الانحراف احتمال وارد في غياب الأهل
ألتمس النصح من عقل رشيد وقلب مؤمن، السلام عليكم ورحمة الله ويركاته؛
أشكركم على هذا الجهد الرائع وأسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتكم، وأرجو من الدكتور وائل أبو هندي عرض مشكلتي على الدكتور أحمد عبد الله، وأن أتشرف برأيه في هذه المشكلة.
المشكلة تتعلق بشقيقتي التي تكبرني، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، وغادرت بلدنا الأصلي بموافقة الأهل قبل عدة سنوات لتقيم مع أختنا الكبرى التي ما لبثت أن تركت بلد الإقامة، وعادت إلى الوطن، لتعيش أختي هذه - صاحبة المشكلة - وحدها في الغربة بالخليج، على أمل أن ألحق بها، ونعمل معا من أجل أسرتنا الكبيرة.
تردد والدي عليها لفترات، ولم يستطع الحصول على عمل فعاد إلى بلدنا الأصلي، وظلت هي هناك حتى انتهيت أنا من دراستي ولحقت بها، ما مر على العام لأكتشف تدريجيا أنها أصبحت شخصا آخر غير التي تربيت معها في بيتنا!!! تصرفاتها وسلوكها... أفكارها... ملابسها... تركت صلاتها، وصارت تشرب الخمر، وتصاحب الرجال من كل الجنسيات دون أن ترى في ذلك غضاضة، تعيش الحياة بطولها وعرضها، وعندما أتناقش معها تتحدث بمنطق من نسي دينه، فتقول لماذا حرم الله الخمر، وهي متعة (ولا حول ولا قوة إلا بالله)!!!!
تعرفت على شاب وتطورت علاقتها به ثم تركها، ولا تشعر بأي ندم والآن هي مع شخص آخر أوربي، وتعيش معه كصديقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي تبيت في بيته أحيانا، وتقول أنه يريد أن يتزوجها، وأنه لا يهمها كونه من دين آخر، وبالمناسبة هو يكاد يكون بغير دين إذ يخلط بين أصوله النصرانية، وطقوس أخرى من ديانات آسيوية، وهي متمسكة به لدرجة استعدادها للزواج منه، ولو رغما عن أسرتنا!!!
تحدثت إليها مرارا وتكرارا... وذكرتها بدينها وربها، وقلت لها أن تفيق من غيبوبتها، وأن عاقبة ما تفعله ليست سوى غضب الله عليها في الدنيا والآخرة، وأنها ليست جديرة بالثقة التي أعطتها الأسرة لها... ألخ وردت هي بأنني تجاوزت حدودي، وذهبت لتبيت عند الآخر!!! أكاد أجن، ولا أدري ماذا يمكن أفعل معها؟! وهل أخبر أهلي أم أستر عليها؟ وماذا يمكن أن تكون عاقبة أفعالها؟
أرجو يا دكتور أحمد ألا تظلم أسرتي فهم قد ربونا على الأخلاق والاستقامة، ولكنها هي التي انحرفت بمجرد أن أصبحت وحدها ولا تعلم كم هو صعبا أن أسرد لك هذه التفاصيل المؤلمة، وأخشى أن تظن بنا سوءا، وتقول إلى هذا الحد من الانحطاط وصلت بنات المسلمين، ولا تعلم مدى ألمي وهواجسي ودموعي في غربتي، ألتمس الحكمة منك، وأطمع في ردك.
21/10/2003
رد المستشار
الأخت السائلة: شكرا علي ثقتك، وكل رمضان وأنت بخير، مع التأكيد على إدراكي لصعوبة الحياة، وحلم أسرتك بفتح أبواب الرزق عبر العمل، إلا أن إدارة هذا السعي على الأرض لم يحالفها التوفيق، ولم تقترن بالتدبير اللازم.
إبقاء فتاة في العشرينات من العمر بمفردها هي مغامرة غير محسوبة، والعرب الأقدمون يقولون أربع من الذل، وذكروا منها: الغربة ولو في الحرم، وذكروا عفوا البنت ولو مريم... البتول رضي الله عنها. فإذا كانت الغربة كربة كما يقول المثل العامي في بلدان الشام، فان الكربة تكون أشد عندما تكون المغتربة شابة وحيدة مطلوب منها أن تشق طريقها، وتدير شئونها في مجتمع متلاطم الأمواج، متعدد الثقافات، تخترقه النزعات المادية، وينظر إلى المرأة الوحيدة نظرة ريبة وشك وطمع، دعواتنا لك بالثبات والرشد.
وتقولين أن أسرتكما -أنت وأختك- قد أحسنت التربية والتأديب، وأنا أقول لك أن التربية والتأديب شيء، والتأهيل لخوض تجربة كهذه هو أمر آخر، ومستوي متطور من الإعداد، أحسب أن أسرتك قد عملت له برنامجا، أو جال بخطرها وهي تخوض غمار الحياة برفقة أطفال كبيرة مثلكم، -ما شاء الله- انه سيأتي اليوم الذي تغترب فيه إحداكن لتقيم وحدها في هكذا ظروف وهكذا مجتمعات.
الخلاصة هنا في أن الانحراف يظل احتمالا واردا بل ربما يكون الأرجح والمتوقع، فما هو منتظر من شابة تخرج من بيئة محدودة محافظة إلى بيئة أكثر انفتاحا، وثراءا، وفيها من المغريات ما فيها، وضياع الدين وسط مثل هذه الشبهات والشهوات هي قصة معروفة ومتكررة، فما بالنا والغربة تضغط، ولا يوجد ولا يوجد خيار للفشل، أو العودة خائبة إلى الوطن، فالأسرة تحلم وتنتظر.
ولكن هل يعني هذا تبرير الانحراف أو الحال المائل الذي صارت إليه شقيقتك؟! اللهم... لا ... إنما فقط ينبغي أن نفهم ونتفهم الظروف التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه لنصف العلاج الناجح بإذن الله، ولتتماسكي أنت في وجه الأخطار، أختك منساقة في طريقها - وعازمة فيما يبدو- علي السير إلى آخره مهما كان الثمن، وهي ترى جانب المتعة، ولا تشعر -حتى الآن- بالثمن المقابل، فالخمر لذيذة، ومصاحبة الرجال متعة والدين مجموعة من القيود والعوائق التي تحول دون انطلاق الإنسان، وتحد من حريته،
وان كان تدبيرها وتفكيرها لم يبتعد كثيرا عن الفطرة، فهي في نهاية المطاف تريد الزواج، ولكنها غافلة تماما عن أن الزواج ليس مجرد ارتباط طرف بطرف، كالمخادنة مثلا، ولكنها غافلة علاقة أكثر تركيبا، وفيها من الجوانب الاجتماعية والدينية الخاصة بالفرد، ثم بذويه، والجيل القادم من أطفال وغيره... وما في هذه العلاقة المركبة من نواحي وهذا الوضع هو الذي يرجح عندي أن تربية الأسرة لكما كانت جيدة في نواياها، ولكنها كانت محدودة في آفاقها، بحيث تصل إلى فتاة تقترب من الثلاثين، وخبرتها في الحياة مازالت دون العشرين!!!
أختك -ولأسباب تستقل هي بتقديرها- ترى نفسها رخيصة إلى الدرجة التي تقبل فيها رجلا مثل هذا زوجا ورفيقا، ولعلها تراه فرصة ذهبية للتخلص من الوحدة في غربتها، ولا ترى أنها بذلك ستكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وأن هذه العلاقة، وإن نجحت لبعض الوقت، فهي حتما فاشلة إن آجلا وإن عاجلا، إلا إذا قررت أختك أن تنقلب من الرعونة والخفة إلى الحكمة والرزانة لتبقي على علاقة برجل في مثل سن أبيها، ولعلها تريد الزواج منه ليكون أبا بديلا عن الغائب في الوطن،
ولا يبتعد الأمر كثيرا عن رغبة لديها -ربما كانت موجودة- في إغاظتكم والنيل منكم، لترككم إياها وحدها لفترة، أو لإثبات أنها صارت كبيرة، وبالتالي أنه أصبحت مستقلة، وقادرة على اتخاذ قرارات حياتها بنفسها، وبخاصة أنها تعمل وتكسب، وهي حرة وليس من حقك التدخل!!!
أختك مثل قطار سريع لا يتوقف إلا في محطة النهاية، وهي قد انطلقت ولن تتوقف إلا عندما تقرر هي ذلك، وأرجو ألا توقفها الظروف بكارثة!!! ولكنك لا تستطيعين الكثير لها للأسف، إلا محاولة تقليل الخسائر، إن أمكن، أما إعادتها إلى جادة الصواب فليس هذا في مقدرتك.... على الأقل ليس بالتوجيه المباشر، وأري أن العمل ينبغي أن يكون على المحاور التالية:
0 البقاء أو العودة: لا أدري إلى أي مدى يمكن أن تقبل هي بقرار يصدر عن الأسرة بعودتها إلى الوطن؟! ولكن من المؤكد أن استمرارها في الخليج يعني استمرار ما هي عليه، حتى إشعار آخر.
0 معرفة الأهل: لابد أن يعرف أهلك بتفاصيل ما وصلت إليه الحال، وإلا اعتبروك متسترة عليها أو متواطئة معها، وفترة عام من الصمت، ومحاولات الإصلاح كافية جدا لاتخاذ قرار بإبلاغ الأهل الذين أرجو أن يتعاملوا مع الأمر بالحكمة المطلوبة حتى لا يخسروا ابنتهم وسفيرتهم التي تركوها في الغربة وحدها تواجه تحديات أكبر منها، ولا مجال للقول بالستر هنا لأن أختك لا تتستر على نفسها، وإنما تمارس حريتها في العلن وليس معقولا أن يعرف الناس جميعا أنها أصبحت كذلك إلا أهلها!!!
0 الزواج المحتمل: أحسب أن من طرق العلاج أن تحسم مسألة العلاقة بهذا الأجنبي: أما إلى زواج بعد نطقه بالشهادتين، أو بقطع العلاقة تماما، وأحسب أن أية محاولة من طرفكم رغما عنها ستبوء بالفشل، وستقابل بالعناد من طرفها، فضلا عن أن الشواهد المتواترة تدل على أنهما يتعاشران معاشرة الأزواج بالفعل، والأفضل بالتالي أن يكون ذلك في الحلال لتصبح أختك، ويصبح هذا الرجل أمام مسئولية الزواج فتستمر العلاقة أن تنفصم.
0 بين الشدة واللين: تحتاجين أنت إلى كسب قلب أختك واستمالتها إلى جانبك بالتوقف عن دروس الوعظ التي تلقينها كل حين على أسماعها، مع التماسك بحدود لا تنازل عنها، فلا خمور داخل شقتكما مثلا، وإذا كانت تريد هذا الأجنبي ويريدها فليتزوجا، وتعديها بمساعدتها على هذا، إذا كانت موافقة أهلك هي الخطوة الوحيدة الباقية المطلوبة مع أهمية أن يتضح لها دائما وباستمرار أن أنت والأسرة لا توافقون علي هذا النمط من الحياة، أو هذا الأسلوب في العيش، وأنها تتحمل مسئولية وعواقب قراراتها، وأنكم فقط لا تريدون خسارتها، ولذلك تبقون على شعرة معاوية معها.
إذا استمرت شقيقتك في الخليج واستمرت بنفس السلوك والنهج فيلزم ألا يكون مقبولا منها أية مساعدة تقدمها للأسرة، لأنها حينئذ ستنظر إلى موافقتكم علي بعض رغباتها بوضعها نوعا من التمرير مقابل الأموال التي تدفعها لكم... أقصد على سبيل مساعدة للأسرة، وأعرف أن المقاطعة المالية والاقتصادية لها ستكون قاسية بالنظر إلى ظروفكم، ولكن هذا سيكون أفضل لها لعلها تنتبه، لكم لأن أموالها تحمل شبهات كثيرة، وحصولكم على بعضها سيعني دائما أنكم موافقون ضمنا على ما تقوم به!!!
هذه الأفكار مبدئية حول ما تفضلت به من معلومات، ولا عليك أن تسردي اليوم وغدا أية قصص فقد صارت عندي خبرة وتجربة لا بأس بها -بحيث أوقن بأن المسلمين وغيرهم ليسو ملائكة، وأن الإنسان يمكن أن يسقط إلى أية هاوية بلا قعر، طالما افتقد الرشد والضمير، ولكنه أيضا يمكن أن يعود إلى صوابه.
أرجو أن تكوني معنا دائما، ونحن معك في غربتك وهواجسك، لعلنا نستطيع مواساة أحزانك أو تكفيف بعض دموعك، ولا تنسينا من دعائك، وسننتظر رسالتك.
ويتبع>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> الانحراف وارد في غياب الأهل م