المشكلة باختصار
المشكلة باختصار شديد هي أنني لا أحب أن أكون مثل أبي؛ لأنه لا يصلح أن يكون قدوة. كلما أجد نفسي أقلده بحكم وراثتي لكثير من أخلاقه وحركاته يصيبني الاشمئزاز الشديد، يقضي معظم أوقاته أمام التلفاز، لا يهتم بي، ويعطيني مطلق الحرية في فعل ما أريد بحجة أنه يثق بي، لا أكرهه، ولكنني لا أحب أبدا أن أكون مثله.. هل هذا عيب في شخصيتي؟
22/4/2007
رد المستشار
الابن العزيز أهلا وسهلا بك وشكرا على ثقتك في صفحتنا استشارات مجانين، الحقيقة أنك تتحدث في إفادتك عن بعدين نفسيين متداخلين:
أحدهما طبيعي بالتأكيد، والآخر يتأرجح بين الطبيعي والمضطرب.
فأما البعد الأول فهو رغبتك في أن تكون مختلفا عن أبيك، وهذا هو ما تمليه عليك مرحلتك العمرية، فلا بد أن ترغب في الاختلاف عن الأب، بل لا بد أن تختلف لكي تشعر بهويتك وكيانك المستقل، وكأنك تقول:
"أنا مختلف عن أبي.. إذن أنا موجود" كآخر مختلف له آراؤه وميوله، وفضلا عن كون ذلك أحد متطلبات المرحلة العمرية التي تعيشها، فإن الشكل الذي يأخذه صراع المراهق النفسي في سبيل تحقيق ذلك الاختلاف والتأكيد عليه عادةً ما يختلف بحسب عوامل عديدة نفسية وأسرية وشخصية، وأيضًا حسب التفاعلات المختلفة والاحتمالات المتعددة لتلك العوامل، فبينما يظل الكائن البشري معتمدا لفترة طويلة على أبويه، فإنه يجد نفسه في مرحلة المراهقة مضطرا للتحرك من اعتماديته الكاملة تلك إلى تحقيق قدر من الاستقلال التدريجي الذي يختلف في مدته الزمنية حسب ظروف كل مجتمع، كما يجد نفسه مضطرا إلى تشكيل منظومة فكرية يعتبرها خاصة به ومختلفة عن معطيات أبويه قدر إمكانه أيضًا، وبينما يفترض أن يتم احتواء ذلك الصراع الطبيعي داخل إطار من الفهم وسعة الأفق من ناحية الوالدين، فإن الواقع في معظم المجتمعات البشرية يظهر غير ذلك، خاصة في عصر العولمة والإنترنت الذي أصبحت فيه فجوات الاختلاف أكبر بكثير من المتوقع.
ولعل من المناسب هنا أن ننبه الآباء إلى ضرورة التريث في إدارة ذلك الصراع، فمن المهم أن نبعد مجالات معينة عن ذلك الصراع، خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني من حياتنا، لكي لا يدخل المراهق وهو في أوج اتقاد صراعاته الفكرية أمر الالتزام في حلبة الصراع، فمن بين من عرفت من الأسر لاحظت أن كثيرين من الآباء والأمهات يستغلون الدين لتحجيم المراهق في كل تطلعاته، ومنهم أيضًا من يتخذ من عدم أدائه للصلاة مثلا دليلا على فساد فكره وخطأ توجهاته!! فمثل هذه الوسائل للضغط على المراهق باسم الدين كثيرا ما تعطي نتائج عكس المطلوبة.
وأنا أقول ذلك لأنني من خلال خبرتي العملية عرفت كثيرين من الأولاد والبنات يتركون الصلاة مثلا؛ لأن في تركها ما يعطيهم الشعور بأنهم لا يسيرون وفق خطة الأهل، ومن هؤلاء من يعود للصلاة ولتحسين علاقته بربه بعد فترة قصيرة من تخلي الأهل عن إلحاحهم على المراهق بأدائها.
نأتي بعد ذلك إلى ما يتعلق بالبعد الثاني في إفادتك، والذي يعبر بشكل أو بآخر عن مشاعر سلبية تجاه والدك لأسباب ربما تتعلق بذكريات وعذابات تحملها أنت داخلك وتحمّله المسئولية عنها، فأنت تبدأ إفادتك بقولك: "لا أحب أن أكون مثل أبي لأنه لا يصلح أن يكون قدوة" أي برأي سلبي في الرجل الذي لا نعرفه نحن ولا نعرف عنه أكثر مما ذكرت من أنه: يقضي معظم أوقاته أما التلفاز، لا يهتم بي، يعطيني مطلق الحرية في فعل ما أريد بحجة أنه يثق بي، ومعنى ذلك أنك تتكلم عن أب نمطي في طبقة لا يستهان بها من طبقات مجتمعاتنا، فمَنْ مِن الآباء لا يقضي معظم أوقاته أمام التلفاز بعد إنهاء ساعات الدوام في عمله الرسمي؟ إنهم كثيرون، ولعل سلوكهم ناتج عن الإحباط وغياب الفرصة، ولعله ناتج عن التكاسل أو قلة الوعي بمتطلبات المجتمع المسلم، لكنه بالتأكيد سلوك يستدعي الانتقاد؛ لأن أسوأ نشاط يفعله الإنسان في رأيي هو البقاء طويلا أمام التلفاز، كمتلقٍّ سلبي لإعلام الله أعلم بخلفياته في هذا العصر، ولكن السؤال الذي يبرز هنا هو هل من حقنا أن نقوم من سلوكيات آبائنا؟ وهل هو أصلا مقبول أن نفعل ذلك؟.
إن واجبات المرء تجاه والديه معروفة وواضحة في الإسلام، ولا تنسَ قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8)، وفي آية أخرى يقول تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15)، أي أننا مأمورون بالمصاحبة بالمعروف للأب الذي يدعونا للكفر، على ألا نطيعه في ذلك فقط!
وأما أنه يعطيك مطلق الحرية لأنه يثق بك، فلسان حالك يقول إنك ترى كلامه حجة وليس صحيحا، فكأنك هنا تطلب منه أن يتحكم أكثر في تصرفاتك، وهو إن تحكم ثرت في داخلك أو ربما أظهرت غضبك، وكل هذا طبيعي، إلا أن نبرة تصريحك عن عدم الرضا عن الوالد وعن تقصيره في حقك أعلى قليلا من المعتاد؛ وهو ما يشير إلى وجود ما أشرت إليه من قبل من ذكريات وتوجهات سلبية نحوه، ولعل هذا ما يظهر بجلاء أكبر في قولك: "كلما أجد نفسي أقلده بحكم وراثتي لكثير من أخلاقه وحركاته يصيبني الاشمئزاز الشديد"، فأنت هنا تشمئز من نفسك ومن صفاتك أنت، بغض النظر عن كونك ورثتها أو اكتسبتها؛ وهو ما يجعلنا مضطرين إلى أخذ الانطباع عن احتمال وجود اضطراب ما، غالبا سيكون عابرا فإن لم يكن كذلك فإن الحاجة تبرز إلى تقييم مباشر من طبيب نفسي متخصص، ولعل من المفيد أن تقرأ ما يظهر بنقر الروابط التالية:
أبي خائن... أصبحت أكرهه
الابنة المضطهدة ودبلوماسية العائلة
الابنة المضطهدة ودبلوماسية العائلة، مشاركة
السير على حد السيف واستراتيجية ترقيق القلوب
وأما قولك في نهاية إفادتك:
(لا أكرهه ولكنني لا أحب أبدا أن أكون مثله هل هذا عيب في شخصيتي؟)، فردنا عليك هو أن هذا ليس عيبا في شخصيتك بل هو الطبيعي كما بينا لك في ردنا، ولكن العيب هو أن تكون متطرفا في رغبتك تلك بمعنى أن تشمئز من صفات فيك حتى ولو كانت موروثة عن أبيك، فكلنا يحمل صفات من أبيه ومن أمه، وكلنا مر بفترة المراهقة، وعاصر ذلك الصراع الذي تعاصره الآن أنت، ولكن الأمور لم تصل إلى حد كره المرء لصفة فيه لمجرد أنها توجد في أبيه،
وفي النهاية أتمنى أن يوفقك الله ويهديك، وتابعنا بأخبارك.