القلق والتوتر
أولا أشكركم جزيل الشكر على هذا الموقع المتميز، خاصة في مجال تقديم الاستشارات النفسية، مع تمنياتي لكم بمزيد من التوفيق والنجاح إن شاء الله.
أنا فتاة في العشرين من عمري، ملتزمة دينيا وأخلاقيا الحمد لله، منذ حوالي عدة شهور وفي فترة الامتحانات بكليتي وفي إحدى الليالي كنت مجهدة للغاية، وأحسست بأني سوف أموت في هذه الليلة حيث لا أستطيع التنفس من فرط الإجهاد، ولكن مرت هذه الليلة بسلام.
ثم بعدها بدأت أفكر في الموت حيث كنت أعتقد أنه كثيرا ما يحدث بسبب مرض أو حادث أو كبر في السن أو أي سبب آخر، ولكنني أيقنت بأنه من الممكن حدوثه لأي شخص في أي وقت في أي مكان فانتابني شعور بالخوف من الموت، وبدأت أتصور حالي عند الموت وفراقي لأسرتي وأصدقائي وأحبابي؛ فكنت في هذه الفترة أحاول حساب نفسي على جميع أعمالي (صغيرة أو كبيرة)، حيث كنت مقصرة في أداء فرض من الفروض الدينية ألا وهو الحجاب، وبالفعل هداني الله إليه وتحجبت بعد اقتناع كامل والحمد لله.
ثم بدأ الخوف من الموت يتلاشى بمرور الوقت، ولكنه مازال يأتيني بين الحين والأخر خاصة عندما أفكر قبل النوم.. فهل هذا مرض؟ أم أنه مجرد هواجس؟
أم أن الله أراد أن يجعلني أشعر بهذا الخوف كي أتوجه أكثر إلى طاعته وطاعة جميع أوامره ومحاسبة نفسي على جميع أفعالي؟
وشكرا لكم جزيل الشكر.
22/5/2007
رد المستشار
الأخت السائلة؛ أهلا وسهلا بك على صفحتنا استشارات مجانين، الحقيقة أن ما تصفين حدوثه لك من أعراض نفسية معرفية وشعورية، تتمثل في القلق والانشغال بالموت أو لنقل في الخوف من الموت، والذي ينتابك أحيانا، أثناء التفكر قبل النوم.. كل ذلك يمكن أن يكون طبيعيا، بل إنه قد يكون مفيدًا إذا كانت نتيجته هي محاولتك ضبط سلوكك بحيث تكونين أكثر التزاما بمبادئ فهمك لدينك، ولدى المسلمين تراث كبير في الحض على تذكر الموت، لما في ذلك من تأثير قوي على منع الشخص من المعصية.
وفي هذا الإطار ومن هذا المنظور يصبح ما حدث معك نعمة من الله؛ لأنه وجهك إلى الأفضل فالتزمت به، وهنا سنجد الخوف من الموت يمثل درجة من درجات السواء النفسي، داخل المنظومة المعرفية للمسلم المؤمن أو المسلمة المؤمنة، وتذكري حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل ذكر الموت: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَكثروا ذكر هادم اللذات"، ويكمل رضي الله عنه: يعني الموت، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
ولكن عليك الانتباه جيدًا إلى الكلمات، فما أقوله في ذكر الموت يجب أن يؤخذ بهذا المعنى تحديدًا، ويشترط ألا يتجاوزه، لا عن قصد ووعي ولا عن غير قصد! لأن زيادة هذا الخوف عن الحد الذي يسمح للشخص بالحياة الطبيعية، متفاعلاً مع الآخرين، ومؤديا لكل وظائفه في الحياة، وقادرًا على استيعاب معطيات تلك الحياة، وقادرًا على الشعور بطعم تلك الحياة ومتعتها، وحمد الله عليها.. إذا زاد الخوف عن هذا الحد فإن الأمر لا يعود طبيعيا، ويصبح ابتلاء من الله يحمد عليه بالطبع، لكن الطبيب النفسي يسميه اضطراب القلق، والذي قد يأخذ عدة أشكال منها اضطرابات القلق الرهابية Phobic Anxiety Disorders، ومنها وهو الأكثر انتشارًا اضطراب القلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder، ووصول الأمور إلى هذا الحد المرضي يفرض على المسلم طلب العلاج من الطبيب النفسي، إلى جانب اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى وطلب رفع البلاء منه.
كما أنه من الممكن أن تسير الأمور في اتجاه آخر، هو اتجاه الزهد في الدنيا، بناء على أن نهايتها هي الموت، والذي يمكن أن يحدث في أي وقت وفي أي ظرف، وسنجد أيضًا أن لهذا الزهد في الدنيا درجاته.
أي أن الزهد الذي نعنيه هنا هو الزهد في الشيء لا الإعراض عنه لعدم الرغبة فيه أو الميل إليه، ولا عدم الإحساس بأهميته، ولا العجز عن القدرة على الاستمتاع به، وإنما الزهد المحمود هو الزهد في الشيء الذي يقاوم فيه المسلم شهوة حية في داخل نفسه للشيء المزهود فيه، وما يقاوم إلا طمعًا في فضل أكبر من الله عز وجل، مثل هذا الزهد لا يتعارض مع أن يعيش المسلم حياة طبيعية يتفاعل فيها مع الآخرين، وينتج ويبدع ويتعلم ويتفوق؛ لأنه بذلك يلتزم بما وضعه له الإسلام من طريقة في الحياة، فليس الزهد إذن زهد الرهبان الذين يرون المتعة في ذاتها حراما.
وأقول لك كل هذا الكلام عن الاكتئاب؛ لأنني أعرف من خلال ممارستي العملية للطب النفسي مع المسلمين أن الخوف من الموت الذي هو لب أعراضك، كثيرًا ما يصاحب مرضى اضطرابين نفسيين تبدو العلاقة بينهما وثيقة من ناحية الاستجابة للعلاج نفسه في الاضطرابين، ومن ناحية التواكب المراضي Comorbidity بينهما أيضًا، وهما اضطراب نوبات الهلع واضطراب الاكتئاب الجسيم، حيث يعالج كلاهما بمضادات الاكتئاب، كما تظهر أعراضهما معا في نفس الوقت أو غير الوقت في نفس المريض.
ويمكنك أن تعرفي معلومات أكثر عن هذين الاضطرابين بالرجوع إلى إجابة سابقة على صفحة استشارات مجانين هي: اختلال الإنية وخلطة القلق والاكتئاب.
أقول لك هذا رغم أن وصفك الأصلي للحدث الأول الذي بدأت التغيرات لك بعده عندما قلت في إفادتك: "منذ حوالي عدة شهور وفي فترة الامتحانات بكليتي وفي إحدى الليالي كنت مجهدة للغاية، وأحسست بأني سوف أموت في هذه الليلة حيث لا أستطيع التنفس من فرط الإجهاد، ولكن مرت هذه الليلة بسلام، ثم بعدها بدأت أفكر في الموت"، هذه البداية لا تظهر فيها أعراض نوبة الهلع، إلا أن تكوني قد أغفلتها، ونحن معتادون على أن نسمع من مرضانا أن تذكرهم للموت وخوفهم منه بدأ بعد المرور بخبرة نوبة الهلع، عافانا الله جميعا.
وما قصدت من كل ذلك العرض إلا أن أضمن وصول المعلومات التي قد تكونين أغفلتها في إفادتك، أو لم تفكري فيها، ولذلك أردت أن أتناول الأمر غير متناس غياب الحوار المباشر بيننا، ولأنني وجدتها مناسبة للتفكر في أمر الخوف من الموت كعرض نفسي، والخوف من الموت كأحد ضوابط نفس المسلم في حياته.
وعودة إذن إلى إفادتك، فما تصفينه أيتها الأخت العزيزة، وكل ما يحدث لك لا يشير إلى أكثر من هواجس تأتيك قبل النوم، وتدفعك في اتجاه تحسين علاقتك بربك سبحانه وتعالى، وإكمال التزامك بما ترينه يمثل سلوكيات دينك السليمة، وطالما بقيت في ذلك الإطار فأنت في حدود الطبيعي، والمحمود، بل يجوز لنا أن نغبط مَن هي مثلك على نعمة الله عليها فنتمنى مثلها لنا،
وأهلا وسهلاً بك دائمًا و تابعينا بأخبارك.