جلد الذات عقدة أم قفص؟
السلام عليكم، أ.د. وائل أبو هندي، أنا صاحب مشكلة الطالب المغترب (جلد الذات عقدة أم قفص؟) الذي ذكر قصيدة الجواهري، وختمها بسؤال عن جلد الذات، وأنا الآن سأوضح ما هو المقصود بجلد الذات، إلا أنه لا بد لي أن أشكرك في البداية على الإجابة على السؤال الأول، وبقي السؤال الثاني وهو الأهم في نظري.
وأعني بجلد الذات الجلد المعنوي؛ إذ إن الوالد في السابق كان يتبع ضربه لي بالتقريع الشديد، وكان عندما يتركني لأحل مسألة ما ويخرج خارج الغرفة أحس برغبة قوية في الموت. والآن لم يصل الحال إلى جلد الذات المادي كما ذكرت بل إن الجلد المعنوي تضاعف؛ فبعد أن كان مصدره من الوالد صار من الوالد ومن نفسي، ثم صار من نفسي وبشكل فظيع. فإذا كنت مهموما أو وحيدا أو حدث لي موقف سلبي، أو حصلت لي مصيبة جاء جلد الذات المعنوي، ولا أبالغ إذا قلت: إنه أحيانا يأتيني فجأة ودون مقدمات، ولا أدري لذلك سببا.
لكنه بشكل أخص يأتيني عندما يطرقني موضوع الزواج؛ فأنا الآن طالب في كلية الشريعة، والغالب أنني سأتخرج إلى البطالة؛ فكيف أفكر في الزواج؟ وكيف سأنفق على أهلي؟ ولماذا أظلم بنت الناس معي؟ فبدلا من أن تكون خرجت من بيت والدها معززة مكرمة إذا بها تخرج إلى أحضان الفقر والفاقة.
يعزز هذا الكلام ما ألمحه من نظرات الإعجاب المتكررة التي أرى فيها الحب الذي يؤدي للزواج من بعض الفتيات المحجبات لي، وأول ما تقع عيني بعين إحداهن أرد طرفي خوفا من الله، وأنا أقول في داخلي: "لا تتعبي نفسك يا أختي بالإعجاب بي، وآآآه لو تعلمين بحالي. أنا لا أريد أن أعذبك بهذا الإعجاب، وبما سوف يكون عليه حالك بعد أن تتزوجيني".
وأحيانا وهي نادرة جدا بحمد الله أبادل النظرات وسرعان ما ألوم نفسي لذلك وأبدأ بجلد ذاتي المعنوي بشدة، "كيف لم أتق الله، كيف أزيد في معاناة هذه الفتاة إذ تحسب أنني مقدم على طلب يدها من خلال تبادل النظرات"، وأطمئنك أنني لم أقابل ولم أجلس أو أحادث أي فتاة إلا لضرورة، ونادرا جدا ما يحصل هذا مع مراقبة الله بل وأجبر الطرف الآخر على ذلك من خلال طبيعة الكلام.
وأنا أفكر في أبنائي ونظراتهم البريئة التي تقول: هل هذا جزاؤنا يا أبي أن نغدو دون ثياب ولعب جديدة؟ ولماذا أثقل على والدي إذا كان سيتكفل بي وبأهلي وأحمله عبئا فوق عبء؟ هل أنا أناني؟
وفي نفس الوقت لا أريد إلا أن أقضي وطري في الحلال، إنه أمر صعب أن تخير بين أمرين كلاهما مر، إما الزواج مع الفقر وإما البطالة مع الفقر كلاهما يضغط على الشهوة المستعرة التي تلهب سياطها الممرغة في زيت مغلي ظهرك العاري والتخطيط للمستقبل الذي يجعلك فوق فوهة بركان على بعد ثوان وينفجر.
حتى لا أطيل قل لي كيف أزيل هذا الكابوس بحيث لو قضى الله عز وجل ألا أتزوج فأرضى؟ أي كيف أعزز تطبيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر" في نفسي؟
أريد أن أحيا حياتي بالأمل والصبر والعيش مع زوجة صالحة إذا قضى الله ذلك والعمل لديني الذي جاء لأخدمه لا ليخدمني كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما ذكرت لك في سؤالي الذي أجبت عليه.
وأرجو ألا يطول ردك،
فلا تتصور كم مرة جلدت ذاتي معنويا وبقوة شديدة ربما لا أبالغ إذا قلت بأنها تجاوزت عشر مرات.
20/3/2005
رد المستشار
الأخ السائل العزيز أهلا وسهلا بك، وشكرا على متابعتك وعلى توضيحك ما التبس علينا فهمه في إفادتك الأولى، هو إذن جلد الذات المعنوي الذي تعاني منه كلما تعرضت لعقبة من عقبات الحياة، وكذلك كلما فكرت في الزواج، وأنا الآن أتذكر قولك في إفادتك الأولى:
(أعاني بين فترة وأخرى رغبة جامحة في جلد الذات بشكل جنوني بل وإني أتلذذ بذلك -ولا أبالغ إذا قلت إن هذه اللذة تفوق لذة الطعام والنوم بل وربما كما أتخيل لذة الجنس- وخصوصا كلما طرق ذهني موضوع "الزواج")، وأجد نفسي في حاجة إلى محاولة تشريح نقطتين في إفادتك، الأولى هي علاقة الألم باللذة وستكون مناقشة نفسية فلسفية نسأل الله أن يلهمنا الصواب فيها، والأخرى هي المتعلقة بنعمة التوكل على الله سبحانه وتعالى والثقة به عز وجل، ونسأله أن يمن على الجميع به.
فأما علاقة الألم باللذة فتبدو ملتبسة في فهمنا البشري، وليست هناك تفسيرات نفسحركية Psychodynamic مقنعة أو مثبتة تماما في هذا الصدد، ولكن هناك ظاهرة نفسية، خاصة فيما يتعلق بجلد الذات المعنوي، مفادها هو الاستمتاع بخيالات التعذيب والإهانة، والخوف من أن تكونَ دليلا على المازوخية، وعلى أي حال فإن الأمر فيما يتعلق بحالتك قد يكون بسيطا وناتجا عن مجرد عادة تم اكتسابها، ولم يشأ الله لك بعد أن تتخلص منها من خلال الحصول على متعة أكبر من سلوك حلال، وقد يكون ذا دلالات نفسية أعمق يشرحها معك المعالج النفسي.
ومن الممكن أن تكون المشكلة نوعا من أنواع أحلام اليقظة المؤلمة التي يشتكي البعض منها خاصة على الإنترنت، لكنهم يربطون بينها وبين الإثارة الجنسية أو التلذذ الجنسي، ونادرا ما يشتكي أحد منها دون أي رابط بالموضوع الجنسي المتخيل مثلما فعلت أنت في رسالتك الأولى والثانية، فأنت تصف اللذة المصاحبة لجلد الذات المعنوي بأنها تفوق لذة الطعام والنوم وربما كما تتخيل لذة الجنس.
وهنا يبرز سؤالان:
الأول هو ألا ترى معي أنك إنما تبالغ كثيرا بهذا الوصف؟
والآخر هو ماذا تقصد بلذة الجنس؟ تلك التي لا تعرفها وتخمن أنها ربما تكون أقل حلاوة من لذة جلد الذات المعنوي؟ سأقول لك أنا هنا إن لذة الإرجاز Orgasm (أي الوصول إلى ذروة اللذة في الجماع) هي أقصى درجة من اللذة يستطيع الجهاز العصبي البشري تحملها، وإنما تكمن المشكلة في حالات المازوخية غالبا في العجز عن الوصول إلى الإرجاز (أو الأداء المُرْضِي) دون الحصول على التعذيب أو الإهانة، بمعنى آخر إذا كان جلد الذات فعلا يعطيك لذة تعادل لذة الجنس دون أن تكون له علاقة بالجنس فإن حالتك ستكون فريدة بالفعل.
أصل معك بعد ذلك إلى النقطة الأخرى وهي المتعلقة بتخوفك المبالغ فيه من المستقبل المادي بعد الزواج، والذي لا أراه منطقيا في إطار إيمانك بالله وأرجو ألا يكون ردك هو أنك بحسابات العقل تعرف أنك لن تستطيع الإنفاق لأن البطالة تنتظرك... إلى آخر ذلك من أسباب إنما تفتح بها بابا لجلد الذات، وأنت هنا تذكرني بمن بعث لنا على موقع مجانين يقول: لم أعقلها بعد فكيف أتوكل؟ فرد عليه أخي الأستاذ مسعود صبري على الرابط التالي: العاطفة والعقل معا في سماء الحب.
واقرأ أيضًا: متاعب شاب: أم تفكير نكدي؟
وحقيقة الأمر كما أراها أو أحسبها أنا شخصيا هي أن شخصا بمواصفاتك ومهاراتك سيكون مطلوبا للعمل في أكثر من مكان خاصة في الفترة القادمة، فكم واحدا من خريجي كلية الشريعة في أيامنا هذه يمتلك اللغة السليمة واللسان العربي الصحيح والحس الأدبي العالي وفوق كل ذلك مهارة استخدام الكمبيوتر والإنترنت؟ معنى هذا أنك أسرفت في التفكير النكدي، بلا داع.
صحيح أن الضغوط الاقتصادية على منطقتنا الإسلامية كلها يتوقع أن تزيد بشكل مستعر في الفترة القادمة، لكن ذلك لا يعني أن تُعرض أنت عن الزواج، خاصة أنني أرى عزمك على الزواج جزءًا سيكون مهما في علاجك بإذن الله.
إذن فنصيحتي لك هي أن تبحث عن أقرب طبيب أو معالج نفسي متخصص ليتم التحاور بينكما عن قرب، وأسأل الله أن يوفقه في علاجك، وتابعنا بالتطورات.