الوسواس القهري والإدمان, السحر والجن
السلام عليكم، أود أن أسأل:
ما هو الفرق بين المرض النفسي ولبس الجن للإنسان.. حيث إن كثيرا من الأمراض النفسية لها تفسير من ناحية اللبس.
فمثلاً مرض الوساوس القهري ومرض انفصام الشخصية من ناحية الطب النفسي هما مرضان، ومن ناحية أخرى هما لبس جان، فما الفرق؟
حيث إن الشخصية الثانية هي جان؟
وجزاكم الله خيرا.
22/3/2007
رد المستشار
الأخ السائل العزيز، أهلا وسهلا بك، وشكرًا على ثقتك في موقعنا وصفحتنا استشارات مجانين..
الحقيقة أن سؤالك جاء غريبا، وأظنك زائرا جديدًا لهذه الصفحة التي دأبت منذ إنشائها على الاهتمام -فضلا عن تقديم العون للسائلين من أصحاب المشكلات النفسية والاجتماعية- بتصحيح المفاهيم الخاطئة وترسيخ المفاهيم الصحيحة عن الصحة النفسية، كما يجبُ أن تشيع في المجتمع المسلم، فقال مستشارونا الكثير والكثير في هذا المضمار، وكان آخر ردودنا في هذا المضمار رد يذكرنا بما جاء في إفادتك، عنوانه: التفسير العهني.. للمرض الذهني!
ورغم ذلك فإن صدرنا ما زال متسعا لتساؤلات المسلمين الذين ما يزال قطاع لا يحصى عددا من أفرادهم تائهين وعاجزين عن الفصل بين عالم الغيب والشهادة، ولأن هذا الموضوع طويل ومتشعب، فسوف أكتفي بالتعليق على ما ورد واضحا في إفادتك من سؤالٍ عن مرضين هما من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا في هذه الأيام كما نلمس من خلال ممارستنا العملية للطب النفسي.
ولكنني بدايةً سأحيلك إلى ما أستطيع تذكره من إجابات سابقة على هذه الصفحة المباركة لتعرف رأينا وآراء مستشارينا ومتصفحينا في هذه المسألة، وذلك تحت العناوين التالية:
التلبس بالجن: مسرحيةٌ نعيشها حتى البكاء!
التلبس بالجن مسرحية نعيشها ..... مشاركة
التشنج المهبلي.. وتشنج العقل العربي!!
وخلاصة ما نقول في هذا الموضوع هو أن الأعراض النفسية التي تظهر لنا في عالم الشهادة، والتي تنتظم في شكل سمح للأطباء النفسيين بتصنيفها، وإن لم يصلوا إلى تصنيف متفق عليه فيما بينهم.
وكذلك تمكنوا من علاجها في عالم الشهادة وأثبت ذلك بتجارب لا حصر لها، وإن لم يتمكنوا بعد من الوصول إلى أسبابها الأصلية بشكل مؤكد، فهناك نظريات وهناك دراسات تبين كيف يعمل الدواء الذي يعالج بالفعل -كما نلمس كل يوم وكل ساعة- ولكن لا أحد يستطيع الفصل فيما إذا كانت التغيرات الكيميائية التي تحدث في الدماغ، مصاحبةً لأعراض الاضطراب النفسي، وترجع إلى حالتها بعد استخدام الدواء كما ترجع حالة المريض النفسية إلى ما كانت عليه قبل المرض، لا أحد يستطيع الفصل في سؤال: هل هذه التغيرات الكيميائية هي السبب المبدئي للمرض أم أنها أحد نتائج سببٍ خفي، أي غيبي.
ولعلها هنا الهدية التي أقدمها لك يا أخي، ولكنني في نفس الوقت أقول: إن التعامل مع ما يظهر في عالم الشهادة يجبُ ألا نتعامل معه إلا من خلال معطيات هذا العالم، وكلٌّ حرٌّ في تأويله، لأن أحدا لا يعرفه على وجه اليقين.
وفي نفس الوقت أيضًا أحب أن أنبهك إلى أن كلا من اضطراب الوسواس القهري واضطراب الفصام، لا يوجد فيه شخصية ثانيةٌ أصلا، وهو ما يجعل الفكرة التي لديك مغلوطةً من الأساس.
المهم أننا فصلنا أمر الوسواس من قبل في مشكلات على هذه الصفحة كما جعلنا له باب خاصا سميناه نطاق الوسواس القهري، وبعض المشكلات جاء تحت العناوين التالية:
الوسواس القهري: أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعي
الوسواس القهري: أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعي متابعة
بين الرقاة - مس قرين؟؟! أم وسواس قهري؟؟
وعرضنا في ذلك لكثير من المفاهيم التي نرى -حتى وقت كتابة هذه السطور- أنها تثبتُ أن هناك وسواساً غير الوسواس الخناس يسمى بالوسواس القهري ويعالج بالعلاج المعرفي السلوكي وعقاقير مجموعة الماسا التي تغير من تركيز السيروتونين في المخ في مناطق معينة تسمى بالحلقة العصبية المفترضة لاضطراب الوسواس القهري، وهي عبارة عن مجموعة دوائر عصبية ترى بكثير من طرق تصوير الدماغ الحديثة، وترى في نشاطها وفي سكونها! ويمكن قياس تأثير هذه التغيرات في نشاطها قبل وبعد استخدام العقار الذي يعمل على السيروتونين!
هل يا ترى تريدني أن أعتبر كل هذا الزخم العلمي كلاما فارغًا، أم أعتبره طريقا علميا يدور في نطاق الشيطان؟
يا أخي اقرأ أولاً عن اضطراب الوسواس القهري بعضا مما قاله أطباء نفسيون مسلمون غيورون مثلك على دينهم وتراثهم ومسئولياتهم أمام الله كمسلمين، ثم اسأل بعد ذلك عما تريد السؤال عنه بشأن الوسواس القهري، الذي تعتبره أنت نوعا من أنواع اللبس، أو الشخصية الأخرى كما قلت في إفادتك. ولكنني أيضًا لا أستطيع كمسلم يتعامل مع مرضى من المسلمين أن أخبأ الحقيقة العلمية التي تقول:
إننا حتى الآن لا نعرف ما هو المصدرُ الأول للفكرة الاقتحامية التي تقتحم وعي المريض وتتواصل بعدها حلقات الوسوسة، وكل الزخم العلمي الذي أشير أنا إليه يفسر لنا لماذا يقع البعض فريسة لاضطراب الوسواس القهري، ولا يقع الآخرون، رغم أن اقتحام فكرة لا معنى لها أو قبيحة المعنى لوعي الإنسان هي خبرةٌ بشرية تحدث للناس جميعا، فالنظريات العلمية المتوفرة كلها تحاول تفسير ما يسمى بالقابلية لاستمرار الوسوسة، واستعداد الشخص بيولوجيا للوقوع في براثنها.
لكن أحدا لا يقول لنا مصدرها إلا وهو يتحدث عن نظريات تتكلم عن الغيب الموجود في الإنسان، والطبيب النفسي المسلم يستطيع أن يقول على مستوى الغيب الذي لم ولن يثبت أن الشيطان قد يكون مصدر الفكرة الاقتحامية الأولى في بعض الحالات، ولكنه لا يمكن أن يكونَ مصدرها كلها، إلا إذا اعتبرنا فكرة تسلطية أصابت أحد البوذيين بأن بوذا كان امرأة وليس رجلا مثلا هي فكرة مصدرها الشيطان!
وأما مرض انفصام الشخصية أو ما نسميه -نحن الأطباء النفسيين- اضطراب الفصام، فإن الحديث بشأنه أقل وضوحًا من ناحية فهم أسبابه والقدرة على علاج كل حالاته أو حتى فهمها وتصنيفها بشكل يتفق عليه الجميع ويجدونه متماشيا مع ممارسة كل منهم مع مرضاه.
وصحيحٌ أن عدد الحالات المقاومة للعلاج في اضطراب الفصام ما يزال كبيرًا لكننا لا نستطيع أن ننكرَ أن نحو 70% من المرضى يتم شفاؤهم بعقاقير تضاد تأثير الدوبامين؟ وهو ناقل عصبي موجود في الدماغ، مثله مثل السيروتونين، ولكن النقطة الأهم هي أنك عبرت عن فهم خاطئ للفصام فسميته فصام الشخصية، مع أن الفصام اضطراب في الإدراك والتفكير والمشاعر، وليس معناه أنه توجد شخصيةٌ أخرى لدى المريض، فهناك فارقٌ هائل بين اضطرابين من الاضطرابات النفسية، أحدهما هو اضطراب الفصام Schizophrenic Disorder والآخر هو أحد الاضطرابات الانشقاقية التحويلية Dissociative Conversion Disorders، ويسمى اضطراب تعدد الشخصية Multiple Personality Disorder ، ولكل من هذين الاضطرابين طريقة في التناول والعلاج.
باختصارٍ شديد يا أخي ليس في هذين الاضطرابين (الوسواس القهري والفصام) ما يمكن أن نسميه بالشخصية الثانية، لكي يقول لنا أحدٌ إنها هي الجان!. وأما من أين جاء إرجاع الناس لتصرفات مرضى الوسواس القهري أو الفصام لتلبس الجان، فإنني -فضلا عما تجده في الإجابات التي أحلتك عليها من قبل- أقول لك: إن إرجاع اضطراب سلوكيات مريض ما لفعل الجان ليس أكثر من عملية دفاعية يقوم بها أهله، أو ربما هو، من أجل نفي تحمله للمسئولية، ونفي الأسرة لتهمة أن أحد أبنائها مريض نفسيا، فمن الأسهل والمقبول اجتماعيا أن يكونَ هذا الخلل مصدره الجن؛ فهذا التفسير يريح، ولكنه مع الأسف لا يساعد في العلاج.
وأحيلك هنا إلى قراءة المشكلتين التاليتين:
السحر والشياطين وأمة المساكين
خطيبتي والجن!! "التفكير الخرافي"
وفي نهاية ردي عليك أدعوك إلى قراءة المقال التالي بعنوان أسباب الأمراض النفسية