بداية أود أن أعبر عن خالص شكري وتقديري لهذه الصفحة وللموقع على وجه العموم
وأرجو من الله عز وجل أن تكون جهودكم هذه في ميزان حسناتكم يوم القيامة وأن تكونوا ممن فرج عن مسلم كربة ففرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، اللهم آمين.
ثم أود أن أذكر تجربتي مع مرض الوسواس القهري علها أن تكون مفيدة للمصابين بهذا المرض وأن تحمل لهم بين طياتها بعض الإجابات على أسئلتهم الحائرة، وحتى ينتعش الأمل في قلوبهم بأن هذا المرض له دواء وله شفاء وليس ميئوسا منه.
بدأت تجربتي مع الوسواس القهري من حوالي ست سنوات وقد بدأت مع بداية المرحلة الثانوية وكانت من شقين:
الأول هو موضوع وسواس الطقوس وتكرار الأفعال: وكانت متركزة بشدة في مسألة الطهارة والصلاة بصفة خاصة، وكانت له صوره المختلفة والمتنوعة، حتى وصل الأمر إلى قضاء ما يزيد عن ساعة في الوضوء، أما الغسل فكان أشبه بمعركة حربية لها ترتيباتها وخططها واستعداداتها الخاصة، ناهيك عن تكرار الصلوات مرات ومرات... الخ ولا يمكنكم تخيل مدى الضيق والتذمر والقلق الذي كنت أسببه لوالدي بسبب هذا الموضوع...
وقد استمر هذا النوع معي خلال الست سنوات كاملة، والعجيب أنني كنت عندما أستفتي في شيء من هذه الأشياء وتأتي الإجابة لتريحني من بعض التصرفات أجد أن عقلي يتفتق عن مشاكل جديدة وممارسات جديدة (يا له من إبداع!!) تزيد الطين بلة، وبهذه المناسبة أحب أن أشيد بأستاذنا الدكتور علي جمعة فقد سألته ذات مرة عن إحدى المشاكل التي تواجهني في هذا الجانب لكنه رفض إجابتي قائلا أنه لا فائدة من الفتوى وأن الحل الوحيد هو الاتجاه إلى الطبيب النفسي، والحقيقة أنه من المهم أن يكون أهل العلم والفتوى على دراية بمثل هذا الموضوع -خاصة أن كثير من صور هذا المرض تظهر في صورة مشاكل دينية- وبالتالي إذا نصحوا باللجوء إلى الطبيب النفسي فإنهم يختصرون المسافة والمعاناة التي تحيط بالمريض.
كما عانيت أيضا من وسواس الأفكار والهواجس وكانت في مسائل العقيدة وذلك في صورة أفكار الكريهة تحوم حول مواضيع لها قداستها ولا ينبغي التفكير فيها إلا بما تستحق من الإجلال والاحترام، وللعلم فإن هذا الجانب في بعض الأحيان يكون أكثر إيلاما أو إزعاجا من النوع الأول وهو كفيل بأن يحيل حياة المريض إلى جحيم لا يهنأ معه بشيء وقد استمر هذا الأمر معي حوالي ثلاث سنوات.
المهم كانت غلطتي الأولى هي أنني لم أتجه الاتجاه الصحيح وهو الطب النفسي واستشرت المعارف والأهل، والعجيب أن من بينهم مثقفين كبار، وكلهم ينصحونني بالذكر وقراءة القرآن ...إلخ وكلها أمور مهمة لا أنكر أهميتها -بل إن البعض منهم وبخني ونهرني على طريقتي في التفكير- ولكن لكل داء دواء وبالتالي لا بد من العلاج، المهم وبعد مرور حوالي ثلاث سنوات ومع اشتداد الوضع اقترح علي الأهل الذهاب إلى الطبيب النفسي والحقيقة أنهم اقترحوه على استحياء وكأن الذهاب إلى الطبيب النفسي سبة أو وصمة عار وهنا وقعت في غلطتي الثانية حيث رفضت ذلك تماما تحت تأثير الأفكار الخاطئة المتداولة في ثقافتنا عن الطب النفسي وأنه للمجانين فقط أو أنه عبارة عن جلسات من الكلام والدردشة التي لا طائل من ورائها.
المهم في السنة السادسة من بداية المرض بدأت البحث في الإنترنت ووجدت الكثير من المواقع التي تتحدث عن هذا المرض وعلاجه، وكان لصفحتكم هذه نصيبها الوافر فجزاكم الله كل خير، وقد دفعني هذا البحث إلى اتخاذ الخطوة الصحيحة وهي اللجوء إلى الطبيب النفسي، ولكي أجعل الأهل يتقبلون هذه الفكرة ولكي أجعلهم يغيرون الفكرة الخاطئة عندهم عن الطب النفسي قمت باقتطاف بعض الصفحات من الإنترنت التي تتحدث عن هذا الموضوع وطبعتها وقدمتها إليهم ليقرءوها، وقد كانت فكرة ناجحة جدا، وأعتقد أنها مفيدة لكل من يمر بهذا الموقف، والحمد لله استشرت الطبيب واستمررت على العلاج الذي آتى ثماره بحمد الله تعالى وتوفيقه.
بالنسبة للعلاج: كما تفضلتم وأشرتم في عدد من إجابتكم على هذه النوعية من المشاكل هناك العديد من الأدوية لهذا المرض لذا فسأصف هنا العلاج الذي سرت عليه أنا فقد وصف لي الطبيب "أنافرانيل Anafranil" بالإضافة إلى علاج آخر مؤقت (استمر لمدة ثلاثة أشهر) "ريسبيردال Resperidal" وقد بدأ معي الطبيب في الأنافرانيل بحبة واحدة 25جم ترتفع الجرعة تدريجيا يعني كل أسبوعين حبة زيادة مثلا حتى وصل إلى 150جم أي ثلاث حبات صباحا وثلاثة مساء.
وبدأ معي التحسن بعد حوالي شهر واستمر إلى أن وصل إلى قمته بحمد الله بعد حوالي خمسة أشهر ولكن قرر الطبيب الاستمرار على العلاج بجرعة مخفضة وأنا الآن في الشهر الثامن على ما أعتقد وأتناول الجرعة المخففة 75جم والأمور تسير على ما يرام بحمد الله.
ختاماً نصيحتي لكل مصاب بهذا المرض أن يتخذ الخطوة الصحيحة ويتجه إلى الطبيب النفسي ولا يلتفت إلى من يزعم أن هذا المرض نتيجة لضعف الإيمان أو مطاوعة الشيطان... الخ، فهذا المرض مثله مثل الصداع والمغص، فهل يزعم أحد أنك ضعيف الإيمان لمجرد إصابتك بالمغص مثلا..؟ الإجابة هي لا بالطبع.
النصيحة الثانية هي الصبر والاستمرار على العلاج لأنه ومن خلال تجربتي الشخصية لا تظهر بوادر التحسن إلا بعد شهر وأحيانا ثلاثة أشهر، كما أن فترة العلاج قد تمتد إلى سنة، نعم قد يعتقد المريض أن الموضوع طويل ولكنه على كل حال يستحق الجهد والصبر، ولا يمكن تخيل مدى الراحة الذي يشعر بها المريض عندما يشفيه الله ويعافيه من هذا المرض. ويجب على المرضى أن يتذكروا -قبل كل شيء وبعده- أن الشافي هو الله وأن العلاج ما هو إلا سبب للشفاء فعليهم مع طلب العلاج والأخذ بالأسباب الاتجاه إلى مسبب الأسباب فهو القادر على كل شيء. كما أزف لهم هذه البشرى النبوية، علها تخفف عنهم بعض الآلام التي يجدونها:
- عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها" (رواه البخاري).
- عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" رواه البخاري، وختاما أرجو أن لا تنسوني من دعوة بظهر الغيب، وأسأل الله لجميع مرضى المسلمين الشفاء العاجل وراحة البال.
ملاحظة: في أثناء بحثي على الإنترنت قمت بعمل ملف يضم بعض المواضيع والاستشارات المتعلقة بهذا المرض، وقد استفدت من بعضها كما ذكرت في تصحيح الفكرة الخاطئة لدى أهلي عن الطب النفسي، كما قمت بإعطائها لبعض زملائي في الكلية ممن أصيبوا بهذا المرض (تخيل أن في دفعتنا التي لا تزيد عن واحد وعشرين طالباً كان هناك ثلاثة مصابين بهذا المرض، وليس هذا حكما من عندي بل ذهبوا إلى الأطباء وهو الذي شخص هذه الحالة لهم) ... كما أنني مشارك في بعض المنتديات المهتمة بالطب النفسي وأعمل على مساعدة من يعانون من هذا المرض، وأعتقد أن هذا أقل ما يمكنني فعله شكرا لنعمة الله علي بالشفاء من هذا المرض، وقد أرفقت بهذه الرسالة نسخة من هذا الملف ربما تجدون من المفيد أن ترسلوها لمن يشكو لكم من الوسواس القهري، وفقكم الله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نشرت هذه الاستشارة من قبل على صفحة مشاكل وحلول.
30/7/2007
رد المستشار
الأخ العزيز؛
حياك الله وأدام عليك الهناء وراحة البال، نعم المسلم أنت إذ تريد أن تجنبَ إخوانك في الله المرور بمثل معاناتك، والحقيقة أنك تتمتعُ بقدرةٍ ممتازةٍ على العرض والتحليل وهذا ما دفعنا إلى نشر رسالتك كاملةً، لما نجدهُ فيها من نفع عظيمٍ لمن شاء لهم الله الابتلاء باضطراب الوسواس القهري ولغيرهم في الحقيقة ممن يحملون مفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان تدفعهم في طرقٍ تزيد معاناتهم وتبعدهم عن طريق الطبيب النفسي، كما نعدك بأن نرسل ذلك الملف إلى كل من يحتاج إليه كما طلبت.
بينت في أول رسالتك كيف تاهت بك السبل بمعاناتك بعيدًا عن الطبيب النفسي والحقيقة أن المسار المرضي لاضطراب الوسواس القهري مسار طويل من حيث المدة الزمنية خاصة إذا عرفنا أن كثيرًا من المرضى يستمرون في معاناتهم سرًّا فترة طويلة ربما تصل إلى سنوات عديدة، وهم يخجلون من الشكوى من معاناتهم أو يخافون من وصفهم بالجنون أو الكفر! وذلك رغم ما روي من أن أحد الصحابة قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأجد في صدري ما تكاد أن تنشق له الأرض، وتخر له الجبال هدًّا"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوجدتموه في قلوبكم.. ذلك صريح الإيمان"، ثم قال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم وأبو داود وأحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وفي حديث آخر: "إن الشيطان ليأتي أحدكم فيقول له: مَنْ خلق الشمس؟ فيقول: الله. فَمَنْ خلق القمر؟ فيقول: الله. فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله".صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواهُ مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وذلك حتى يقطع الإنسان هذه الوساوس.
وهنالك أيضا من يعانون ولا يعرفون أن ما يعانون منه هو مرضٌ يمكنُ أن يعالج كما ذكرتَ أنت أيضًا في إفادتك؛ ولكن ما الذي يحدث بعد أن يتخلَّى الإنسان عنْ سِرِّهِ الأليم؟ إنَّ مسار المرضِ يعتمدُ الآنَ في مجتمعاتنا العربية إلى حد كبير على: لمنْ أفشَى المريضُ سرَِّهُ؟ هل لأبيه أم لأمهِ أو من هو في وضع أيٍّ منهما؟ هل للشيخ في المسجدِ؟ أو للأب في الكنيسةِ هل لأخيه هل لصديقه؟ هل لطبيبه الباطني أو للصيدلي الذي يعرفهُ؟
إن الكلامَ عنِ المسار المرْضي لمرضٍ نفسي في بلادنا لابد مختلفٌ عنْ ما هو في البلاد الأخرى التي يتكلمُ فيها الأطباءُ النفسيون بطريقة يفهمها المجتمع الذي يعيشونَ فيه بالشكل الذي يجعل معظم الناس تعرف ما هو الوسواس القهري ويدلونَ المريض بالتالي إلى الاتجاه الصحيح، لكنَّ الذي لا شكَّ فيه أن المريضَ المحاط بأناسٍ أصحاء من الناحية النفسية سواءً في مجتمعاتنا أو غيرها يصلُّ إلى الطبيب النفسي في نهاية الأمر.
فإذا أردنا أن نقـدِّرَ المدةَ الزمنية التي يضيعها المريضُ بالوسواس القهري في مسالكَ غالبًا ما تزيدُ من معاناته أو على الأقل لا تفيدُهُ فلدينا بحثٌ أجري في مصر أوضحَ أنَّ:
-1- نسبة 7% فقط من مرضى الوسواس القهري يصلون الطبيب النفسي خلال العام الأول للمرض.
-2- نسبة 18% من مرضى الوسواس القهري يصلون الطبيب النفسي خلال العام الثاني للمرض.
-3- نسبة 41% يصلون الطبيب النفسي بين العام الثاني والعام الرابع لظهور أعراض المرض.
-4- نسبة 26% يصلون الطبيب النفسي بين العام الرابع والعام الثامن لظهور أعراض المرض.
-5- نسبة 10% يصلون الطبيب النفسي بعد أكثر من عشرة أعوامٍ من ظهور أعراض المرض.
ومن الملاحظات الجديرة بالذكر في ذلك البحث أن المرضى من المناطق الريفية كانوا يصلون إلى الطبيب النفسي بعد مدةٍ زمنيةٍ أقل من سكان المدن ويبدو ذلك عكس المتوقع إلا أن الحقيقة أن سكان الريف يلجأون بسرعة إلى الشيخ الذي يفشل في مساعدتهم فيلجأون بعد ذلك مباشرة إلى الطبيب النفسي في المدينة وربما كان لوجود الأخير في المدينة لا في القرية ما يسهل عليهم ذلك ، أما سكان المدن فغالبا ما يمرون بعد الشيخ على جراح المخ والأعصاب ثم يستبدلون به آخرَ كل ذلك هربًا من وصمة المرض النفسي التي هيَ أكثرُ تأثيرًا عندنا في أوساط الطبقة المتوسطة من ساكني المدن منها في الريف، وذلك استنادًا إلى ملاحظات العديد من الأطباء النفسيين وإن لم تكن لديَّ دراسةٌ تؤكده.
وأما النقطة الثانية المهمة في جدا في إفادتك فهيَ ما أشرت إليه من موقف فضيلة الأستاذ الدكتور على جمعة معك، فهو نعم المثل على الفقيه المتبصر بأمور الدين والدنيا معا، وليس هذا غريبًا على شيخنا الذي أنعم الله تعالى عليه بفطنةٍ لا تخفى على أحد، فأنا شخصيا استفتيت فضيلتهُ عدةَ مراتٍ بناءً على أسئلةٍ من مرضاي ولا أخفيك أنني كنتُ أعجبُ من فطنته حين يقول لي مثلا:
المريض الذي سألك هذا السؤال موسوس، وعليك أن تجيبه بكذا، وكان لطريقة فضيلته في التحليل والرد ما دفعني بحق إلى زيادة الإصرار على أن يكونَ للمسلمين طبهم النفسي الخاص بهم، لأن علم النفس والطب النفسي ليسا من مبتدعات الحضارة الغربية كما يعتقد ويردد الكثير من المثقفين مع الأسف، بل إن التناول النفسي للإنسان هو الأصل في الشرع الإسلامي وفي عمل الفقيه المسلم كما تعلمت وفهمت من ردود وطريقة تفكير فضيلة الشيخ على جمعة، فماذا أقول لك غير ادع الله أن يجعل جل شيوخنا مثل فضيلته.
وإنهُ لمن دواعي إسعادنا واعتزازنا أن تكونَ معظم محتويات الملف الرائع الذي قمت بإعداده وبعثته لنا لنرسله لمن يستشيرنا من مرضى الوسواس القهري، معظم محتويات هذا الملف هيَ صفحاتٌ من ردودنا على استشارات مجانين، ومن بينها:
الوسواس القهرى: أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعى
الوسواس والحسد وحال اللغة العربية
وأما النقطة التي أشرت إليها في آخر إفادتك من أن ثلاثةً من واحدٍ وعشرين هم كل دفعتك الدراسية أصيبوا بالوسواس القهري فهذا بالتأكيد معدلٌ انتشارٍ مرعب ولكنه والحمد لله مصادفةٌ بالتأكيد، فنتائج الدراسات العلمية القليلة التي أجريت في منطقتنا العربية لا تشير إلى معدل مرتفع بهذا الشكل، وإن كانت أكثر هذه الدراسات احتكاكًا بالمجتمع قد أعطت معدل انتشار اضطراب الوسواس القهري يبلغ 3% وهو أكثر من كل الدراسات الأخرى، وإذا قدرنا على أساس نتيجة هذه الدراسة فإن هناكَ ما يزيدُ على تسعة مليون شخص عربي يعانون من اضطراب الوسواس القهري في درجته الشديدة، إن وجود ثلاثة أفراد من كل مائة فرد يعانون من مرضٍ ما يمكنُ أن يسببَ عائقًا كبيرًا لحياتهم الشخصية، وعائقًا أكبرَ للمجتمع من خلال تأثيرات اضطرابهم على أسرهم وعلى قدرتهم على العمل وقدرتهم الإنتاجية بشكلٍ عام.
ومن المهم بالطبع أن أبينَ أن فرقًا كبيرًا يوجدُ ما بينَ أن ندرسَ المترددين على عيادات الطب النفسي الموجودة في أنحاء العالم العربي المختلفة، وبين أن ندرسَ معدل الانتشار في المجتمع خاصةً عندما يكونُ الكلامُ عن اضطرابٍ نفسي تتداخلُ معظمُ أعراضه مع التصرفات العادية الطبيعية للبشر جميعًا مثلما هو الحال في اضطراب الوسواس القهري وفي اضطراب الاكتئاب وفي غير ذلك من الاضطرابات النفسية.
فمثلاً يمكنُ أن تعتبرَ أمٌّ مريضةٌ باضطراب الوسواس القهري مجردَ أمٍّ تهتمُّ بالنظافةِ أكثرَ من اللزوم، وتعيشُ هيَ وزوجها وأبناؤها ربما العمرَ كله دونَ أن يعتبرُ أحدٌ أن الأم مريضةٌ بالوسواس القهري، ويمكنُ كذلك أن تعتبرُ أمٌّ توسوسُ في خوفها على أولادها مجردَ أم كثيرة القلق على أبنائها لأنها تحبهم!، ولا يرى أحدٌ في هذا الأمر علامةً على اضطرابٍ نفسي، والأمثلةُ كثيرةٌ على ذلك لكنَّ الأمر طبعًا يتعلقُ في معظم الأحيان بالحالات الخفيفة أو المتوسطة الشدة من اضطراب الوسواس القهري، وهذا هو ما يسببُ الفرق الذي أتكلم عنهُ، لأننا لا نستطيعُ أبدًا أن نتصورَ أن كل من يعانون من اضطراب الوسواس القهري إنما يعرفونَ أنهُ مرض ويعرضونَ أنفسهم على الطبيب النفسي بناءً على ذلك، أي أن هناكَ أعدادٌ كبيرةٌ جدا من المرضى لا يعرفونَ أنهم مرضى.
إذن لو حدثَ مسحٌ طبيٌّ نفسي لتحديد معدلات انتشار الوسواس القهري في الأفراد العاديين في المجتمع لاكتشفنا أضعافَ أضعافِ الأعداد التي تصل إلى عيادات الطب النفسي، وأنا أستثني أيضًا قطاعًا كبيرًا من المرضى يبحثونَ عن المساعدة على معاناتهم عند الدجالين وعندَ مدعي العلاج بالقرآن الكريم، وأستثني أيضًا أولئكَ الذين يعرفونَ أن ما يعانون منهُ هو خبرةٌ نفسيةٌ غير طبيعية لكنهم يخافونَ من الإفصاح عنه مخافةَ اتهامهم بالجنون أو لأنهم يعتقدونَ أن ما يعانون منه مقتصرٌ عليهم ولا يعاني منه غيرهم، أي أنني أتكلم عن من هم على استعداد للإدلاءِ بمعلومات صحيحةٍ لمن يقومون بالمسح الطبي النفسي.
وأما النقطة الأخيرة التي أود تنبيه المتصفحين لها فهيَ أن نوعيةَ وجرعات العقاقير التي تحسنت أنت عليها بفضل الله ليست صالحةً للتعميم بأي شكل من الأشكال، فلكل إنسان منا تركيبته النفسية والعضوية الخاصة جدا، وما قد يفيدُ في علاجك قد يضرُّ بحالة غيرك رغم تشابه الأعراض الخارجية للاضطراب، ولذلك وجبَ علينا التنبيه إلى ضرورة وصف العقار بواسطة الطبيب النفسي المتخصص بعد التقييم الشامل لحالة المريض النفسية والجسدية.
وفي الختام أشكرُ لك مجهودك الرائع وشعورك الطيب، وأسأل الله أن يجزيك خير الجزاء.