السلام عليكم ورحمته وبركاته؛
أنا فتاة عمري 18سنة، مشكلتي منذ صغري هي أنني كثيرة التعلق جدا جدا بمن أحب، وإني لا أستطيع النوم وأمي خارج المنزل ولا حتى لليلة واحدة؛ فعندما تكون أمي في المستشفى أو تسافر في الإجازة تنتابني أحاسيس فظيعة مليئة بالحزن وأظل أبكي، وكذلك الحال مع رفيقتي عندما تكون في المستشفى أظل حزينة عليها، وأبكي وتصل معي إلى حد الهذيان أحيانا في الليل؛ لأن والديّ لا يسمحان لي بزيارتها عندما تكون في المستشفى.
وأحببت مؤخرا معلمتي في المدرسة مع أنها كانت تعاملنا بقسوة بعض الشيء، إلا أني أحببت فيها هذا الشيء، وتحدث لي نفس الأحاسيس السابقة إلى درجة مبالغة جدا؛ ففي آخر يوم دراسي في الأسبوع كنت أنقلب رأسا على عقب، ولا أعلم ما الذي يحدث لي وكأنني بين لحظة وأخرى أحس بأنني فقدت إنسانة أحببتها منذ زمن ولا أطيق فراقها.
المزيد من الملاحظات:
1- أنا الفتاة الوحيدة في الأسرة، ولدي أخوان اثنان، وعندما أبكي لا أحد يدري بي، ولا أحب إطلاقا أحدا أن يعلم بي؛ فعندما أبكي عيني لا تعرف التوقف عن البكاء والحزن يملؤني، مع أني دائمة قراءة القرآن ومواظبة على الصلاة، وأحاول بقدر استطاعتي ذكر الله تعالى.
2- أنا وأمي وأخواي ننام في غرفة واحدة، ولا ترضى أمي بأن أنام وحدي، كذلك لا ترضى بأن ينام إخوتي بعيدا عن الغرفة التي ننام فيها؛ وذلك خوفا علينا كما تقول، وأبي ينام في غرفة؛ نظرا للمشاكل التي لا تنتهي في البيت.
3- رفيقتي هي الرفيقة الوحيدة التي أحبها وأرتاح إليها أيضا، ولدي زميلات في الجامعة، وربما تتساءل: لماذا لم أقل صديقتي؟ لأنها لا تستفيد مني شيئا ولا أنا أيضا، سوى أنني أحبها وأتألم من أجلها عندما تكون في المستشفى، ولا زيارات فيما بيننا سوى أنني أتصل بها في الهاتف لأكلمها وأطمئن عليها، وهي لا تتصل بي بالمرة، وهي خجولة جدا جدا؛ فلذلك قررت أن أقطع علاقتي بها، وطلبت منها أن تساعدني على ذلك، ولكنها رفضت، وأصررت على أن يتم ذلك لكي أنساها مع أنني ما زلت أتصل بها دون علم أهلي الذين يرفضون علاقتي بها؛ لأنها مريضة، مع أن مرضها ليس خطيرا أو معديا.
4- معلمتي التي ما زلت حتى الآن أحبها وأتذكر مواقفها، مع أنني كنت لا أكلمها إلا نادرا وبشأن الدرس؛ فكنت أراقبها وأتبعها أحيانا مع رفيقتي، وأرسلت لها رسالة كتبت فيها أنني أحبها جدا، وأرسلت أيضا لها وردة تعبيراً عن حبي لها، ولكن دون أن تعرف من المرسل.
ربما أطلت عليكم في رسالتي، وأعتذر عن ذلك، ولكن أحببت أن أعطي فكرة عني وعمن أحب، ماذا أفعل الآن مع مشاعري وعواطفي التي تجبرني على أن أتعلق بمن أحب إلى درجة مبالغة فيها، مع أنني أحكم عقلي كثيرا ولكن دون جدوى؟
أريد حلا لهذه المشكلة.
ولكم مني جزيل الشكر والامتنان.
27/2/2007
رد المستشار
الابنة العزيزة؛ أهلا وسهلا بك، وشكرا على ثقتك.
الحقيقة أن المشكلة التي توضحها إفادتك قد تواترت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، ولا أدري هل السبب هو أنها لم تظهر بهذا الشكل إلا في الفترة الأخيرة أم أنها موجودة منذ الأزل؟ لكن السبب في تواتر الشكوى منها في الفترة الأخيرة هو زيادة الوعي بالمفاهيم السليمة للصحة النفسية التي تقوم صفحتنا استشارات مجانين بجهد رائد في نشرها خاصة بين فئات الشباب العربي، وأظن أن الاحتمال الثاني هو الأقرب للصواب.
تقولين في أول إفادتك:
"مشكلتي منذ صغري هي أنني كثيرة التعلق جدا جدا بمن أحب"، وهنا يبرز سؤال حول من تحبين، وهل هو شخص يتوقع أن تحبيه أم لا؟ فإذا كان شخصا ممن يقومون برعايتك في طفولتك مثلما ضربت لنا المثل بتعلقك الزائد بأمك فإن الأمر يكونُ تعلقًا زائدًا عن الحد فقط، أما إن كان التعلق يحدثُ مع أشخاص آخرين منذ عمر الطفولة -وهذا غير واضح في إفادتك- ودون أن يكونَ هناك ما يبرر ذلك التعلق بشكل يقبله المجتمع فإننا نكونُ نتحرك في إطار ما يسمى في الطب النفسي باضطراب التعلق غير المثبط في الطفولةDisinherited Attachment Disorder of Childhood، وهو نمط خاص من الأداء الاجتماعي غير الطبيعي الذي يبرز في السنوات الخمس الأولى من العمر، والذي إذا استقر يميل إلى الاستمرار بالرغم من تغيير البيئة المحيطة، وعند عمر السنتين يظهر غالبا على شكل سلوك التصاقي وتعلق عام وغير انتقائي التركيز، وفي عمر الأربع سنوات تبقى التعلقات العامة، ولكن الالتصاق يستبدل بسلوك مستلفت للانتباه وتحبيبي دون تمييز، وفي أواسط الطفولة وأواخرها قد يُكوّن الأفراد وقد لا يُكَوِّنُون تعلقات انتقائية، ولكن سلوك استلفات الانتباه Attention Seeking Behavior كثيرا ما يستمر، ومن المعتاد أن تكون هناك تفاعلات ضعيفة مع الأقران، وقد تصاحبها اختلالات من الانفعالات أو السلوك طبقا للظروف المحيطة.
وقد لوحظ هذا الاضطراب بوضوح في الأطفال الذين نشئوا في مؤسسات منذ سن الرضاعة، ولكنه قد يحدث أيضا في ظروف أخرى، ومن المعتقد أنه ينشأ جزئيا نتيجة عجز دائم عن خلق تعلقات انتقائية ثابتة نتيجة للتغيير المتكرر بين القائمين على العناية بالطفل، ووحدة المفهوم التي يستند إليها هذا التشخيص تعتمد على البداية المبكرة للتعلقات العامة، واستمرار فقْد التعلقات الاجتماعية وعدم ارتباط الحالة بوضع أو موضع معين.
وإفادتك بالطبع لم توضح لنا حدوث اضطراب أو تغير متكرر فيمن يقدمون لك الرعاية في سني طفولتك، وعلى العكس تبدو والدتك من النوع الذي يفرط في احتضان صغاره، وحرمانهم من محاولة الاستقلال كما يفهم من رفضها لنومك بعيدا عن حضنها، مع الانتباه إلى كونك البنت الوحيدة، وهذا ما يجعلنا نتحير في أمر سلوك التعلق غير المثبط من جانبك؛ ففضلا عن دور والدتك في تعزيز ذلك السلوك دون قصد منها، ولا ندري لماذا الأم كذلك؟
ونحتاج لمعرفة الكثير عنها، وهل محاولتها المستمرة لاحتضان بُنَـيَّيْها وبنتها تفسر في إطار الحوازية الوسواسية أم في إطار التعويض عن تقصير قديم أم في إطار بُعد آخر، لا ندري شيئا عنه لأنك لم تذكريه، تنقصنا هنا معلوماتٌ مهمة!
إلا أن التعامل مع شعور الميل أو التعلق بأخرى -من ناحيتك- يبدو مختلا بشكل كبير؛ فهناك انفلاتات شعورية معرفية تحدثُ منك، تعرفين أنت أنها غير منطقية، لكنك لم توضحي لنا إن كانت تخرج من إطار المشاعر والأفكار لديك إلى إطار السلوك المرئي الذي يراه الآخرون؛ فنفسر بذلك رفض أهلك لاستمرار علاقتك بالرفيقة وخوفهم عليك منها رغم أن مرضها غير معدٍ كما ذكرت في إفادتك، وهناك أيضا تلميح إلى نوع من النزوع للمازوخية في تعلقاتك أو ارتباطاتك التعلقية كما يفهم من الإشارة البعيدة في قولك عن معلمتك:
"وأحببت مؤخراً معلمتي في المدرسة مع أنها كانت تعاملنا بقسوة بعض الشيء إلا أني أحببت فيها هذا الشيء"، ثم تتبعين الجملة بقولك: "وتحدث لي نفس الأحاسيس السابقة إلى درجة مبالغة جدا"، ونحن بعد لم نفهم الأحاسيس جيدا؛ فهل الأحاسيس التي تشيرين إليها هنا هي المشار إليها في قولك السابق:
"فعندما تكون أمي في المستشفى أو تسافر في الإجازة تنتابني أحاسيس فظيعة مليئة بالحزن وأظل أبكي" .. فهل أنت اليوم تبكين كل هذا البكاء ولا يدري بك أحد؟
ويمكنك أن تعرفي بعض ما تجب معرفته عن المازوخية إذا قرأت ما تأخذك إليه الروابط التالية على موقعنا مجانين:
المازوخية
هل أنا طبيعية؟ أم مازوخية؟ متابعة
السادية والمازوخية: بين الطبيعي والمرضي!
ولا ندري كيف يستقيم كل ذلك مع ما يحمله قولك:
"وعندما أبكي لا أحد يدري بي، ولا أحب إطلاقا أحدا أن يعلم بي؛ فعندما أبكي فإن عيني لا تعرف التوقف عن البكاء والحزن يملؤني"، فهذا -المحمول في قولك- إن كان صحيحا مائة بالمائة يتنافى مع ما نتوقعه من مرضى التعلق غير المثبط؛ فهم غالبا ما يميلون إلى الإسراف في اللجوء إلى السلوكيات المستلفتة للانتباه Attention Seeking Behaviors، ومن بينها البكاء أمام الآخرين، وربما وصل الأمر أحيانا إلى حد إيذاء النفس المتعمد عند لحظات الفراق التي ترعبهم وتؤلمهم بشكل مفرط.
وإذا وصلنا إلى علاقتك برفيقتك الوحيدة (رغم وجود زميلات)، فإننا نجد الأمر أيضا مدعاة لكثير من التساؤلات؛ فرغم أنك اكتسبت القدرة على التعلق الانتقائي؛ كما يفهم من تركيزك في إفادتك على هذه الرفيقة المريضة التي يرفضُ أهلك علاقتك بها، ومن تعلقك بمعلمتك، لكن هناك ما يشير إلى أن لديك أيضا صعوبة في تشكل علاقات وثيقة حميمة مع الأقران، وهذا هو المعتاد في حالات التعلق غير المثبط في الطفولة عندما يكبرون.
لكن منع أهلك لك من عيادة رفيقة مريضة بمرض غير معدٍ يحتاج أيضا إلى وقفة منا؛ لأن معنى هذا أنك بسبب اضطرابك النفسي الذي أصبح مزمنا -باعتبار طول الفترة الزمنية- يظهر سلوكيا منك بشكل أو بآخر أمام أهلك وربما آخرين بشكل يجعلهم يحاولون الحد من تعلقاتك التي يرونها غير سوية بدرجة ما، وهذا الشكل السلوكي المرئي منك هو ما تحاولين إخفاءه في سطورك الإلكترونية هذه، وأنا هنا أخمن -والعلم عند الله- وجود نوع من السلوكيات المرئية منك يندرج تحت ما نسميه في علم النفس: سلوك توددي مستلفت للانتباه Attention Seeking Behavior، وهذه النوبات يرفضها أهلك ويعتبرونها بقايا من تصرفاتك الطفولية التي أزعجتهم كثيرا أثناء طفولتك، وكانت تتسم بانفلاتات بفرط التعلق دون تمييز؟ ربما أنا لا أدري، وأقول ما يقوله أي طبيب نفسي يريد أن يركز تصوراته على حالة مريض بعينها كي لا يتوه في متاهات النفس البشرية، أريد أن أعاين الحالة! بكل ملابساتها لكي أقول ما يجب أن يقال للحالة بعينها.
ثم ماذا يفهم من قولك في الملاحظة الرابعة:
"معلمتي التي ما زلت حتى الآن أحبها وأتذكر مواقفها مع أنني كنت لا أكلمها إلا نادرا وبشأن الدرس، فكنت أراقبها وأتبعها أحياناً مع رفيقتي".. هل معلمتك هذه كانت معلمتك في المرحلة الابتدائية؟ أم في مرحلتك الدراسية الحالية؟ هل هيَ ماضٍ تصرين على إحيائه؟ أم هي واقع تلاحقينه وتراقبينها كما تفعل الشرطة السرية؟ لم تذكري أنت لنا أكثر من "كنت أراقبها وأتبعها أحيانا"، لنعرف أنك انخرطت في سلوك الملاحقة أو المطاردة Stalking Behavior الذي تطاردين فيه من تحبين أو تتعلقين بها، وهو ما قد يكونُ سبب رسالة الحب السرية التي لا تحمل توقيعا!
وكذلك الوردة السرية التي تعني أن حرجا ما كبيرًا يمنعك من أن تقولي لمعلمتك "لم أكن أحبك".. فهل هذا ناتج عن خجلٍ مفرط من ناحيتك أنت؟ أم ناتج عن رد فعلها هي الرافض لسلوكياتك غير الناضجة معها من قبل؟
أنا طبعا لا أدري شيئا من هذا.. فهل حدث أصلا؟ وهل تعتقدين أنك أرسلت لنا كل ما يلزمنا من تفاصيل لنستطيع إرشادك إلى حل لمشكلتك؟ أظن لا، ولا.. جدا أيضًا!
يبدو أنك قررت تجريب سلوك الشرطة معنا، فأخذت من الرد أكثر كثيرا مما ذكرت في السؤال، ولكن لأنني مهتم في هذه الفترة بالتفكير في وسواس الحب!
ووسواس التعلق المثلي؛ فقد أردت أن أضع كثيرا من الأفكار في إجابتي هذه؛ لعلها تحثك على ذكر كم أكبر من التفاصيل والملابسات المحجوبة -عن وعي أو غير وعي أو عن كليهما معا- في هذه السطور الإلكترونية التي أرسلتها لنا، ولولا أني ارتضيت أمام الله أن أشير على الناس لأنصحهم في أفضل الحلول لأوجاعهم النفسية مع اعترافي بمحدودية القدرة لدي في هذه الحالة -أكثر من المعتاد الدائم طبعا في الإنسان- على فهم الأمور كلها المتعلقة بنفس من أعالج، لولا ذلك لاختصرت في إجابتي عليك!
إذن فلن أستطيع دون تفاصيل أكثر عن أسرتك أن أقول أكثر مما قلت عن حالتك التي بدا واضحا لي ولكل من يقرأ هذه السطور أنها تعاني ويعاني أهلها معها، ولا يدرون ما يفعلون، أو يدرون وخائفون أو رافضون أن تكونَ ابنتهم مصابة باضطراب نفسي سلوكي، وهم بالتالي لا يلجئون لطبيب نفسي أو معالج نفسي، ويحاولون قدر استطاعتهم أن يداروا نقاط الخلل، لا بد يا ابنتي أن تفاتحي أهلك في حاجتك إلى طبيب نفسي لتتخلصي من معاناتك، وأنا لا أستطيع أن أقول أكثر من أن لديَّ انطباعا عن وجود تاريخ لاضطراب التعلق غير المثبط أو على الأقل شكل من أشكال اضطرابات التعلق في الطفولة Attachment Disorders، وتهمني متابعة هذه الحالة كما تهم استشارات مجانين، فتابعينا بأسرارك أو على أقل القليل فتابعينا بأخبارك.