الصبر على الم.ا.س يمحو الوسواس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
إلى الأستاذ وائل أبو هندي، أنا صاحب المشكلة التي عنوانها "الصبر على الم.ا.س يمحو الوسواس"، لقد عملت بنصيحتكم وذهبت لطبيب نفسي هنا في إسطنبول للعلاج من الوسواس القهري، وكانت الصدمة فقد قال لي بأن العلاج من هذا المرض يستغرق حوالي سنتين، كما أن الشفاء لا يكون تامًا ولا يُمحى المرض بشكل كلي ولا يوجد ضمانًا لعدم عودته بعد ذلك!! بصراحة شككت في كلام هذا الطبيب؛ ولذلك أرسلت لحضرتكم.. ما رأيكم بكلامه؟ ألهذه الدرجة الوسواس القهري مرض مستعصٍ؟
أنا لن أشعر بالراحة إلا بعد محو الوسواس تمامًا. وهو يقول لي بأنه لا يمحى تمامًا.. فماذا سأفعل إذن؟ لقد أعطاني علاجًا اسمه faverin، وبدأت أتناوله، وقال لي راجعني بعد أسبوعين.
أنا أريد من حضرتكم إرشادي كالمرة السابقة..
وشكراً جزيلاً لحضرتكم.
13/7/2006
رد المستشار
الأخ السائل العزيز، أهلاً بك وشكرًا على حسن المتابعة، وطبقًا لبياناتك فقد راسلتنا مرة من بلد ومرة من بلد آخر جعله الله سفرًا نافعًا، وكتب لك فيه الخير الكثير.
بالنسبة لسؤالك هذه المرة فإنه يتعلق بالمآل العلاجي للوسواس القهري، ونحن حين نتحدث عن المآل لا بد كمسلمين أن نتذكر أن المآل هو في الأصل غيب في علم الله، وكل ما يملكه الطبيب النفساني هو بعض المعلومات المستقاة من متابعة الحالات، فإذا قلت لك بداية بأن معظم من يتحسنون في بلادنا (ومنها بلد إقامتك الحالية) من المرضى الذين لا يتابعون العلاج كل هذه الفترة فإنني بذلك أقول لك بأن رأي طبيبك النفسي أكثر تشاؤمًا من اللازم، ولعله متأثر في ذلك ببعض الحالات التي لم يكتب لها الشفاء التام، وهي نسبة موجودة فعلا، وندعو الله ألا تكون منها.
ونحن كبشر في النهاية لا نستطيع إلا استقراء نتائج الدراسات العلمية، وقد نتكهن بناءً على تلك النتائج، وبوجه عام نستطيع القول بأنه بعد اكتشاف العلاج بالم.ا.س والم.ا.س.ا، وبعد تطوير طرق العلاج النفسي السلوكي والمعرفي فإن صورة المآل العلاجي لاضطراب الوسواس القهري قد اختلفت إلى حد ما وإن لم يكن كبيرًا بالشكل الذي يعني انتصار الطب النفسي على اضطراب الوسواس القهري انتصارًا ساحقًا نهائيا، فأكثر التقديرات الآن تفاؤلاً تشير إلى أن ما بين 60% حتى 80% يشفون تمامًا أو يتحسنون إلى حد يسمح لهم بالحياة شبه الطبيعية وما بين 20% حتى40% يبقون كما هم أو تسوء أحوالهم.
ولا تزال دراسات متابعة مرضى الوسواس القهري لفترات طويلة وبصورة منهجية قليلة على مستوى العالم، لكن دراسة حديثة تمت فيها متابعة مرضى الوسواس القهري لخمس سنوات أظهرت نتائجها ما يلي:
1- حدث تصاحب (أو تواكب) مرضي Comorbididity بين الوسواس القهري واضطرابات قلق أخرى في 76% وبينه وبين اضطراب الاكتئاب الجسيم في 33%.
2- وجدت سمات شخصية مضطربة إلى الحد الذي يسمح بتشخيص اضطراب شخصية واحد على الأقل وغالبًا من المجموعة القلقة أو الخوافة Cluster C في 33%.
3- كانت نسبة الشفاء التام مع الاستمرار على العلاج 20%، بينما تحسنت الأعراض إلى حد كبير في 50%.
4- كان الزواج، وعدم شدة الحالة عند بداية الدراسة مؤشرات على المآل الجيد، بينما كان التصاحب المرضي مع الاكتئاب الجسيم مؤشرًا على مآل سيئ.
بينما وجدت مجموعة أخرى من الباحثين، وإن كانت مدة متابعة المرضى في دراستهم سنة واحدة يتم تقييمهم خلالها مرة عند بداية الدراسة ومرة بعد ستة أشهر ومرة عند نهاية السنة.. أن اضطراب الاكتئاب الجسيم قد يظهر مصاحبًا لاضطراب الوسواس القهري في بداية المرض أو بعد ستة أشهر، ولكنه يتحسن عندما تتحسن أعراض الوسواس القهري.
واستنتج الباحثون أن هذا النوع من الاكتئاب الجسيم الذي يصاحب الوسواس القهري لا يؤثر سلبيًّا على مآل اضطراب الوسواس القهري واستقراء نتائج البحث العلمي الحالي في الحقيقة، إنما يشير إلى اختلاف في المآل في النوعين الكبيرين من اضطراب الوسواس القهري، وذلك بعد تقسيمه على أساس سن بداية الأعراض.
ففي الحالات التي تبدأ فيها الأعراض قبل أو في سن العاشرة غالبًا ما يكون مآلها أسوأ خاصة أن تصاحبًا مرضيا يحدث مع العديد من الاضطرابات النفسية الخاصة بالأطفال أو غيرها كاضطراب العرات أو اضطراب توريت وقد سبق لنا شرحهما، بينما ينتظر مآل مرضي أفضل نوعًا ما في الحالات التي تبدأ فيها الأعراض بعد سن السابعة عشرة، ويبدو الأمر متعلقًا بتغيرات معينة في النسيج العصبي تكون أكثر وقعًا وتأثيرًا في حالة بداية الأعراض في سن الطفولة.
وقد أشارت معظم الدراسات إلى هذا الرأي عند مناقشة هذه النقطة، فإذا رجعنا إلى حالتك فسنجد أنها بدأت منذ عام 2001 كما قلت في إفادتك الأولى، التي كان عمرك فيها فوق العشرين؛ وهو ما يبشر بمآل علاجي أفضل بمشيئة الله.
ومعنى ذلك أن هناك اختلافات بين نتائج الدراسات، كما أن الحقيقة التي تؤكدها الممارسة العملية للطب النفسي، ولو سُئل أي طبيب نفساني فإن الإجابة الغالبة هي أن الأدوية من مجموعة الم.ا.س SRIs أو الم.ا.س.ا SSRIs، تحسن مرضى الوسواس القهري الذين عالجهم ذلك الطبيب النفساني، ولم يصادفني خلال فترة عملي كطبيب نفساني والتي تزيد على العقد من الزمان أكثر من مرضى يعدون على أصابع اليد الواحدة لا يتحسنون وهؤلاء بالطبع من بين المئات الذين يتحسنون بشكل يزيد من ثقتي في الم.ا.س أو الم.ا.س.ا الذي أصفه لهم.
وأما كم سيستغرق العلاج فعلم ذلك عند الله قد يكون سنتين، وقد يكون أقل وقد يكون أكثر، ولكن عليك أن تحدد أولاً ماذا تقصد بالعلاج؟ هل تقصد به أن تتحسن الأعراض أم تقصد زوالها تماما؟!
وأنا هنا سأقول لك خبرتي الشخصية، وهي أنني بعد مرور عام كامل على العلاج بعد تحسن المريض تماما أبدأ في إنقاص الجرعة بالتدريج، وأنا ومريضي متكلان على الله فإن استمر تحسنه وهذا هو المعتاد خاصة إذا كان قد أتم علاجه السلوكي المعرفي بنجاح، فإننا نستمر في إنقاص الجرعة حتى ينتهي الأمر، فإن عادت الأعراض عدنا للعلاج.
ثم سألت أنت بعد ذلك عن المقصود بمحو الأعراض، والمقصود هنا ليس أنك تنسى الأفكار بمعنى أنك لا تتذكرها، وإنما المقصود أنها حتى لو مرت في ذاكرتك فإنك لا تقع في حبائلها مرة أخرى، وسأضرب لك مثلاً يوضح المقصود:
فقد وفقني الله في علاج سيدة كانت فكرتها التسلطية متمثلة في الخوف من أنها ستطعن بنتها وحبة قلبها بالسكين، وكانت كلما رأت السكين ماتت من الرعب، وكان الفعل القهري متمثلاً في وضع كل ما تملكه من سكاكين عند جارتها بحيث كان الشرط اللازم لاستخدامها للسكين هو أن توجد جارتها معها أثناء استعمالها للسكين، وكانت رغم ذلك تظل تسأل جارتها بعد ذلك ساعة أو أكثر ومباشرة ومن خلال الهاتف، هل أنت متأكدة أنني لم أطعن بنتي، رغم أن بنتها كانت تلعب بجوارها.
هذه السيدة بعد أن وفقنا الله في علاجها، وبعد ستة أشهر من انقطاعها عن زيارتي للمتابعة جاءت لتقول لي بأنها تحمد الله الذي خلصها من وسواسها، وإنها أصبحت تستعمل السكين مثلما تستعمله أي ربة بيت، لكنها لا تزال أحيانًا تتذكر فكرة أنها كانت تفكر في إمكانية طعن بنتها بالسكين، وأن هذه الفكرة تؤلمها، لكنها لا تمكث في وعيها أكثر من ثوانٍ.
هذا هو المحو الذي أقصده، وهذا في الأصل أمر طبيعي؛ لأن فكرة عذبت إنسانًا لفترة غير هينة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة أصلاً، وإنما نجاح علاج مريض ما يعني أن استجابته لاقتحام تلك الفكرة لوعيه ستختلف عما كانت قبل العلاج.
بقيت نقطة أخيرة وهي أن شيئًا لا يضمن عدم ارتداد أعراض الوسواس القهري بعد زوالها تماما، وأنا أقول لك بأن الضامن هو الله سبحانه وتعالى، فاسأله الشفاء؛ لأن من الممكن بالفعل عند تعرض المريض لميكروبات حياتية أن ترتد عليه الأعراض، ولكنها في حالة ارتدادها إنما ترتد على من عرفها من قبل، وعادة ما يلجأ إلى طبيبه النفسي ويستجيب للعلاج الذي استجاب له من قبل، إذن فلا داعي لأن تقلق من فضلك،
فقط انتظم في العلاج واطلب الخلاص من الله وهو نعم المجيب، وتابعنا بأخبارك.