جمود العينين والحداد المؤجل مشاركة،
السلام عليكم
لست أدري سيدي الفاضل أرسلت لكم سابقا رسالة ربما يكون عنوانها جفاف العين لا أذكر تحديدا، أشعر وكأني بدأت أتدهور إلى أسوأ حالاتي صلاتي انقطعت عنها تماما يئست من كل شيء سمعت آيات قرآنية توجهنا إلى الدعاء وندعو ولكن.
رأيت والدتي -يرحمها الله الرحمن الرحيم- تدعو لي كثيرا كنت أسعد بهذا جدا (سمعت حديثا يحمل معنى أنه إذا ماتت أم أحد المسلمين ينادي منادي قائلا ماتت التي كنت تكرم من أجلها اعمل طيبا تكرم -أظنه بهذا المعنى-) أما الآن فلا أحد يسال عني مجرد تعامل روتيني فعلا لا أستطيع التأقلم مع وضعي الجديد لا أستطيع أن ألوم أحدا فكل يغني على ليلاه.
سيدي أريد أن أوجه رسالة إلى كل شخص يتحطم قلبه لمجرد أنه فارق حبيبه لو جرب شعور فقد الأم لعرف أنه وصل إلى حد من التفاهة لم يصل إليه أحد، أنا لا أروي للفضفضة ولكن أقسم لك أحتاج من يوجهني قبل أن أدمر فأنا طالب وقد رسبت العام الماضي ويجب علي النجاح هذا العام وإلا فصلت من كليتي، هل تعرف إحساس الطفل عند ذهابه أول يوم إلى المدرسة هل تعلم إحساسه عند وداع أمه لمدة 5 ساعات فقط؟ هل تدرك معنى أنك ترغب برؤية أعز الناس إلى قلبك ولا تقدر؟
ويقولون هناك رحمة؟ أين؟؟؟؟؟؟؟؟
لا أدري
22/10/2003
رد المستشار
عزيزي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
أتمنى أن تكون قد قرأت التعقيب الذي جاء من الأخت التي أرسلت مشاركة في مشكلتك، (وهي المقيمة بأمريكا) وشغلتها مشكلتك، فقد ذكرت بقدرة وبراعة هائلين تجربتها الشخصية في فقد أعز الناس لديها وهي جدتها وذكرت المراحل التي مرت بها خلال هذه الأزمة، وقد بهرتني قدرتها الفائقة على التعبير عن أدق وأرقى المشاعر الإنسانية بلغة رفيعة يحسدها عليها علماء النفس والأدباء معا، وأستأذنك في تقديم شكري وتقديري لها من خلال الرد على رسالتك هذه إلى أن أجد فرصة للتعقيب على رسالتها بشكل مباشر كما طلب مني أخي العزيز المثابر وائل أبو هندي.
وطبقا لما ذكرته الأخت رحاب، وأقره علماء النفس فإنك الآن في مرحلة الإحساس بالفراق التي يصاحبها حالة من الحزن تشعر بها وتعبر عنها بأكثر من طريقة، والتعبير عن مشاعر الفقد ربما يكون ضروريا وصحيا في هذه المرحلة خاصة وأنك تشركنا معك من خلال رسائلك، وهذا يشعرك بالمشاركة الحقيقية من أحباب لك في كل مكان وخاصة إذا ترجم هذا في صورة مشاركة وجدانية من خلال خبرة حقيقية مرت بها الأخت رحاب وأرسلتها كباقة حب ومواساة لك في أحزانك، ونحن أيضا يسعدنا الوقوف بجانبك في هذه المحنة، ولقد لفت نظري وجود كلمة لست أدرى في بداية الرسالة، ووجودها أيضا في نهايتها، ووجدت في ذلك مفتاحا مناسبا للرد والذي أوجزه فيما يلي:
من الأشياء المسلم بها في الحياة أننا نمر بلحظات سعادة ونمر أيضا بلحظات ضيق ومعاناة، وهذه أو تلك ليست مفاجآت في الحقيقة وإنما هي من صميم طبيعة هذه الحياة التي يمكن أن نلخصها في كلمة واحدة وهي "الكدح"...... "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ"......
فالحياة في بساطة كدح ينتهي بلقاء الله، وتتحدد طبيعة اللقاء بأهداف الكدح ونوعيته، وكل شيء يحدث في هذه الحياة له وظيفة وله معنى، وكلما كنا قادرين على فهم معنى الأحداث كلما كانت قدرتنا على قبولها والتعامل معها بل والاستفادة منها أكثر، وعلى العكس كلما كان المعنى غائبا أو غامضا كلما ازداد شعورنا بالألم والضياع، ومن الخبرات الحياتية المؤلمة خبرة "الفقد" أو "الفراق" ويبدو أنها خبرة حتمية لابد وأن نمر بها جميعا شئنا أم أبينا....... والرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول :"عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه"....
وأنت قد ابتليت بهذا الفقد لأعز مخلوقة في حياتك وهي أمك العزيزة رحمها الله، وعانيت في المرحلة الأولى من عدم قدرتك على التعبير عن الحزن الهائل المخزون في داخلك (كما فهمت من رسالتك الأولى)، ثم أصبحت الآن- كما ألمح في رسالتك الثانية- أكثر قدرة على التعبير عن حزنك (وأيضا غضبك واحتجاجك)، وعن إحساسك بالضياع وفقد السند، وإحساسك بالوحدة والفراغ، وهذه المشاعر تجاه فقد الأم تحتاج أن تستوعب بشكل يسمح باستمرار الحياة، ولا شيء يساعد على ذلك أكثر من فهم معنى ما يجري فينا ومن حولنا، فحين ندرك حكمة الله من خلقنا ومن موتنا ومن بعثنا، ومن لقائنا ومن فراقنا، وحين ندرك أن موت عزيز علينا لا يعني انتهائه من حياتنا أو من الوجود وإنما يعني وجوده في الكون بشكل آخر.
وبمعنى آخر فإن والدتك الحبيبة لم تصبح عدما وإنما انتقلت لتحيا عند ربها حياة البرزخ، وأنت وأنا وكل الناس مآلنا هذه الحياة، وصلتك بها لم ولن تنقطع بل فقط تأخذ أشكالا أخرى فأنت تستطيع التواصل معها بالدعاء لها في أي لحظة، وهي تباركك في أحلامك كما حدث لك، وتحوطك ببركة دعائها الذي كنت تسعد به، وهي بالتأكيد تسعد حين تراك تحقق توقعاتها منك في أن تكون ابنا بارا بها وبأبيك، وأخا بارا بأخواتك البنات، وهي تسعد حين تراك تقترب من ربك بالصلاة وفعل الخير.
وكثيرا ما ننظر للأحداث من وجهة نظرنا فنراها مؤلمة وكئيبة في حين أنها تحمل في طياتها بذور خير لنا "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".... فربما يدفعك فقدك لأمك العزيزة إلى مراجعة موقفك في أشياء كثيرة في حياتك وربما يدفعك هذا إلى مزيد من النضج والفعالية خاصة حين تشعر أنك أصبحت مسؤولا عن أخواتك البنات (خاصة في ظروف غياب أبيك)، وربما يدفعك شعورك الهائل بالوحدة إلى أن تتقرب إلى الله وتأتنس به فتفوز بالدنيا والآخرة.
ولقد وجد عالم النفس الشهير "فيكتور فرانكل" أن وجود معنى لمعاناتنا يجعل وجودنا أكثر قبولا وفاعلية، وأن غياب المعنى يصيبنا بما أسماه الفراغ الوجودي وعصاب اللا معنى (وهو ما تشكو منه الآن)، وديننا والحمد لله يعطينا المعنى الكامل للحياة والموت، ولا يتركنا في حالة "أللست أدرية" التي يعاني منها الذين فقدوا الصلة بالله أو نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
حاول أن تستوعب خبرة الألم هذه برجولة (أنت أهل لها) ولا تتردد في طلب المساعدة من الآخرين حين تحتاجها، واعلم أن الله إذا كان قد أخذ منك أمك فقد ترك لك أبيك وإخوتك وغيرهم كثير يحبونك ويتعاطفون معك حتى ولو كانوا بعيدين عنك آلاف الأميال (كما فعلت الأخت التي شاركتنا من أمريكا)، ونهر الخير لن يجف أبدا، ورحمة الله واسعة ولا تنقص بموت أعز الناس بل ربما تزيد إذا أنبنا واسترجعنا "إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ... اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها".
ولا تفقد شعورك الإيجابي بأمك الحبيبة فهي تشعر بك وتعلم بخطواتك بطريقة يعلمها الله، ولذلك افعل دائما ما تعلم أنه كان يرضيها ويسعدها، ودع التجربة المؤلمة تمنحك مزيدا من النضج والصلابة والحكمة لكي تعمر الحياة كما عمرتها أمك الحبيبة، وعندئذ لن تشعر بالحيرة أو الغضب، وستتلاشى كلمات: لست أدري، ولا أدري، ولماذا، وأين الرحمة.
أخي الحبيب إن رحمة الله تحيطك من كل جانب فقط افتح منافذ وعيك وستراها تملأ الكون من حولك.
* ويضيف الدكتور وائل أبو هندي، الابن السائل العزيز أهلا وسهلا بك وشكرًا على ثقتك الدائمة في موقعنا، مشكلتك الأولى التي وصلت صفحتنا كانت بعنوان الحداد المؤجل أم جفاف العين؟!، وأما المشاركة التي أشار إليها أخي الدكتور محمد المهدي، فتستطيع قراءتها بالنقر على الرابط التالي: جمود العينين والحداد المؤجل مشاركة، ونرجو في المرة القادمة أن يكونَ اكتئابك قد زال فتصبح أكثر قدرةً على التذكر، وأهلا بك دائما فتابعنا بأخبارك.
ويتبع >>>>: جمود العينين والحداد المؤجل متابعة مشاركة