هذه متابعة مشاركتي في "الابنةُ المضطهدةُ ودبلوماسية العائلة" على مشكلة: الابنةُ المضطهدةُ ودبلوماسية العائلة واللتين أجابت عليها د.سحر طلعت.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
شكرا لك يا دكتور سحر لأنك تبنيتني وجعلتني: ابنتك, هذا أمر أسعدني كثيراً.. أنا لم أعد أحس باليتم منذ أن تعرفت عليكم.. فأسأل الله لكم مرافقة نبيه في الجنة لأنكم قد أحسنتم إلى الكثير من المساكين في هذه الأرض أمثالي.. آمين.. سأتابع الآن مع حضرتك هذا الموضوع الذي أريد فعلا أن أصل في نهايته إلى وضع خطوط عريضة أمشي عليها في علاقتي بوالدي..
1- شكرا يا دكتورة لأن حضرتك ذكرت لنا جانبا من تجربتك مع ابنتك.. ولكن يا سيدتي ما أريد فقط أن تعلميه هو أنه ليست كل المشاكل بين الآباء والأمهات من هذا النوع.. المشاكل التي تواجهينها هي من النوع الطبيعي.. ولكنني أطلب حلا لمشكلتي التي ليست طبيعية.. أعلم أنها ليست طبيعية.. آسفة لأنني أعيد وأكرر في نفس الفكرة التي حتى الآن لم تقتنعوا بها.. وأنا والله أعذركم.. لأننا نحن أنفسنا لم نصدقها إلا بعد وقت طويل من معايشتها.. ربما هو من باب عدم تصديق هذا الأمر اللامعقول.. أو هو من باب الدفاع عن أنفسنا ضد أن نفقد أعز شخصين في الوجود.. نفقدهما ليس بموتهما.. بل نفقدهما حين نكتشف الحقيقة.. ونكتشف أننا كنا مخدوعين طويلا..
المشاكل بين حضرتك وبين ابنتك – حفظها الله-.. بلاش مشاكل.. لنقل سوء تفاهم.. هو من طبيعة العمر الذي تمر به الفتاة الصغيرة.. وهومن طبيعة أنها في هذا العمر ترى أن كل من حولها مخطئ وهي الوحيدة التي تملك الأفكار والتصورات الصحيحة.. ولكن يبقى أمر مهم جدا يربط بينك وبينها وأظن أن حضرتك تعوّلين عليه في محاولاتك لتفادي ما يحدث قدر الإمكان والوصول بها إلى بر الأمان.. وهو: أنك أم.. لديك مواقف حب حقيقي وبذل وعطاء لابنتك.. لديك صدق في توجهك نحوها.. لديك ثوابت تتعاملين على أساسها معها.. ما يحدث بين حضرتك وبين ابنتك يحدث أيضا بين أختي وابنتها ذات ال16 سنة.. ومع أنني كنت أعتقد أن طرف المشكلة في الموضوع هو أختي لأنها لا تعلم شيئا عن قواعد وفنون التعامل مع الأطفال والمراهقين.
كنت ألومها هي دائما.. ولكنني في نفس الوقت كنت أجد ما ألوم عليه ابنتها.. كنت أستطيع أن أقول لابنتها: ألا تستطيعين أن تغفري لأمك عصبيتها في مقابل ما تغرقك به من اهتمام.. ريجيمك من الذي ساعدك فيه, من الذي تحمل عصبيتك ومشاكلك والنكد الذي كنت تضفينه على جو المنزل عندما تكونين جائعة أو غير راضية عن طعامك الذي تتناولينه؟؟ من الذي استطاع أن يؤمن لك جو الدراسة طوال شهرين قبل امتحان الشهادة الإعدادية في العام الماضي؟؟..
مع العلم أن أمها مريضة ومتعبة دائما.. من الذي بعد أن اكتسبت جسدا رشيقا يأخذك إلى السوق دائما ليشتري لك ما حرمت منه سنوات؟؟ (كل اللي نفسك فيه) ولا يعجبها أي شيء.. بل تريدك أن تكوني دائما كالأميرة الحسناء في كل مكان.. متناسية نفسها.. حتى أنك أنت نفسك تصرّين عليها لتشتري شيئا لنفسها فتقول لك: أنت يا حبيبتي الآن أهم مني.. وإذا لبست فكأنني لبست.. من؟؟ ومن؟؟ ومن؟؟ ألا تستطيعين أن تتجاوزي كل الاختلافات بينك وبينها على ضوء هذا البذل والعطاء الذي يكون على حسابها هي؟؟ هل تستطيعين أن تعيشي بدونها؟؟
بعد كل هذه المناقشة مع الفتاة والتي تكون في شدة غضبها من أمها أجدها أصبحت تبكي وتشعر بتأنيب الضمير لأنها أساءت إلى أحب شخص إلى قلبها: أمها، صحيح أنني لا أعتبر أن أختي أما مثالية في تربيتها لأولادها, ولكنني في نفس الوقت أعتبرها أما ناجحة لأنها حافظت على صورة الأم في نظر أبنائها أنها: رمز الصدق والعطاء والحنان..
سيدتي هذه ثوابت يجب أن تكون في شخصية الأم مهما كانت هذه الأم جاهلة أو حتى أمية.. أما الأم التي تعامل مع أبنائها وبناتها من منطلق: العند, والتسلط, والأنانية, والنفعية.. فلا أظن أن هذه الأم قد حازت على مقوّمات: الأم.. هل ما أقوله صحيح أم أنا مخطئة؟؟ أرجوك أخبريني.
2- ثم حضرتك تقولين بأن الأبناء حين يكبرون فإن عليهم دور في إزالة هذه الحالة بينهم وبين آبائهم.. طيب.. هل يستطيع الابن أو البنت أن يقوما بهذا الدور والوالد والوالدة لا يزالان ينظران إليه على أنه ( لا يفهم, وسيظل كل عمره لا يفهم, مع أنه) ويرون أن واجبه الوحيد في هذه الدنيا هو طاعتهما حتى ولوكانا يطلبان منه ما يدمر مستقبله؟؟ طبعا هما يعتقدان أنه إذا أطاعهما فإن الله سيعوّضه ببره لهما.. وينسيان أن مفهوم البر هو مختلف تماما.. كيف يقوم الابن بدوره في مد الجسور التي تحطمت مع والديه ثانية إذا كانا لا يريانه شيئا أصلا؟؟ ثم كيف سيفعل ذلك إذا كان الحوار أصلا ملغي من حياتهم جميعا.. إنما هم لهم أن يأمروا وعلى الأبناء أن ينفذوا.. فقط.. حتى مجرد الاستيضاح يعتبرونه قلة أدب.. وإذا استمر الولد في قلة أدبه فإن رد الفعل منهم هو التسفيه لرأيه ولكل ما يقوله.
بالله عليك لو أن لديك طريقة للتعامل في مثل هذه الأجواء فأخبريني. كيف نزيل الخلاف مع هذين الوالدين إذا كانا يريان أن مجرد الاختلاف معهما في وجهات النظر هو عقوق وأي عقوق؟؟ كيف وهما لا يريان ممن حولهم إلا أنهم مقصرون دائما في تقديم البر لهم.. والبر لا يكون إلا بالطاعة العمياء عند البعض, ولا يكون مطلقا عند البعض الآخر.. كيف لا يكون أصلا؟؟ عندما يكون الأب أو الأم من النوع الذي لا يعرف ماذا يريد في هذه الدنيا.. من أصغر شيء إلى أكبر شيء.. فكل دقيقة برأي.. فما يوجهون الطفل له الآن على أنه الأفضل يصبح غدا سيئا ويفرضون عليه خيارا ثالثا.. أو يعيدونه إلى الحالة الأولى..
هل يمكن إرضاء مثل هذا الشخص الذي هو نفسه لا يعرف ماذا يريد؟؟ هذا ونحن كبار ونملك مقدارا من الوعي وقد اقتربنا من الثلاثين!!! أما ونحن أطفالا ومراهقين.. ونتلقى هذه المعاملة.. برأيك كيف ينشأ هذا الطفل؟؟ ماذا يقول علم النفس في هذه الحالة؟؟ قد تقولين لي: ولكن ها أنت.. ما شاء الله عليك – شكرا - من القلة في هذه الدنيا الذين نفخر بهم..
سأقول لك السبب.. أنا لم أتلقى تربيتي فقط من والدي ووالدتي.. بل لقد رباني الله عز وجل.. نعم هو الذي تولّى تربيتي وتنشئتي. ووالله لو بقيت عمري كله أحمده وأشكر فضله على هذه النعمة فقط لما وفيته حقه.. تلقيت تربيتي منه من خلال الدين الذي أحببته وأنا في الخامسة من عمري, وانتسبت إلى مدرسة تعلمني إياه في سن مبكرة (11سنة).. وتستطيعين أن تقولي أنني في تلك الأيام كنت منعزلة تقريبا عن أهلي, لأنني كنت منشغلة بدراستي التي أخذت كل وقتي, ولأنه (مكانش حد فاضيلي) فلم أكن موضع اهتمامهم (السلبي) في ذلك الوقت, فالاهتمام كان موجها إلى إخوتي الأكبر مني.. أما أنا فلم يحن دوري بعد.. وحان دوري عندما صرت في الثامنة عشرة.. أي أنني في هذه المرحلة كنت أعاني ضغوطا من أهلي أقل بكثير مما عاناه إخوتي منهم في مثل هذه الفترة.
ولكن طبعا نالني نصيبي المقدر لي فيما بعد.. أي ليس عندنا تفرقة في المعاملة بين الأولاد والبنات, الكل يجب أن ينال نصيبه من الظلم والاضطهاد، (الحمد لله هذه المشكلة محلولة!!) انتسابي إلى تلك المدرسة كان بموافقة أهلي.. ولكن حتى هنا نشأت المشاكل بيني وبينهم.. لأنني كنت أرى تناقضا كبيرا بين ما أتعلمه في القرآن والسنة وبين ما أجده في البيت وعندما أفتح فمي وأتكلم عن ذلك كان الرد يأتيني أنا وهذه المدرسة التي تعلمني هذه التفاهات.. لم أكن أعلم أن والداي يعتبران أن كل نقد موجه لهما يعتبرانه هجوما على ذواتهما وشخصياتهما يستميتان في صده حتى ولو كان المهاجم يقول: قال الله وقال رسول الله..
سيدتي هذه مصيبة كبيرة.. وعندما بدأت أفهم كيف يريان الأمور صرت أتجنب تماما أن أنبههما على ما يفعلانه لأنهما سيزدادان تشبثا بما هما عليه بل وسيخطّئان القرآن والسنة بحجج واهية.. حسبي الله ونعم الوكيل.. وبناء على هذا الفهم لكتاب الله والعلم به, استطعت أن أميز الخطأ من الصواب بعيدا عن توجيهات والدي التي رفضتها, ولكن أنا كانت لي نشأة خاصة ليست لكل الأطفال والمراهقين الذين يمرون بنفس الظروف..
ومثال على ذلك: أختي الكبرى التي كانت ولا تزال تعاني مشاكل كبيرة مع الصلاة والدين.. لماذا لأن المشاكل التي كان والداي يفتعلانها معها في فترة مراهقتها كانت كلها باسم الدين: حراااااااااااااااااااااام.. هذا كل ما تعرفه من الدين فقط.. حرمانها من كل ما تحب.. صحيح أنها الآن تقارب الأربعين من العمر.. وتحاول جاهدة أن تحسّن علاقتها مع الله عز وجل.. ولكن يظل نفورها النفسي من كل ما يمت للدين بصلة قائما.. والآن لدي طفل وطفلة يمران بنفس تجربة أختي الكبرى.. فماذا أفعل معهما؟؟ وكيف أوجههما ليستطيعا هما أن يمشيا بتوازن على حد السيف.. هذه المشية التي حضرتك بكل علمك وخبرتك تجدينها صعبة.. كيف سيخوضها طفلان في العشرة والحادية عشرة من عمرهما؟؟!! كيف سيميزان هما - دون مستند من تربية أو توجيه إلا توجيه أهاليهم– بين الصواب والخطأ؟؟ هذا التوجيه الذي سيخرجهم في النهاية إلى دائرة رفض كل شيء.. هل سأظل أنا أقوم بوظيفة صمام الأمان بالنسبة لهما طيلة حياتي؟؟ وإذا تم نزعي – كصمام أمان - بطريقة أو بأخرى.. كيف سيكون الانفجار؟؟
3- حضرتك طرت من الفرح لأنك أصبحت أما, ولكن هناك أمهات يقتلهن الغم لأنه قد انتهى عهد حريتهن وجاء من ينغص عليهن صفو حياتهن, فيقررن أن ينتقمن منه.. تختلف الأساليب تبعا لاختلاف القدرة على الانتقام.. هل تدرين أن الغالبية يواسينني على تأخر زواجي بأنه: (لا تحزني لم يفتك شيء, فليس هناك ما يسر.. ماذا هناك؟؟ أعمال منزلية لا تنتهي.. وزوج لا يمكن إرضاؤه.. وأولاد مشاكسون معاندون ما إن يقدموا إلى الدنيا تنتهي فترة سعادتك)!!! أرأيت؟؟ هذا هو تصوّرهن عن الحياة والزواج والأطفال. قد تقولين في نفسك الآن: هنّ يقلن ذلك لأنهن يواسينك.. أما الحقيقة فبالتأكيد مختلفة..
هذا أيضا يا سيدتي خطأ.. لأنني وعندما كنت مخطوبة كانت نصائحهن لي: حاولي أن تؤخري الانجاب قدر استطاعتك, فما إن يأتي الأولاد ستتنغص حياتك.. وستنشأ المشاكل مع زوجك. أرأيت حضرتك هذه الأفكار في رؤوس الأمهات عن أولادهن وتصوّرهن عن فلذات أكبادهن؟؟؟ شكرا لأن حضرتك أعدت لي الثقة بالواقع.. بأن القاعدة هي في كثرة الآباء والأمهات الصالحين وأن الشواذ هي في الآباء والأمهات الصالحين.. أتمنى فعلا أن يكون الواقع كذلك.
4- بالنسبة للمرض النفسي الذي يصيب الأبناء من جراء تلقيهم معاملة كتلك المعاملة.. أنا قلت أن الابن سيكون في المستقبل أحد أمرين: إما أن يستسلم لوالديه وما يفعلانه به عندما يكون ذو شخصية هشّة ضعيفة لا تحتمل الصدمات. وإما أن يتمرد عليهما عندما يكون ذو شخصية قوية لا تقبل الضيم.. وهل الناس كلهم إلا واحد من هذين النمطين؟؟
نستطيع القول إذا أن أصحاب النموذج الأول ستصيبهم أمراض نفسية من نوع الاكتئاب والانطواء والقلق.. أي ما يلائم شخصياتهم. وأما صحاب النوع الثاني فأمراضهم النفسية ستكون من النوع العنيف العدواني.. أنا لا أفهم كثيرا في تفصيلات الأمراض النفسية.. ولكن وبحكم خبرتي الواقعية في هذا المجال توصلت إلى هذه النتيجة.. وأما الذين تمكنوا من تجاوز الأمر برمته دون آثار نفسية سيئة فأعتقد أنهم حالة خاصة.. فإما أن يكونوا قد تلقوا المساعدة الخارجية, أو وجدوا الأهل البديلين الذين حلّوا محل أهاليهم.. وهذا ما جعلهم يستطيعون التأقلم مع وضعهم.. أما الذين لا يزالون تحت وطأة انقلاب الموازين الطبيعية التي خلقها الله تعالى في الأم كأم وفي الأب كأب.. فالله وحده يعلم ما مصيرهم.. أسأل الله لهم الرحمة..
5- أما بالنسبة لاختلاف الأبناء في تعاملهم مع أهاليهم, فهذا أيضا صحيح.. ويتبع مدى النضج الذي وصل إليه الأبناء ويتبع أيضا أفكارهم وأخلاقياتهم.. كان أحدهم ينصحني لأخفف التوتر بيني وبين والدي – في الفترة التي كانت فيها المشاكل قائمة على قدم وساق – أن أحاول التقرب إليهم بالكلمة الحلوة.. وقال لي بالحرف الواحد: (أبوك وأمك بينضحك عليهم بسهولة.. بكلمتين بتأخذي منهم الذي تريدينه.)
ولكنني لم أفعل ذلك.. لأنني لم أرضى لنفسي أن تتدنى إلى هذا المستوى من التعامل الأناني والنفعي.. لم أكن أرضى أن أعامل والداي إلا بأرقى الأساليب.. لم أكن أقبل على نفسي هذا الكذب والنفاق.. لأنني كنت وما زلت أرى أن الصدق لا بديل عنه.. فلا أستطيع أن أقول لأمي: حبيبتي.. وأوافقها على كل آرائها وأفكارها التي تطرحها علي.. وأنا قلبي يقول أكرهك بل إنني في مرحلة لاحقة لم أعد أستطيع النظر في وجهها.. هذا ما لم أسطع أن أفعله.. لأنه من منطلق نفعي.. ومن منطلق أن أقول ما يرضيهم لأحصل على ما أريد.. لا أبدا.. لم أستطع.. ولكن الآن أستطيع أن أقول ذلك.. لماذا؟؟ ليس لأن مبادئي في الحياة تغيرت.. ولكن لأنني تعلمت شيئا مهما في الدين وهو: أن هذه الكلمة الحلوة وهذه النظرة الحانية للوالدين ترضي الله تعالى.. ومن مبدأ الإحسان إلى من أساء إلي..
ولأنني بدأت فعلا أشفق عليهما بعد أن فهمت كيف يفكران ولماذا يتصرفان.. وليس لأحصّل ما أريد.. ببساطة: هذه أنا.. قد أكون مثالية زيادة عن اللزوم, ولكن هذه طبيعتي التي أحاول قدر الإمكان الوصول بها إلى الوسط في كل شيء.
باختصار: هل من وصفة تحدد لي ما هو واجب علي تجاه والديّ فأعمله, وما هو حق لي فلا أفرط فيه؟ كيف أطيعهما بدون أن أدمر نفسي ماديا ومعنويا؟؟؟؟ ما هو لهما وما هو لي.. طبعا أنا أسأل هذا السؤال لأن لي والدان يريان أن لهما كل شيء وليس لي شيء. كيف السبيل للتعامل مع والدين يتصرفان دائما كالأطفال.. يتصرفان بردود أفعال.. وبمنطق (الشريك المخالف).. مع كل الظروف السابقة.
ومع كل الإحباطات التي تعرّضت لها في محاولاتي لتحسين العلاقة مع والدي.. فإنني الآن على استعداد لأعيد المحاولة تحت إشرافكم وتوجيهاتكم.. أريد أن تعود العلاقة... أو بعبارة أصح.. أريد أن تنشأ– لأنها لم تكن يوما- علاقة بنوة سوية بيني وبين أهلي.. ولكن بشرط أن لا تكون على حسابي.. لا يعني هذا الكلام أنني لست مستعدة لتقديم تنازلات وتضحيات.. بل سأفعل إن شاء الله.. ولكن ما أقصده أنه لن يكون ذلك على حساب قراراتي الهامة التي تحدد مسار حياتي.. فهذه لي وحدي.. وأقول هذا الكلام لأنني أعلم والداي جيدا.. هما من النوع – وكما قلت سابقا – الذي يرى أن حقه في الحياة أن يأمر وواجب ابنه أن يطيع مهما كان هذا الأمر تعسفيا أو ظالما أو كان قرارا لحظيا اتخذه ويتوقف عليه مستقبل ابنه.. لأنهما يعتقدان أن الله تعالى أمر الابن بالطاعة للوالدين مهما أمراه إلا في حالة الأمر بالشرك.. وأنه إن أطاعهما فإن الله تعالى سيعوضه وسيوفقه في حياته جزاء له على هذه الطاعة. ويا ليت في النهاية يرضيان!!
وبالمناسبة، أنا لم أتعلم كيف أتخذ قرار وكيف أحدد ما أريد إلا من خلال خذلانهم لي وأنا في أمس الحاجة لهم.. كما في موضوع اختيار شريك الحياة.. شكرا سيدتي الفاضلة على إتاحة المجال لمناقشة هذه المشكلة والتي أعلم أنها ليست مشكلتي وحدي بل هي مشكلة الكثيرات من بنات حواء غيري.. وآمل من كل قلبي أن يوفقنا الله تعالى في هذه المناقشة لنصل إلى نتيجة مرضية لكل الأطراف. وجزاكم الله كل خير.
أمامة
8/10/2003
رد المستشار
ابنتي الحبيبة: أهلا بك مرة ثانية ومرات متعددة فلعلك لا تدركين مقدار سعادتنا بكل ما يصلنا منكم، ولقد تزامن مع وصول متابعتك وصول مشاركة من إحدى صديقاتنا تقدم لك خلاصة تجربتها مع والدها وكيف تمكنت من التعايش مع هذه المشكلة وتجاوزت كل مشاعر المرارة والألم اللذان كان يمكن لهما أن يدمروها، وكأن هذه الصديقة ترشدنا إلى مبدأ في غاية الأهمية في حياتنا، وتطلب منا أن نتعامل مع مشكلات حياتنا منطلقين من هذا المبدأ.
هذا المبدأ قوامه: "ما لا يقتلني يقويني"، وبمعنى آخر أن نتلقى ما يواجهنا من صدمات بظهورنا ونعتبرها صدمات تدفعنا للأمام ولا نجعلها صدمات أو طرقات فوق رؤوسنا تهوي بنا إلى حضيض الحياة، وهذا المفهوم أوافق عليه وأدعمه بكل ما أوتيت من قوة، أما لماذا فلأن حياتنا دوما لن تخلو من منغصات بشكل أو بآخر، والدنيا ليست دار كمال وليست دار نعيم ورفاهية ولكنها دار شقاء، والسعادة الخالية من كل كدر لن تكون إلا في جنات النعيم، فهل من المعقول أن يوقفني كل عارض يطرأ على حياتي عن مواصلة المسير وأنا الإنسان الناضج الواعي؟!!
أما ما لا أتفق معها فيه فهو أنها تتجاهل تماما وجود والدها في الحياة، والمولى عز وجل ينصحنا بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً" صدق الله العظيم، وبالطبع لن يكون والداك أسوأ من أم مصعب بن عمير التي أذاقته العذاب ألوانا حتى يرتد عن دينه.
والمهم أنني لا أطالب ابن العاشرة والحادية عشرة بأن يسير على حد السيف ولكنني أطالب ابنة ناضجة وواعية مثلك ومثل كل صديق وصديقة يعاني من سوء علاقته بوالديه، أطالبكم بأن تسيروا على حد السيف من أجل أن تحافظوا على العلاقة بينكم وبين والديكم في أحسن الأحوال الممكنة، وأن تتبعوا مع هذا استراتيجية كسب القلوب، وما أقصده من السير على حد السيف هو ألا تنظروا بعين الرفض لكل آراء والديكم لمجرد أنها تصدر من هؤلاء الوالدين الذين أصبحتم ترفضونهما شكلا وموضوعا.
عليكم يا أبنائي ويا بناتي إن كان باب الحوار مغلقا تماما بينكم وبين والديكم أن تمرروا آراء ووجهات نظر والديكم في شئونكم الهامة على عقولكم وتنظروا إلى هذه الآراء بنظرة حيادية، فإذا وجدتم أن هذه الآراء يمكن أن يكون لها وجاهة عقلية فعليكم بدراستها من جميع جوانبها، وتبنيها على أنها اختياراتكم الشخصية، وإذا كان الأمر غير ذلك رفضتم بأدب مع الإصرار على ما ترونه الخيار الذي يحقق مصالحكم، والاستعانة بكل الوسائل التي تمكنكم من تحقيق ما ترونه الخيار الأنسب لكم، ومن أهم هذه الوسائل الاستعانة بمن له كلمة عندهم، وهنا لابد أن تكونوا على قناعة تامة وداخلية أن بر الوالدين لا يعني إطلاقا الطاعة المطلقة بدون قيد أو شرط، وهذا بالنسبة للشئون الهامة والمحورية، مع الحرص على تجنب الدخول في معارك من أجل أمور ليس لها نفس الأهمية القصوى.
ومع هذا كما قلت لك عليكم باتباع سياسة تليين القلوب واجتذابها، وذلك بالكلمة الحلوة وشكرهم عندما يقدمون لك أي معروف ولو كان صغيرا، وكذلك المعاملة بالحسنى وتجنب رفع الصوت، وحسن استقبال الوالدين والمسارعة لتقديم العون والدعم المادي والمعنوي لهما، وكذلك تقديم الهدايا اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا"، وكلما شعرت أنه لم تعد عندك القدرة على الاستمرار في هذه المعاملة فتذكري أن والديك اليوم يدبون على ظهر الأرض بأقدامهم والله سبحانه وحده من يعلم متى يطويهم الثرى، وساعتها سيتمنى أن يعودا للدنيا ليقدم لهما ما ينجيه هو من عذاب النار، فهل منا من يدرك معنى الحديث الشريف: "رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم.، فلن يكون حسن معاشرة الوالدين والتودد إليهما نفاقا أبدا يا بنيتي.
بنيتي الحبيبة: ومع كل هذا وقبل كل هذا عليك بالدعاء والضراعة إلى الله أن يعينك على بر والديك والإحسان إليهما، وتأكدي أن الله سبحانه لن يضيع ما تبذلينه من جهد، وإضافة إلى أحسن الجزاء الذي ينتظرك في الآخرة، فسوف يبارك لك في أولادك ويجعلهم لك نعم الذرية الصالحة، وسوف تكتسبين من خلال خبرتك في التعامل مع والديك خبرة في مجال التعامل الإنساني تمكنك من التعايش السوي مع الزوج وأهله والمحيطين بك سواء كانوا جيرانا أو رؤساء وزملاء عمل مما يرشحك لنيل أسباب النجاح الدنيوية، وأرجو ألا تغضبي مني أو تتصوري أنني كنت في صف والديك ونصرتهم عليك.
وإن ظهر من حديثي هذا فمنطلقي كان حرصي عليك وخوفي من أن تفقدي باب للخير مفتوح الآن أمامك على مصرعيه ولا يعلم الله متى يغلق، إلى جانب أنني كأم أدرك جيدا مدى عمق مشاعر الأم التي ترتبط بوليدها منذ أن يكون نطفة في أحشائها، ويزداد عمق هذه الرابطة مع كل يوم ومع كل حركة قبل وبعد الولادة، ومن أجل عيون هذا الصغير تتحمل مشاق ووهن الحمل، وتتحمل آلام الوالدة وآلام الحمل والتربية وسهر الليالي، وكل ذلك من أجل ضحكة من هذا الصغير أو لمسة حانية من كفه الرقيقة، كل هذا من أجل أن تستمتع لأجمل كلمة يمكن أن تنادى بها امرأة "ماما".
مع خالص دعواتي أن يعينكم المولى عز وجل وأن يفتح بينكم وبين والديكم بكل الخير، وأن يمتعكم جميعا في القريب العاجل بأن تستمتعوا بكلمات: "ماما" و"بابا" من صغارك.
ويتبع>>>>>: ابنتنا ترسم معالم استراتيجية التعامل مع الوالدين م. مشاركة