بل أوله، فقد كانت هدية الله تعالى التالية لي هي أنني تعرفت على موقع إسلام أون لاين وعلى الناس الذين يعملون به من مثل الدكتور أحمد عبد الله والأستاذة منى يونس وغيرهما، لقد سحروني وبهروني بفهمهم للدين والدنيا، وبدأت اتجاهاتي في التفكير تتعدّل على أيديهم، أي حدث لي ما يشبه غسيل الدماغ ولكنه غسيل بالمعنى السليم وليس السقيم.
ثم جاءت هدية الله تعالى الثالثة لي وهي أنني تعرّفت على عمرو خالد في رمضان، فكان الغسيل هذه المرة للقلب والروح، وبدأت في هذا الرمضان أستعيد تفاعلي مع القرآن حين أقرأه بعد أن كان لي سنوات أقرأ ولا أفهم منه شيئا، أقرأ لأنه يجب أن أقرأ، مع أنني قبل هذه السنوات الكالحة من حياتي مرت بي سنوات من الصفاء مع القرآن في منتهى الروعة.
هل سمعت وصف الصحابة حين كانوا يصفون قراءة النبي للقرآن أنه إذا مرّ بآية عذاب اقشعّر لها جلده وإذا مرّ بآية فيها ذكر النعيم تهللت أساريره، تفاعل عالي جدا مع القرآن، كنت أنا هكذا، ثم لا شيء، لم أعد أستطيع التركيز لأكثر من سطر أو سطرين من كل صفحة، حالة سيئة جدا ولكنها وبفضل الله تعالى وحده انقضت وأنا لا أزال في تحسّن مستمر فلله الحمد.
يا أخي؛ ما سردت لك قصتي التي أعلم أنك لن تهتم بها الآن إلا لأخبرك بالطريق الذي مشاني فيه ربي عز وجل عسى أن تمشي أنت أيضا فيه، فخسارة كبيرة أن نفقدك، فالإسلام بحاجة إلى الواعين أمثالك.
أما طريقة الخلاص:
1- صحح علاقتك بالله عز وجل مهما حدث لك فلا تسمح للشيطان من أن يفقدك ثقتك بربك هو سيكون معك وسينقذك لا محالة طالما أنك تدعوه وترجوه –من قلبك-. اطلب منه أن يهديك الصراط المستقيم، اطلب بقلبك وليس بلسانك فالدعاء لا يستجاب إلا إذا كان من القلب وكان فيه تذلل لله عز وجل... ادع بهذا الدعاء: "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه" "يا حيّ يا قيوم برحمتك أستغيث، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله"، "رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري".. لا تقطع الاتصال بالله عز وجل فهو وحده الذي يستطيع أن ينقذك مما أنت فيه.
2- أنصحك بأن تستعين على تحسين علاقتك بالله عز وجل بأشرطة عمرو خالد في إصلاح القلوب، وستجدها على موقعه وفهذه ستصحح عندك الكثير من المفاهيم المعوجّة في رأسك عن الله.
3- تابع موقع إسلام أون لاين وهذا الموقع أيضا، فالناس الذين فيهما من خيرة الناس في هذه الأرض، أسأل الله لهم القبول.
4- اعمل شيء للدين، طبعا الوضع الطبيعي لك كمسلم ولكل مسلم أن يكون دعوة متحركة للإسلام، لا أقصد بهذا القول أن تعطي دروس في كل مكان تذهب إليه، لا فهذا آخر مرحلة من مراحل الدعوة، وقبلها مراحل كثيرة لا بد من اجتيازها وأولها: أن تكون دعوة صامتة، أي أن تكون قدوة لكل من حولك بأخلاقك وبتفوقك وبنجاحك في دراستك وبعملك، وفي مساعدتك للآخرين، وصدقني أن ما ستقوله للناس في ألف عام بلسانك، تستطيع أن تقوله لهم بنصف ساعة دون أن ينطق لسانك وذلك حين تنطق جوارحك وأخلاقك وأفكارك، عندما تجد أنك بدأت ترشد الناس للطريق الصحيح في أي مجال: دين ودنيا، ستحس بالسعادة الغامرة، وعندها ستجد أن هناك شيئا يهم، شيء جميل تشعر به في قلبك لأنك تعمل الآن عند الله وسيكافئك الله على قدر كرمه وليس على قدر جهدك.
هذه همسة أحببت أن أهمس بها في أذنك يا أخي ، ربما استطعت أن أضيء لك مصباحا تخرج به من حيرتك.
نصيحة أخيرة: أرجوك.... لا تتردد في تنفيذ نصيحتي، أعلم أنك ستجدها غير ذات جدوى ولكن إذا طبقتها هل ستخسر أكثر مما خسرته في هذه الدنيا؟؟
لم يعد هناك خسارة أكبر، إذا حاول هذه المحاولة الأخيرة، قد تنفع، من يدري،
أعانك الله على ما أنت فيه وفرّج عنك كربتك أنت وجميع المسلمين وأنا معهم يا رب العالمين....
آمين. وجزاكم الله كل خير
2/10/2003
رد المستشار
أهلا وسهلا بك أيتها الأخت العزيزة، ومرحبا بمشاركتك القيمة، الحقيقة أن مشاركتك أثلجت صدورنا، وحفزتنا لنشرها بسرعة كما جاءت، ولا نراها بحاجة لا إلى تعديل ولا إلى إضافة، ونتمنى أن ينفع الله بها الأخ السائل وأن تعيد معرفته بوجود أمثالك واطلاعه على تجاربهم له بعض الثقة بنفسه وبدينه وبربه.
لقد أشرت من بين ما أشرت إليه أيتها الأخت العزيزة في ثنايا إفادتك إلى نقطتين في منتهى الأهمية، النقطة الأولى تتعلق بكيفية تأثير الأحداث الدامية الجارية لأمتنا الإسلامية على امتدادها، فبينما تولد عند بعضنا شعورًا باليأس وربما سقوطًا في براثن الاكتئاب، فإنها تنقذ بعضنا في نفس الوقت (ربما بتأثير يشبه تأثير الصدمة) من حالة اللا شيء يهم أو اللامبالاة أو ربما الاكتئاب، وهذا هو ما يستدعي التوقف والتأمل إذ كيف يتسببُ مناخٌ عامٌ من الأحداث المؤسفة التي تلم بأمتنا في اكتئاب البعض وفي إفاقة البعض من اكتئابهم؟
الحقيقة هي أن الإجابة تكمن في كيفية الفهم والتفاعل والتوجه العام من الفرد لتلك الأحداث، فهناك من يشعر بالعجز إزاءها، وهذا بالمناسبة ما تسعى القوى الاستعمارية الجديدة بقيادة الشيطان الأكبر (الولايات المتحدة الأمريكية كما سماها الإمام الخميني رحمه الله) إلى تعزيزه، بحيث أننا نحاصر من كل جهة ومن كل نافذة إعلامية بصور القتل والامتهان لأهلنا من المسلمين في كل مكان، بينما نشعر نحن بالعجز، فماذا نفعل؟ إن أي فعل يتادر إلى أذهاننا فورا قد يضعنا في مواجهة مباشرة مع السلطات المحلية هذا الذي يعون إلى ترسيخه في نفوسنا كعرب وكمسلمين بوجه عام هو ما نسميه بالعجز المتعلم Learned Helplessness ،
وسأضرب لك مثلاً لكي تفهمي المقصد من كلامي فعندما بدأت انتفاضة الأقصى المباركة، بدأ الإعلام الغربي وتابعه قفا (عفوا أقصد وتابعه العربي)، بدأ بالتركيز غير المبرر على صور السحل والقتل والدمار في جنين وغيرها، وأتبع ذلك وخلله بمناقشات وحوارات وتعليقات حماسية مستفزة، وعندما خرج الشباب متظاهرين للتعبير عن مشاعرهم الجياشة أتدرين ماذا حل بهم؟ لقد وضعوا في السجون!، إذن ماذا يفعلون؟ إذا كانت كل طرق التعبير مغلقة في وجوههم، في نفس الوقت الذي يستفزهم فيه الإعلام!، وهذا ما ذكرني وقتها أنا وأخي الدكتور أحمد عبد الله بتلك التجربة التي يوضع فيها الفأر في قفص التجارب ويتعلم في البداية مثلاً أن الضغط على الزرار الأبيض يؤدي إلى نزول قطرة ماء والضغط على الزرار الأخضر إلى نزول قطعة من طعامه المفضل بينما الضغط على الزرار الأزرق يعطيه رائحةً يحبها مثلا، أما الزرار الأحمر فإنه يعطي لسعة ألم (بصدمة كهربية خفيفة)، وهكذا يعيش الفأر في القفص مدةً من الزمن بعد أن يتعلم تجنب الزرار الأحمر وضغط الأزرار الأخرى كلما احتاج إلى ذلك.
وعندما يعبث مصممو التجربة ببرمجة الأزرار، فمثلا عند مرحلة ما يؤدي الضغط على الزار الأبيض أو الأخضر إلى لا شيء، فيجوع الفأر، وبعد فترة يضغط على الزرار الأحمر فيلسع، وبعد فترة يجد أن كل الأزرار إذا ضغط عليها تعرض للسعة الكهربية! ماذا يفعل الفأر المسكين إنه يتحول إلى فأر مكتئب، وهذا هو العجز المتعلم الذي أرادوا أن نقع فيه، والذي أظن صاحب مشكلة لقد كنت في حضرة الله فلماذا لم تعترض؟!
على أغلب الظن واقعا فيه وفي نفس الوقت هناك من يجد نفسه متحفزًا للقيام بدور صحيح دون أن يصطدم بأحد وهذا هو ما يدعو إليه العقلاء من المسلمين، فأهم وأصوب رد فعل في الظروف الراهنة لأمتنا هو أن نحسن من عملنا كل في مجاله، وأن نتحرك من خلال مؤسسات المجتمع المدني من أجل تغيير الأفكار وتصحيح الصور، فأنا والله أشعر وأنا أخلص في سماع مرضاي أو في شرحي لطلابي في الجامعة بأنني أسدد اللكمات والصفعات للإدارة الأمريكية الغبية، ولعل هذا هو ما دعا إليه مقال الجهاد المدني.. الطريق إلى فعل مختلف، وهو أيضًا ما دعوت أنت له الأخ صاحب المشكلة في مشاركتك الرائعة.
وأما النقطة المهمة الثانية فهي أن نوضح للقارئ تفسير ما حدث معك كما يفهم من العبارة التالية في مشاركتك (تفاعل عالي جدا مع القرآن، كنت أنا هكذا ثم لا شيء، لم أعد أستطيع التركيز لأكثر من سطر أو سطرين من كل صفحة، حالة سيئة جدا ولكنها وبفضل الله تعالى وحده انقضت وأنا لا أزال في تحسّن مستمر...... فلله الحمد)، فما تصفينه هنا أيتها الأخت العزيزة هو نوبة من الاكتئاب الجسيم Major Depression ، والذي زال عنك بفضل الله عز وجل، لأن من أهم علاماته فقد القدرة على التركيز وعلى استشعار المشاعر الإيمانية بوجه خاص والعاطفة بوجه عام، حتى أن من أكثر الشكاوى ورودًا على مسامعنا كأطباء نفسيين شكوى مريضة الاكتئاب من إحساسها بفقد شعورها بحميمية علاقتها بالله سبحانه وتعالى، وأيضًا خوفها من عدم شعورها بطعم احتضانها لأطفالها!
وفي نهاية تعليقنا على مشاركتك لا نجد أمامنا إلا التعبير عن شكرنا وتقديرنا لك ولمساهمتك معنا وندعو الله أن يجزيك خير الجزاء، وأن يبقيك واحدة من جنود صفحتنا وأهلا بك دائما.