هل أنا مجنونة؟: نعم ولا، ولا ونعم!

رد المستشار

fiogf49gjkf0d

الابنة العزيزة، أهلا وسهلا بك وشكرًا على ثقتك في موقعنا مجانين، وفي صفحتكم استشارات مجانين، الحقيقة أن البرقية التي بعثتها لنا أو التلغراف الذي لم يكمل السطر الواحد، جاء يحمل قضيةً بل مجموعةً من القضايا الفكرية النفسية الاجتماعية الكبيرة، ولكننا عند أخذ سنوات عمرك التي عشت، وكذلك هواياتك وميولك وكذلك المعنى الذي يشير إليه بريدك الإليكتروني، عند أخذ ذلك كله في الاعتبار، نجد أنفسنا أمام فنانة في عمر الزهور تعيش مرحلة المراهقة بجمالها وآلامها وخضمها المتلاطم الأمواج وقد بدأت صراع الهوية مع المجتمع وأعلنت مثاليتها في مجتمع أصبح يقبل كل شيء عدا المثالية، ولم تزل تواجه حتى اتهموها أفراد ذلك المجتمع المهلل الذمم المثقوب الضمير بأنها مجنونة، نحن في الحقيقة نرحب بهذا النوع من الجنون لأنه الجنون الخلاق الذي يدير عجلة التغيير. المهم أننا نجد أمامنا فتاةً واعدةً بكل المقاييس، ونسأل الله أن يوفقك إلى كل ما تحبين ويرضيه سبحانه.

نبدأ بعد ذلك في قراءة نص التلغراف فهناك لديك مشكلةٌ تتلخص في أنك رافضةٌ للواقع بكل حواسك! وهنا تتداخل علينا بعدان عند تحليلنا لجملة رافضة للواقع بكل حواسي، فعندما تجيء هذه العبارة ممن تكتب في خانة الهوايات (القراءة، الشعر، الرسم)، فهناك بعد أن التعبير تعبيرٌ أدبي يجب أن نتعامل معه على أساس معناه الباطني لأن صاحبته فنانة، دون القصور على الكلمات بألفاظها كما كتبت، وهناك بعدُ أن من تكتب لنا هذه العبارة تشتكي لنا من معاناتها مع المجتمع وتعلن تمردها عليه وتشتكي أيضًا من اتهامها بالمثالية التي تصل إلى حد الجنون.

ونحن هنا سنتعامل من خلال البعد الثاني، ونناقش مثل هذا الموقف وهل هو ممكن أو صحيحٌ أم لا؟ فأن نرفض الواقع هذا ما يفعله كل المبدعين وكل المجددين وكل أصحاب القلوب النظيفة وكل الخيرين على اختلاف الأزمنة، وأن نرفض الواقع أيضًا هو ما مررنا به جميعا في سنوات مراهقتنا لأنه جزءٌ من الصراعات المهمة لكي نحدد هُـوَيَّـتـنا (أي من أنا؟ وماذا أريد؟ وإلى أين أتجه؟).
 
لكن رفض الواقع لا يصح أن يكونَ بكل الحواس، لسببٍ بسيط هو أن حواسك كلها إنما تحس الواقع الموجود بغض النظر عن قبوله أو رفضه، فكيف ترفضينه بكل حواسك؟ إن ذلك لا يكونُ إلا جزئيا أو أن تغيبي نفسك عن الوعي، أو أن تنفصلي تماما عن الواقع، وكل هذا مرفوض بالطبع، ثم كيف تعيشين في واقع مرفوض بكل الحواس، كيف ستتعاملين مع الأشياء وأنت لا تقبلينها بكل حواسك!؟ 
 
إذن كيف يكونُ رفض الواقع؟ إن رفض الواقع إنما يكون بأن نفهمه ونستوعبه أولاً جيدا ثم نفكرُ في كيفية تغييره إن كان ذلك ممكنا أو في مقدورنا أو هو من سلطتنا، أو على الأقل أن نحجم عن المشاركة في واقع مرفوض، ولكن ذلك لا يعني أن نغيب أنفسنا عنه أبدًا، وهنا يحضرني حديث سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم وفي رواية صحيحة (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولن أذهب معك بعيدًا في مناقشة تفسير هذا الحديث ولمن الأمر وكيفية التغيير ولكنني أسوقه لك هنا فقط لأقول لك إن قراءة هذا الحديث الشريف تبينُ أن أول ما يجب على المسلم هو أن يرى أي أن يستخدم حاسة البصر في إدراك الواقع، فإن رأى فيه منكرًا (أو غير مثالي)، فإن عليه أن يغيره بيده أي أنه سيلمس الواقع المرفوض، أو بلسانه أي بالقول وعليه أن يسمع ما سيقول لكي يسمعه الآخرون بالطبع، أو بقلبه أي أن يحجم عن المشاركة في ذلك الواقع المرفوض، لكنه في جميع الأحوال يجب ألا ينفصل عن ذلك الواقع، برفضه كليةً بحواسه أليس كذلك يا بنيتي؟
 
نأتي بعد ذلك إلى تحليل قولك (متمردة علي المجتمع)، فأي نوع من التمرد تقصدين، إن الشباب في مثل مرحلتك السنية كلهم يتمردون على المجتمع، ولكن أي مجتمع؟ هل هو مجتمع الأسرة أم العائلة أم المجتمع الكبير أم كل ذلك؟ وما هي المعطيات التي تتمردين عليها في ذلك المجتمع بنفس الترتيب؟ ونحن نخمن أنك تمرين الآن بمرحلة المراهقة المتأخرة (17-20) عاماً، فإذا كان تمردك على نماذج بعينها أو مفاهيم بعينها تحكم عليها الفطرة والدين والأخلاق بأنها خطأ، أي إذا كانت المثالية هي ما يحرك تمردك، فإن الأمر يصبح تمردنا من نفس نوع تمرد صفحتنا هذه بل وموقعنا كله، ولكننا أيضًا بالنظر إلى مرحلتك السنية.

نقول لك: إذا كانت أهدافك وغاياتك هي تغيير هذا المجتمع الذي نرفضه معك في سعينا لإصلاحه فإن عليك أن تحرصي على العمل الجاد المتقن في كل مجال، وكل إنسان في حياته حريص على تحقيق أهدافه وغاياته وأحرص الناس على ذلك هم من يتخذون الدعوة للإصلاح سبيلا لحياتهم في سبيل الله، فالحرص على تحقيق الأهداف والصبر على تحمل الصعاب والمشاق من مبادئ المصلح الناجح.
 
ولكن ألا ترين أن أمامك ما تزال دراسة يجب أن تكمليها بنجاح وتفوق؟ لأن إتقان العمل يجب أن يكونَ واحدًا من صفاتك؟ إذن فأنت تحتاجين إلى التأني والعمق في التفكير مثلما تحتاجين إلى الجدية في التنفيذ. والحقيقة أن بداية تكون القدرة على التفكير المجرد Abstract Thinking الذي يميز مرحلة المراهقة يفتح الطريق أمام المراهق لعالم من المثاليات والكمال، فمن الممكن للمراهق أن يتخيل عائلة بديلة، وأنظمة دينية وسياسية وأخلاقية مختلفة، ويريد أن يكتشف كل هذه الاحتمالات الجديدة، وعبر هذه الطريق يصل المراهق إلى تحديد قيمه وهواياته وميوله الشخصية.
 
فمثالية المراهق تجعله يبني تطلعات سامية نحو عالم كامل من دون ظلم، ولا بؤس، ولا تمييز، ومن ثم يصر على أنه يتطابق الواقع مع هذا العالم المثالي، لذلك تراه لا يتحمل نواقص الحياة اليومية. هذا هو ما نسميه الفجوة بين الأجيال، جيل الوالدين وجيل المراهق، وهذه الفجوة تخلق الكثير من التوتر في العائلة، فيصبح دائم الانتقاد لأهله وأخوته الذين لا يطابقون العائلة المثالية التي يحلم بها.

إن كل الملاحظات المؤلمة التي يوجهها المراهق لأهله قد تبدو لنا، في انطباع أول، بغيضة وغير حساسة ومتطلبة، ولكن يجب أيضاً أن ندرك أن لها محاسن في المدى البعيد: عندما يتعلم المراهق أن للناس حوله نقاط ضعف ومواطن قوة، يصبح قادراً على العمل نحو التغيير الاجتماعي، وعلى بناء علاقات اجتماعية إيجابية قادرة على البقاء، فعلى الأهل مساعدة أولادهم في صياغة توازن أكبر بين المثالي والواقعي، ويتم ذلك من خلال تحملهم الصبور لهذه الانتقادات مهما كانت لاذعة، وتذكيرهم أن كل الناس، بمن فيهم المراهقين، هم مزيج من الفضائل والنواقص.
 
نحن إذن نستطيع أن نستنتجَ مما ذكرته في برقيتك، وخاصةً من اتهامك بالجنون أن هنالك مشكلاتٍ تحدثُ بينك وبين المحيطين بك ومنهم أعضاء أسرتك في الغالب، ونحيلك لهذا السبب إلى عدة مشكلاتٍ معروضةٍ على هذه الصفحة استشارات مجانين، ليس لأنك تمرين بنفس المشكلة أو بمشاكل شبيهةٍ بها ولكن لأن مستشاري مجانين قالوا في تلك الردود ما نود قوله لك فانقري العناوين التالية :
الابنةُ المضطهدةُ ودبلوماسية العائلة!
الابنةُ المضطهدةُ ودبلوماسية العائلة...مشاركة
صراع الهوية المتأخر؟ أم ماذا؟! 
كيف أواجه مراهقة ابنتي. 
 
وهناك نقطةٌ لعلها من أهم النقاط في هذا المضمار وهي المثالية التي أشرت إليها والتي يتهمك المحيطون بك بالجنون بسببها، فالمثالية في مثل سنك هي أحد القضايا الفكرية المعرفية الرئيسية التي تلح عليك، كما تكونُ مصحوبةً بحدة الرأي (المثالي) أيضًا وذلك بسبب القطعية (الحتمية) وهي أحد مميزات طريقة التفكير في المراهقة المتأخرة، لكنها تتسببُ في كثيرٍ من المشاكل مع المحيطين بالشخص، لأن الرأي عندما يكونُ مثاليا وقاطعا غير قابل للنقاش فإنه يستفز الكبار خاصةً أولئك الذين ضعفت مثاليتهم كما ضعف إيمانهم بقدرتهم على التغيير وذلك من خلال الهزائم المتكررة التي غالبا ما تكونُ أصابتهم بسبب اندفاعهم وتشبثهم بآرائهم رغم إمكاناتهم المحدودة أثناء مراهقتهم.

والذي يحدث نتيجةً لذلك هو أنهم تتغير طريقة تفكيرهم من المثالية والقطعية المتمثلة في أن السلوك أما أبيض أو أسود إلى التبادلية والنسبية والواقعية أي الرضوخ للواقع الذي ترفضينه الآن بكيانك الشاب، ونحن لا نريدك أن تهزمي ولا أن توصفي بالجنون إلا بمعانيه التي نستخدمه نحن بها وهي كلها تحمل من التجديد والابتكار والإبداع أكثر مما تحمل من المعاني المشوهة للجنون، ولعلنا لأننا لا نعرف كيف ستتصرفين فإننا سنسمي ردنا عليك: "هل أنا مجنونة؟: نعم ولا، ولا ونعم!"
 
إن نصيحتنا لك إذن هي أن تحاولي قدر الإمكان تأجيل الرغبة في التغيير وتحقيق المثالية التي تهدفين إليها، ولكن عندما تصبح لك المقومات التي تسمح لك بالتغيير، لأن المرحلة التي تمرين بها الآن تحتاج منك إلى التسلح بكل ما يمكنك من أسلحة، لكي تكوني أقوى في المستقبل بما يسمح لك بالعمل في اتجاه ما تريدين دون اصطدام بالقريبين منك والذين يفترض أن يدعموا توجهاتك النبيلة لا أن تكونَ سببًا في استفزازهم، ولعل مصادر القوة التي يجب عليك أن تستغليها الآن هي الدراسة والثقافة وما تستطيعين من النشاط الاجتماعي البناء.
 
ونقول لك يا صغيرتي إن الواقع (الذي لن ترفضيه بكل حواسك مرةً أخرى) يقول لمن يريد التغيير: إمكاناتك محدودة وآمالك عريضة وتحدياتك عاتية ويمكنك أن تتمثلي قول الشاعر مع الانتباه لتوصيته بالصبر على الصعاب التي يتحملها بل ويستسهلها حتى يدرك ما يريد: لأسْتَسْهِلَـنَّ الصعْبَ أو أدركُ المُنى فما انْـقَادَتِ الآمالُ إلا لصابرِ!

ونذكرك مرةً أخرى بأننا لابد أن نلمس الواقع بكل حواسنا أولاً ثم نحدد ماذا نرفض ومتى نكونُ جاهزين لإعلان ذلك الرفض ومتى نكون قادرين على إحداث التغيير، وفقك الله، وزادك جنونا من النوع الخاص بمجانين.كوم ، وأهلا بك دائما وتابعينا بأخبارك.

المستشار: أ.د وائل أبو هندي