السلام عليكم
الدكتور الفاضل وائل أبو هندي، أنا صاحبة المشكلة "الوسواس والحسد واللغة العربية" جزاك الله كل الخير على كلماتك الطيبة، إنها والله بعثت الأمل في قلبي، وأقسم بالله تساقطت دموعي من الفرح دون إرادة مني، أسأل الله أن يجعل كل هذا في ميزان حسناتك، اللهم آمين.
هناك مشكلة أُصبت بها هذه الأيام، وأتمنى أن تساعدني أخي الفاضل، وهي أنني سمعت أن دخول الجن في الإنسان قد يكون غضبا من الله، وأنا أشعر أن الشيء الثقيل هو جن؛ فهل ما أفكر به صحيح؟ وكيف أستطيع أن أكسب رضا الله؟
أبشرك: لقد ذهبت إلى طبيب نفسي، ولكن هناك شيئا يحيرني، لقد قلت: إنه يجب علي أن أقرأ القرآن بنفسي، أما الطبيب فقال لي: لا تقرئي القرآن كثيرا، وإنما استعيني بقارئة تقرأ عليك.
الدكتور الفاضل.. هل تعتقد فعلا أن ما بي ليس له علاقة بضعف الإيمان، وأنه فعلا مجرد مرض نفسي؟
أرجوك أرشدني.
2/10/2003
رد المستشار
الأخت الفاضلة، أهلا بك، وأشكرك على حسن متابعتك، وأسأل الله أن يوفق طبيبك النفسي إلى علاجك سريعًا، لكي تزول عنك الوساوس، ويزول عنك الشعور بالشيء الثقيل الذي تحسين به على صدرك، والذي فسره لك الشيخ -جزاه الله خيرًا- بأنَّهُ شيطان! وقد فصلت الرد لك في هذه النقطة من قبل، وبينت كيفَ أن هذا العرض هو علامةٌ من علامات اضطراب الاكتئاب أو القلق عند الطبيب النفساني وهو ما يثبتُ للطبيب، ولك إن شاء الله بعد استمرارك على العلاج الذي قدمه لك طبيبك النفسي، ولكن بعد قليل من الصبر، ربما عدة أسابيع، وستعرفين ذلك بنفسك إن شاء الله قريبًا.
وأما سؤالك الجديد ذو العلاقة بالجن وتأثيرها في الإنسان؛ فإنني أنصحك أولا بالاطلاع على رابطين على مجانين هما:
الأمراض النفسية كلها بسبب المس والتلبس بالجن
التلبس بالجن: مسرحيةٌ نعيشها حتى البكاء!
الطب النفسي ينكر أثر القرآن في العلاج وينكر الجن والسحر والعين
المس واللبس والسحر في العيادة النفسية
وأما ردي على ما سمعته من أن دخول الجن في الإنسان قد يكون غضباً من الله عز وجل؛ فهو أن علينا مناقشة الأمر بهدوء وبالمنطق؛ فمن البديهي عندنا كمسلمين أن كل ما يحدثُ للإنسان في حياته هو بإرادة الله سبحانه، ولا نستطيعُ اعتبار أي حادثة تحدثُ لنا على أنها دليلٌ على غضب من الله؛ لسببٍ بسيط هو أن ما قد يبدو لنا خيرًا قد يكونُ شرّا والعكس صحيح، والله يقول في سورة البقرة: {... وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216). ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها... إلا كفر الله بها من خطاياه" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أريد تنبيهك إليه هنا هو أن تفسيرنا لحدثٍ معينٍ على أنهُ خير أو شر أو دليلُ غضبٍ أو رضا من الله عز وجل هو دائمًا أبدًا تفسير قاصر، مقصورٌ على إحساسنا به في لحظته؛ فهل صاحب تلك المقولة يعتبرُ دخول الجن في جسم الإنسان (وهو الذي لا يستطيع أحدٌ على وجه الأرض إثباته لأنهُ غيبٌ أصلا) استثناءً، يصح أن نعتبره غضبًا من الله، ونطلق هذه المقولة بهذا القدر من التعميم؟
أنا أرى أن الأمر في حاجة إلى الخضوع للمنطق إن لم يكن من القائل فمن السامع يا أختي في الله، لأن هذه الأمة لا بد لها من أن تفصل بين عالم الغيب والشهادة إن كان مقدرًا لها النهوض يومًا من الأيام.
وأما كيف تكسبين رضا الله عز وجل؟ فإن الإجابة على هذا السؤال تختصر في أن رضا الله يُكتسبُ باتباع أوامره واجتناب ما نهى عنه سبحانه، واكتساب رضا الله سهل لكل مسلم إذا فعل ذلك.
وأما الاختلاف الذي يقلقك ما بينَ نصيحتي لك بقراءة القرآن الكريم بنفسك بل والإكثار منها، ورأي طبيبك النفساني الذي نصحك بأن تستعيني بقارئة تتلوه عليك؛ فهذا الاختلاف راجع إلى أن أمر العلاج النفساني للمسلمين -مع الأسف- والرد على مثل أسئلتك وأسئلة غيرك.. أمرٌ متروك لرأي وحكم كل طبيب نفسي على حدة؛ لأن الأطباء النفسانيين في بلادنا يتعلمون الطب النفسي الغربي كما يمارسه أصحابه وبلغتهم، وعلى كل طبيبٍ أن يجتهد بعد ذلك ويتصرف مع مرضاه بما يتوافق مع آرائه الشخصية.
فأما رأيي أنا فهو أنني أنصح كل من يستطيعُ من المرضى أن يقرأ القرآن الكريم بأن يفعل ذلك ما عدا في الحالات الذهانية Psychotic Cases التي لا يدرك المريض فيها أفعاله، وأما جميع الحالات الأخرى بما في ذلك مرضى الوسواس القهري فإن قراءة القرآن الكريم جزءٌ من علاجهم حتى ولو كانت سببًا في زيادة معاناتهم من الأفكار التسلطية؛ لأن اجتناب القرآن أو الصلاة يزيدُ حالتهم سوءًا! ولكن هذا الرأي ليس هو رأي كل الأطباء النفسانيين، وكل واحدٍ منا له تفكيره ورأيه فلا تقلقي، عليك أن تلتزمي بعلاج طبيبك الدوائي، ولك الحرية فيما يتعلقُ بقراءة القرآن بنفسك أو الاستعانة بغيرك، ولا تجعلي من ذلك مشكلة، بل اجعلي الفيصل في ذلك هو قدرتك أنت على تلاوة القرآن وشعورك بالراحة بعد القراءة، هل يكونُ أكثر إذا قرأته أنت بنفسك؟ أم إذا قرأته أخرى عليك؟ وأخبري طبيبك بما تجدينه بنفسك.
وأما الجزء الأخير من ردي عليك فيتعلقُ بالعلاقة بين الأمراض النفسية وضعف الإيمان، وهذا هو أحد المعتقدات الخاطئة الشائعة في مجتمعاتنا، ويبـدو -والله أعلمُ- أن هذا الاعتقاد الخاطِئ لدى الناس إنما جاء من أمرين: الأول هو عـدم إدراك الناس لمعنى المرض النفسي، والثاني هو نظرة الناس للأمراض النفسية على أنها مركب نقص، ولبحث هـذا علينا أوَّلا أنْ نفـرّق بين الأعراض النفسية والأمراض النفسية:
فالأعراض النفسية هي تلك التفاعلات النفسية التي تطرأ على الفرد نتيجة تفاعله مع ظروف الحياة اليومية، وتستمر لفترات قصيرة، وقد لا يلاحظها الآخرون، ولا تؤثر عادة على كفاءة الفرد وإنتاجيته في الحياة، كما لا تؤثر على عقله وقدرته في الحكم على الأمور. وتعد هذه العوارض النفسية جزءا من طبيعة الإنسان التي خلقه الله بها؛ فيبدو عليه الحزن عند حدوث أمر محزن، ويدخل في نفسه السرور والبهجة عند حدوث أمر سار، وهذا أمر مشاهَد معلوم لا يحتاج لإثباته دليل، ويحدث لكل أحد من الصالحين والطالحين.
أمـا الأمراض النفسية فأمرها مختلف، وهي لا تقتصر على ما يسميه الناس بالجنون؛ بل إن معنى المرض النفسي معنى واسع يمتد في أبسط أشكاله من اضطرابات التأقلم مع الأحداث الحياتية إلى أشد أشكاله تقريبا متمثلا في فصام الشخصية أو الذهان الدوري، كما أنه ليس شرطا أنْ تُستخدم العقاقير في علاج ما يسميه الأطباء النفسانيون بالأمراض النفسية، بل إن منها ما لا يحتاج إلى علاج دوائي؛ فهي تزول تلقائيا، وربما لا يحتاج معها المريض سوى طمأنته كما يحدث عادة في اضطرابات التأقلم البسيطة.
ويعتمد الطبيب في تشخيص الاضطراب أو المرض النفسي -بشكل كبير- على ثلاثة أمور: نوعية الأعراض، شـدة الأعـراض، ومدة بقاء هذه الأعراض؛ فلتشخيص المرض النفسي يجب أنْ يحدث عند المريض أعراض غريبة، أو ربما أعراض غير مألوفة كالضيق والحزن مثلاً، وتستمر لمدة ليست بالطارئة أو القصيرة، وبأعراض واضحة تكون كفيلة بتشخيص المرض النفسي في تعريف الأطباء، ولذلك فإن من يحزن لفقد قريب أو عزيز ويتأثر بذلك؛ فإننا لا نصفه بأنه مريض نفسي إلا إذا استمر حزنه لمدة طويلة، ربما تصل لعدة أشهر أو بضع سنوات، وبدرجة جلية تؤثر على إنتاجية ذلك الفرد في أغلب مجالات الحياة، أو أنْ تظهر عليه أعراض بعض الأمراض النفسية الأخرى كالاكتئاب مثلا.
ولعلي أعجب من البعض الذين يربطون درجة التقوى والإيمان بامتناع الإصابة بالأمراض النفسية دون العضوية!! فلقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا البيان النبوي شامل لجميع الهموم صغيرها وكبيرها وأيًّا كان نوعها، وفي الأصل فإن الأمراض النفسية مثل غيرها من الأمراض ولا شك، وهي نوع من الهم والابتلاء؛ ولذلك فإنها قد تصيب المسلم مهما بلغ صلاحه. كما أنه لم يرد في الكتاب الكريم ولا في السنة المطهرة ما ينفي إمكانية إصابة المسلم التقي بالأمراض النفسية حسب تعريفها الطبي، ومن نفى إمكانية ذلك فعليه الدليل.
ولعل فيما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه "المنقذ من الضلال" من وصفٍ دقيقٍ لنوبة الاكتئاب الحادة التي أصابته هو شخصيا، وهو المعروف بعلمه وتقواه وورعه ما يفند ذلك الكلام، يقول الإمام الغزالي (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفة (إلي)، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا : (هذا أمرٌ نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتراوح السر عن الهم الملم)) كما أن انتقال أغلب الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس بوضوح الطبيعة المرضية لتلك الأمراض، وبالرغم من ذلك كله فإن المسلم يتميز عن الكافر، وكذلك التقي عن الفاجر؛ في أنه يحتسب ما يصيبه عند الله، ويستعين بحول الله وقوته على مصائب الدنيا، ولا يفقد الأمر مثلما يفقد غيره؛ مما يخفف من أثر المصائب عليه بعض الشيء.
ولذلك فإننا نلاحظ حدوث حالات الانتحار في المجتمعات الغربية تفوق بكثير ما يحدث في المجتمعات الإسلامية، رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لذلك في المجتمعات الإسلامية، لكن من عمل من الأطباء النفسانيين في كلا المجتمعين يدرك بوضوح ذلك الفرق.
إذن ما تعانين منه -كما بينت لك في ردي السابق عليك- هو اضطراب نفسي، وليسَ دليلا على ضعف الإيمان، وعليك أن تتابعي علاجك مع الطبيب النفساني الذي بدأتِ العلاج معه، وإن شاء الله يُكتبُ لك الشفاء سريعًا، وأشكرك مرةً أخرى على حسن متابعتك، والسلام عليكم ورحمة الله.
التعليق: السلام عليكم ورحمة الله أهلا وسهلا بك على موقع مجانين الأخت حنان وعجّل الله شفاءك، برحمته وأيضا بإحسانك في منطق تفكيرك وتغيير بعض القناعات المتجذرة مجتمعيا فينا شئنا أم أبينا. ألم تتساءلي يوما عن هذه الثنائية (ضعف الإيمان/والحالة النفسية المتدهورة) أو تسلّط الشياطين لدرجة الإمراض والإهلاك بسبب المعاصي وضعف الإيمان... ألم تتساءلي عن مدى منطقيّة هذه الثنائية بعد استقراء بسيط للواقع ؟! إنْ كان ضعف الإيمان يصيب المسلم بكلّ هذه الأمراض والآفات ومصارع السوء، فمن باب أولى انعدام الإيمان! أليس كذلك؟ إن كانت درجة الإيمان تؤثّر على الصحة النفسية تأثيرا عكسية (كلما نقص الإيمان كلما زاد التدهور) فمن باب أولى أن تكون الأمراض والاضطرابات في منعدمي الإيمان من الملاحدة واللادينين أو السفاحين والمجرمين !؟ فلماذا لا نرى ذلك؟!! لماذا نرى ملحدا ينعم بصحة وعافية نفسيين والمؤمن العابد التقي يتعذب في وسواس قهري أو اكتئاب فيقول لنفسه يجب أن أزيد من إيماني ! هل نقص عنده الإيمان لدرجة ذلك الملحد ؟ بل حتى ذلك الملحد بإيمان منعدم ليس فيه عُشر ما في المؤمن من مصائب ولا يعرف عنها شيئا ولم يذْقها ! ربّما ستقولين ذاك استدرجه الله تعالى ونحن يبتلينا ليردّنا إلى ديننا ! أقول هذه من الأفكار المغلوطة التي نريد الحفاظ بها على استنتاج خاطئ بافتراض شيء لا علم لنا به، وهو أنّ الله أراد كذا ! فأيّ ابتلاء هذا الذي نقول عنه أنه تذكير وهو يحطّم المؤمن ويسلب إيمانه بالله وحسن ظنه به؟! أي ابتلاء يتجرّع معه الإنسان مرارة العيش كحيوان يجد صعوبة في الأكل والشرب والنوم وهذه نشاطات حيوانية ينعم بها البهائم قبل البشر !!؟ أي رحمة ولطف من الله تعالى لعباده استبقَينا بعد هذا الذي ننسُبُه لله تعالى، ونظنّ به ظنّ السوء، ثم ندّعي أننا نتعبّد له سبحانه بهذه التصرفات والأفكار ! هل الاستدراج للكفار وأعداء الله يقتضي نجاتهم من الآفات والأمراض، وابتلاء الحب يقتضي إهلاك المؤمنين بالأمراض والاكتئاب والتعاسة وخوَر العزائم !! أي عقيدة هذه وأي تصوّر عن الله تعالى ودينه ! إنّ وضع تقابلات بسيطة بين الأمراض النفسية والعضوية يجعل الأمر أكثر منطقية وتوافقا مع الشرع والواقع: كل الناس كافرهم ومؤمنهم يمرضون عضويا (وهذه نقبلها) وكل الناس يمرضون نفسيا كافرهم ومؤمنهم (وهذه نرفضها) مع أنّ مجرّد اعترافنا بأن النفسية تمرض سيرفع هذا الغبش والشوشرة. وسنتوافق مع أحاسيسنا وواقعنا وديننا الذي افترضنا له تفسيرات ثمّ أردنا تفصيل الواقع عليها فكذّبنا الواقع وكذّبنا أنفسنا، وعشنا تناقصا حادا وصراعا مريرا بين ما نحياه وبين ما نؤمن به! إن كنت تعتقدين أن الله من فرط حبّه لعباده المؤمنين يصيبهم بالأمراض والأعطاب النفسية فيصيرون أضعف من أعداء الله، ثم يطالب المؤمنين بعدها بالانتصار عليهم وألا يطلبوا الدنية وألاّ يهنوا ولا يستكينوا فهم الأعلون... أو ينزع من صدورهم متعة الحياة وطاقة الحركة حتى يكسلوا عن الصلاة والحديث مع الناس وتحمّل المسؤوليات ثم يحاسبهم على كسلهم ويعذّبهم... إن كنّا نعتقد ذلك فوالله قد نسبْنا لله الظلم والعبث والشرّ! ذلك الرب نفسه الذي نريد أن نتعبّد له بهذه المفاهيم ونستكين له بتلك التصوّرات لنكون عبادا كرماء أتقياء !! فأي تخبّط هذا بعد إنكار الأمراض النفسية وجعلها عرضا من أعراض ضعف الإيمان والمعاصي والبعد عن الله !!؟ فأي تضحية هذه من أجل مفهوم ورثناه وتسلل لقلوبنا واستحسنَتْه عقولنا الميّالة لتفسير كل ضرر وشر بثنائية "المعصية/والطاعة". نقتل عقيدة وحياة وواقعا ونصنع أوهاما وتناقضاتٍ من أجل أن تحيا هذه الفكرة ويبقى هذا المفهوم؟! ألم نسأل أنفسنا جماعات وأفرادا من أين أتى هذا المفهوم بهذه القدسيّة ولماذا نرفض الطب النفسي و البحوث النفسية والاجتماعية من أجل بقائه مبجّلا مقدّسا غير ممسوس ؟ ! وعِوض أن نسير على خطى ديننا ومقصده العظيم "ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج" فنفتي بالرخصة ونتعامل مع المرض كموجب لها ومع مشقّته كجالب للتيسير... جعلنا المرض لعنة ابتداء بأن نسبناها لغضب الله وإبعاده، ولعنة انتهاء بأن وعظنا صاحبها وخاطبناه بما يُخاطب السليم المعافى المقتدر ! وقلنا له لن تدخل على ربّك "الرحمان الرحيم " ! إلا أن تتطهّر من نجاستك المعنويّة... وهل يلجأ لله تعالى إلا المذنبون الضعفاء ! جريمة أيّما جريمة أن نعتقد أن المرض النفسي هو ضرب من "المرض الروحي" والروح تحتكم لقوانين غيبية وما النفس إلا جهاز يتعرّض للخدوش والأعطاب مثله مثل أي جهاز. فينتُج عن هذا ما نراه الآن من جلد للمرضى وتعذيب لهم، فهم ملعونون مطرودون من حياض المتدينين المؤمنين، بعد أن طُرِدوا من مُتع الحياة وراحة العيش ! وهذا الخلط في نظري هو من أقوى عوامل الممانعة لثقافة الصحة النفسية وما يتبعها من تصنيف للأمراض واعتراف بها ومعالجتها بما قدّر الله وخلق، خلط متداخل بقوة مع التصور الخاطئ للأمراض النفسية وللجهاز النفسيّ.