الإخوة الكرام لدي مشكلتان وأعانكم الله؛
الأولى: أنا طالب في كلية الشريعة في أحد البلاد العربية مغترب عن أهلي والحمد لله أحظى بالاحترام والمودة من كل من أقابلهم ولا أدري لذلك سبباً وأعاننا الله على شكر هذه النعمة. وذات مرة فوجئت بطلب أحد الإخوة الأفاضل الانضمام لجماعة "الإخوان المسلمين".. صعقني طلبه، وكنت قد قرأت كثيراً عن هذه الجماعة وعن أفكارها ومعتقداتها وأعلم مدى إسهامها في الدعوة غير أني الآن على مفترق طريقين:
فأنا أحب الدعوة وخصوصا الجانب الفردي وبالأخص ما يتعلق بالفكر، لكن كيف أطمئن إلى هذا الأخ فربما كان عميلا، والهاجس الأمني معروف ولا داعي للشرح، خصوصاً أن أهلي ينتظرون عودتي وفي نفس الوقت لا أريد أن أغادر إلا بعد أن أخدم ديني هنا وفي بلدي عندما أعود ولا أريد أن يكون همي التخرج والبحث عن مورد رزق ثم الزواج ثم إلى حفرة النسيان لا...
لا أريد أن أكون كما قال محمد الجواهري في قصيدته "تنويمة الجياع":
نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يداف في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام
تتنوري قرص الرغيف كدورة البدر التمام
وتَرَي زرائبك الفساح مبلطات بالرخام
إلى أن يقول :
نامي يساقط رزقك الموعود فوقك بانتظام
أنا الآن أشعر بألم كبير لأنني لم أقدم شيئا لديني فكيف أخرج من هذه الازدواجية وهذا التناقض وأيهما أفضل العمل الفردي أم الجماعي.
الثانية: أعاني بين فترة وأخرى رغبة جامحة في جلد الذات بشكل جنوني، بل إني أتلذذ بذلك -ولا أبالغ إذا قلت أن هذه اللذة تفوق لذة الطعام والنوم بل وربما كما أتخيل لذة الجنس- وخصوصا كلما طرق ذهني موضوع "الزواج" وأنا سأتخرج إلى البطالة ومن هنا أتصور كيف ستكون حياتي لا أجد ما يسد الرمق لي ولأهلي فكثيرا ما أظل مترددا نعم للزواج... لا.. نعم والحمد لله لي هدف لو وقف في وجهي من وقف فلن يمنعني بإذن الله عن تحقيقه حتى لو قضى كل الخلق موتى وبقيت وحيدا لكن في مسألة الزواج أجد أنني تائه.
ستقولون أخر هذا الموضوع ثم لكل حادث حديث، فأجيبكم أنني أحب الإعداد للمستقبل دون أن تأتيني المفاجآت وأضيف حتى لو قضى الله عز وجل أن لا أتزوج فإنني راض لكن كيف أتخلص من هذه العقدة "جلد الذات" أي كيف أعزز تطبيق حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -"إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر" في نفسي.
أريد أن أحيا حياتي بالأمل والصبر والعمل لديني الذي جاء لأخدمه لا ليخدمني كما فعل الصحابة رضي الله عنهم. وحتى يكون العلاج أجدى، أخبركم بمراحل تطور هذه العقدة.
أولا: في صغري كنت أموت من الخوف كلما اقترب موعد الامتحانات ليس منها وإنما من أبي حيث كان يتولى تدريسي الرياضيات وهذه المادة الوحيدة التي لا طاقة لي على فهمها، فكان الوالد يشرح ثم يعرض لي مسألة يحلها ويأتي بأخرى لأحلها لكنني من فرط الخوف لا أجيب حيث كان يضربني ويصيح بي وكان لهذا تأثيره النفسي الشديد علي أكثر من الضرب حتى أنني في بعض الأحيان كنت أتمنى الموت وبكل قوة -وأنا أقول هذا الآن وأضحك- استمر الوضع هكذا إلى أن أنهيت المرحلة الابتدائية فالمتوسطة.
ثانيا: في المرحلة المتوسطة إلى نهاية الثانوية أخذ الضرب يخف حتى أصبح معدوما غير أن التأثير النفسي ظل متقلبا.
الآن: بعد دخولي الجامعة -وبعد أن ضغطت علي الوالد- فوافق على مضض صار كل نقد ومن أي طرف كان حتى من أبي أعده لا يؤثر في والحمد لله غير أن العلة في جلدي لذاتي وليس من الآخرين وأطمئنكم أنني أحب والدي وأكن له كل احترام وهو كذلك وأنا أسامحه عما مضى وليس في قلبي أي شيء عليه بل وأدعو الله أن يغفر له ويتجاوز عنه غير أن ما يهمني الآن كيف أخرج من قفص جلد الذات.
19/2/2005
رد المستشار
الأخ العزيز أهلا وسهلا بك،
أبدأ أولاً معك باستغرابٍ لاستغرابك أن الآخرين يحترمونك ويشعرونك، وأنت لا تدري لذلك سببا لأقول لك أن السبب واضح وأن مستواك الفكري الناضج وتوجهك الخلقي وعزيمتك الواضحة، وثقافتك العربية الأصيلة وكثيرٌ ظاهرٌ يدعو كل من يعرفك إلى احترامك وإلى الرغبة في مودتك، بل وإلى محاولة ضمك إلى جماعته لأنك عنصر طيبٌ وواعد بإذن الله.
ولا يفوتني أن أشكرك على أبيات محمد مهدي الجواهري التي ذكرتني قراءتها بأيام الجامعة، فقد كنا نحفظ تلك القصيدة الطويلة الرائعة ونتغنى بها، وكانت مع أحدنا صورةً لها عن نسخة من جريدة الأوقات البغدادية العدد 28 الصادر في آذار سنة 1951 ، أخذها من مكتبة والده، وبغداد اليوم جرح نافر الدماء أعان الله أهلها وأهل العراق كلهم فاسأل الله عونه ونصره القريب.
أما عن مشكلتك الأولى وعن المفاضلة بين العمل الفردي والعمل الجماعي فإن في كل خير، ويد الله مع الجماعة، ولكن من المهم يا أخي أن تستبصر جيدا إلى أي جماعة تنضم ولأي هدف لأن الأمور اختلطت في زماننا وعباءة لفظ الأخوان المسلمين تسع كثيرين بعضهم يسير في اتجاهات ربما تضر أكثر مما تنفع، وما أراه شخصيا هو أن خدمة ديننا لا يشترط لها أن تنضم إلى ذاك الفريق أو غيره، وأنصحك أن تعتبر البناء الفردي مرحلةً أنت فيها الآن وأن استكمال ذلك البناء يقتضي منك كثيرا من الجهد والوقت، وعندما تشعر بأن أركان البناء قد اكتملت فإن منظورك سيكونُ أوسع وقدرتك على اختيار الجماعة التي تود الانضمام إليها وكذلك قدرتك على المفاضلة بين العمل الفردي والعمل الجماعي ستكونُ أعم وأشمل، ومن المهم هنا أن أبين لك ضرورة تقييم مثل تلك المسائل حسب معطيات الزمان والمكان الذي ستكونُ فيه وقتها، ولا أظن وضعك الآن كطالب مغترب يسمح لك بترف الحرية في التجريب، ولا أنت مطالبٌ بأن تقدم لدينك وأمتك خيرا من الكد والعمل في دراستك حتى تكونَ عالمًا جديرا بذلك الوصف وما أظن ذلك هينا، فصبرٌ جميل إذن ولا تقعن في مصيدة الشعور بالتناقض والازدواجية بينما أنت تطالب نفسك بغير ما هو مطلوب منها.
نقطةٌ أخرى أود مناقشتها معك هي رفضك لمن يقول لك أن لكل حادث حديث، ولن أختلف معك في أن من المهم أن نتفكرَ وأن نضع تصوراتنا حول المستقبل وكيف ستكون الأحوال، لكن ذلك يجبُ أن يكونَ في حدوده الطبيعية، بحيث لا يشغلك عن أداء واجبك هنا والآن، وبحيث لا يأخذُ الشكل المرضي الذي تسميه بجلد الذات، ولي معك في جلد الذات وقفة استبيان:
فهل تقصد بجلد الذات جلدها معنويا بمعنى اجترار الأفكار والمآلات السوداوية ولوم النفس وتقريعها؟ أم تقصد الجلد المادي بمعنى أنك تضربُ نفسك جلدًا؟ فعندما ذكرت أنك تجلد ذاتك وتجد لذةً في ذلك لا تعادلها لذة حتى أنك أوصلتها في تخيلك إلى حد أنها قد تكونُ ألذ من الجنس، عند هذا الحد من إفادتك كنت أحسبك تقصد الجلد المادي لنفسك، وعزز ذلك أول كلامك عن ضرب والدك أكرمه الله لك، ولكنك بعد ذلك جعلت الأمر يختلط علي حين بدأت تتحدث عن ما تقودك إليه الأفكار السود عندما تفكر في مسألة الزواج، واختلط الأمر أكثر عند كلامك عن كون العلة في جلدك أنت لنفسك وليس من الآخرين كما قلت، فأنا هنا بالفعل لا أدري هل تقصد جلد الذات ماديا أم معنويا؟ فعندنا في الطب النفسي مازوخية أخلاقية هي نوع من استعذاب سلوك هادم للذات Self defeating behavior، وعندنا أيضًا مازوخية جنسية أيضًا، واقرأ ما ظهر على مجانين من قبل عن المازوخية.
وأنا في الحقيقة لا أستطيع نسيان واحد من مرضاي الذين شغلتني الإمراضية النفسية Psychopathology لحالاتهم، فبينما هو رجلٌ نذر حياته للدعوة إلى سبيل الله وسافر أكثر من مرة كداعية، لكنه في نفس الوقت كان يعاني من عدة مشكلات نفسية منها أنه كان يغلق على نفسه باب غرفته ويظل يضربُ نفسه بعصا صغيرة وكان يجد في ذلك لذةً كبيرة، وعرفت منه أنه تعلم تلك العادة أثناء إحدى أسفاره في الهند، وكان استعذاب الألم الجسدي والمعنوي (أو كانت المازوخية) أحد أبعاد الإمراضية النفسية لحالته.
وأجدني مضطرا لإحالتك إلى الروابط التالية عن المازوخية لعلك تستطيع من خلالها تكوين وعي أعمق بالموضوع:
السادية والمازوخية : بين الطبيعي والمرضي !
هل أنا طبيعية أم مازوخية ؟
هل أنا طبيعية أم مازوخية ، م
السادية والمازوخية وحكم الشرع
فماذا يكونُ الأمرُ معك يا ترى؟ هل تستعذبُ الألم؟ وهل هو الألم الجسدي المادي أم الألم المعنوي أم كلاهما؟، أم أن الأمر مجرد استرسالٍ مع تخيلاتٍ وأفكار يفترضُ أنها تضايقك فإذا بها تسعدك وتعطيك لذةً ما؟ أرى أن توضيح المقصود أمرٌ لا مفر منه لكي أتمكن من تحديد أي الاتجاهات يجب عليك أن تسلك، وأهلا بك دائما فتابعني بالرد وبأخبارك الطيبة.
ويتبع >>>>>>: جلد الذات عقدة أم قفص؟.. م