كيف أتخلص من ماضي صديقتي
أنا (ج1) كنت في السنة الثالثة من المرحلة الجامعية تعرفت على إحدى البنات (ج2) وكانت نعم الخلق والصداقة تعرضنا لمضايقات كثيرة من بقية البنات بحكم أننا نحب الجلوس منفردتين ليس لشيء معاذ الله ولكن كنا بطبعنا لا نحب التحدث أمام أي أحد
بعد مرور نصف العام تعرفنا على أخوات (ه1-ه2) وأصبحنا رباعي رهييييييييييييييب جدا أخلصنا لبعض بقدر غير طبيعي ولكن ازدادت علاقتي أكثر وأكثر ارتباطا بـ (ه1) لدرجة أنه ممكن أن تشعر إحدانا بمرض الأخرى لا أستطيع أن ألخص ما كان بيننا من عفوية وأخوية وصداقة بهذه السطور البسيطة.
بعد التخرج قدر الله أن (ه1) يتبقى لها بعض المواد فاضطرت لإكمال دراستها وتوجهت أنا لوظيفتي كنا على اتصال شبه دائم
ولكن فجأة اختفت سافرت وبعد مرور وقت طويل علمت من (ه2) بعد الضغط الشديد أنها تزوجت وسافرت للخارج معقول! بعد كل هذا الإخلاص والصداقة لم ترفع السماعة لتخبرني لتودعني! مر على هذه القصة الآن قرابة 4 سنوات ولازلت لا أستطيع أن أغفر لها
حاولت الاتصال بس وفعلا اتصلت تخبرني بأنها أنجبت طفلة جميلة وأرسلت لي صورتها وتطلب مني أن أسامحها وأن ما حدث حدث بسرعة ولكني لم أستطع!، بقدر ما كانت ولازالت تعني لي الكثير بقدر لا يمكنني الغفران
بعد معرفتي بالأمر انطويت على نفسي، وانعدمت ثقتي بما يسمى صداقة حتى (ج2) و(ه2) لم أعد أصدقهن أحاول كثيرا ولكني أشعر بالبعد
عكفت على الكمبيوتر والانترنت والعمل، أصبت بعدة أمراض جسدية برأي الدكتور أن سببها نفسي ولكني لم أبح لأحد!، ببساطة أهلي لن يدركوا أن هذا الأمر ممكن أن يؤثر بهذا القدر الكبير فهم ليسوا ممن يدرك هذي المشاعر بحساسية
تعبت من الحديث ولا أدري كيف أصف ما حدث وما يحدث كيف أتخلص من شيطانها ووهمها،
أخيرا ربما لا تصدقون ولكن ليس لي صديقة.
28/11/2003
رد المستشار
أختي الفاضلة ................المتعلقة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
لقد خلق الله الإنسان كائنا اجتماعيا يبحث عن إنسان أو إنسانة ليستأنس به أو بها، وهذا الدافع النفسي والاجتماعي كان له دور في بناء المجتمعات والحضارات الإنسانية، وإن من يفتقد الرغبة في إقامة علاقة مع الناس نضعه في عداد المرضى النفسيين أو مضطربي الشخصية.
ولكن هناك فرقا بين العلاقة والتعلق، فالعلاقة تتم بين كيانين مستقلين ناضجين لتؤنس وتثري كل منهما بالآخر وهذا هو النموذج الناضج في العلاقات النفسية والاجتماعية وهو لا يعني الاعتماد على الآخر بل يعني التعاون معه، ولا يعني الذوبان فيه بل يعني التواصل معه، ولا يعني إلغاء ذات الحبيب لحساب ذات المحبوب بل يعني تأكيد ذوات الاثنين وتدعيمها من خلال هذه العلاقة الناضجة،وعلى الرغم من قوة العلاقة إلا أن طرفيها يظلان قادرين على الحياة الطبيعية إذا اضطرتهما الظروف للانفصال لأنهما من البداية كيانين قائمين بذاتهما ومستقلين وناضجين.
أما التعلق فلكي نفهمه نعود إلى صورة بعض النباتات المتسلقة وهي نباتات ضعيفة السيقان ولذلك تكون غير قادرة على النمو الرأسي بمفردها وإنما تحتاج لدعامة تتعلق بها وبدون هذه الدعامة تسقط فورا، إذا نقلنا هذا النموذج النباتي إلى التعلقات الإنسانية نجد أنه قائم في كثير من الحالات حيث يتعلق بعض الناس بغيرهم بحثا عن الحب أو الجنس أو الصداقة أو الدعم أو المساندة، والتعلق في هذه الحالة يكون مسألة وجود بحيث أن المتعلق ينهار إذا ابتعد عنه الطرف الآخر فهو لا يستطيع الحياة الطبيعية بدونه،
وهذا نوع غير ناضج من العلاقات سببه تأخر النضج النفسي أو وجود حرمان شديد من الحب أو وجود احتياجات نفسية غير مشبعة (وأحيانا إشباع زائد عوده على النهم في الأخذ من الآخر) أو عدم ثقة بالنفس، ومن هنا يحتاج الطرف الضعيف أو المحروم أو المتخم المترهل أو الخائف أو فاقد الثقة إلى تأكيد وجوده من خلال كيان آخر يدعمه فيحدث ما نسميه بالتعلق، وهو يأخذ عند الناس أسماء كثيرة براقة وخادعة مثل: الحب أو الصداقة أو الإخلاص أو العشق أو الهيام أو الوله.
ومن علامات هذا التعلق أن الطرف المتعلق يرغب في الاستئثار بحبيبه ولا يسمح بمشاركة أحد له في صداقته أو حبه، ويشعر أن حبيبه في كفة والوجود كله في كفة بحيث إن غاب الحبيب فالوجود كله قد غاب وانتهى، وبعضهم يصل في تعلقه بالآخر إلى ما يشبه الجنون (مثل مجنون ليلى وكثير عزة) فيهيم على وجهه بحثا عن الحبيب المفقود.
والتعلق هو نوع من الحب النرجسي حيث يحب الشخص شخصا آخر حبا تملكيا ويريد أن يستدمجه بداخله بحيث يصبح جزءا من تكوينه ومن هنا يصبح فقده مثل فقد جزء من كيان الإنسان النفسي أو الجسدي، وهو أقرب إلى الحب الطفولي حيث يشعر الطفل أن أمه ملكا له وحده ولا يحتمل أن يأخذ منها أحد شيئا فيغار من إخوته ويغار من أبيه، ويستدمج صورة الأم بداخله حتى لا تفارقه أبدا، ولكنه مع النضج يتحول بمشاعره أو أجزاء منها إلى محبوبين آخرين مثل أصدقائه أو أبنائه أو زوجته وبذلك يحدث التوازن والنضج.
وهذا النضج الطبيعي قد يتأخر عند بعض الناس نتيجة لحرمان زائد (وأحيانا إشباع زائد يتبعه تخمة ونهم وترهل نفسي) فيحدث تثبيت عند مرحلة معينة من النمو النفسي تتميز بهذا التعلق.
واضطرابات التعلق نواجهها في العيادات النفسية عند الأطفال والمراهقين حيث نرى طفلا لا يستطيع الابتعاد عن أمه لحظة واحدة أو مراهق لا يستطيع الحياة بدون صديقه أو صديقته دون الوضع في الاعتبار أي ضوابط اجتماعية أو خلقية أو دينية، وتفشل كل المحاولات لإعادة هذه العلاقة إلى وضعها الطبيعي المقبول أو فصلهما عن بعضهما (وكأنهما توأم ملتصق)، وكثيرا ما يحتاج الأمر لتدخلات علاجية نفسية متخصصة لعلاج ما نسميه قلق الانفصال وهو حالة شديدة من القلق قد تصل (بل غالبا ما تصل) إلى درجة الهلع عند فقد المحبوب أو حتى التهديد بفقده، ويمكنك أن تقرئي عنه في الأطفال في رد سابق على صفحتنا استشارات مجانين تحت عنوان: قلق الانفصال في الطفولة
وفي الثقافة الدينية الكثير من الكتابات والكتب عن التعلق ومشاكله ومساوئه لأن التعلق بالأغيار (الأشياء أو الأشخاص) تعلق بأشياء زائلة أو متقلبة بالضرورة، وزوالها أو تقلبها يصيب نفس المتعلق بالضياع أو الانهيار أو الاكتئاب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث:
"عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه عليه الصلاة والسلام يحذرنا من التعلق بالذات (لأن الذات سوف تموت حتما) ومن التعلق بالأغيار (لأنهم إن آجلا أو عاجلا سيفارقون أو يتغيرون).
والتعلق يكون ايجابيا فقط إذا كان تعلقا بالله، وهذا ليس من باب الحماسة الدينية (وإن كنت لا أخفيها ولا أنكرها)، وإنما هو حقيقة نفسية لأن الله هو المحبوب الأوحد الذي لا يغيب ولا يتغير ولا يتبدل ولا يزول، وهو لكل هذا وفوق هذا جدير بالتعلق، والتعلق به سلوك ناضج يمنح الإنسان آفاقا واسعة من الرؤية والوجود وبالتالي يمنحه قدرا هائلا من الحرية والإرادة والمسئولية لأن الله سبحانه وتعالى يريده كذلك وقد خلقه مسئولا ذا إرادة حرة، في حين أن التعلق بالبشر أو بالأشياء يخلق حالة من العبودية والضيق والقهر، وهذا ما عبر عنه ربعي ابن عامر (رضي الله عنه) عند لقائه برستم ملك الروم حين قال له ملخصا رسالة الإسلام: "جئنا لنخرج الناس من عبودية البشر إلى عبودية الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
والتعلق خاصية نفسية وجدت في الكائن البشري لتوجهه نحو الله (المحبوب الأول والأكبر والأوحد), وهي حين تتم يحدث توازن مهم في النفس البشرية حيث تشكل هذه العلاقة الرأسية ثباتا للنفس في علاقاتها الأفقية مع البشر (وهي علاقات مطلوبة وأساسية أيضا)، أما إذا اختفى هذا التعلق الرأسي بالله، وأفرغت طاقته أفقيا في علاقة بأحد من البشر أو الذات أو الأشياء فان الشخص يقع في حالة من التعلق المرضي يشقى به ويمرض لأنه قد وضع نفسه تحت رحمة متغيرات وزائلات.
وأنت يا أختي الفاضلة قد وقعت في فخ التعلق بما أسميتها ( ج1) أولا، ثم وقعت بعد ذلك في نفس الفخ مع ما أسميتها (15) وعند فراقهما (وهو حتمي إن آجلا أو عاجلا) انهرت واكتأبت وفقدت ثقتك بالصداقة وبالناس، مع أن ما حدث لم يخرج عن المألوف في الحياة اليومية وعليك تقبله على أنه جزء من الحياة الواقعية وهذا لا يعني يأسا من الإخلاص أو الحب أو الصداقة بقدر ما يعني الواقعية والنضج في التعامل مع البشر بحيث لا نحملهم فوق طاقتهم ولا نطلب منهم ما يعجزون عن الوفاء به لأي سبب من الأسباب.
وفي هذا السياق أنصحك بتقوية علاقتك بالله (إلى أن تصير تعلقا) وأن تصبح هذه العلاقة هي مصدر الأمان والثبات في شخصيتك يوما ما، وأيضا بتقوية وتنويع علاقاتك الأفقية بالبشر ولا تقصريها أو تندفعي بها كاملة في اتجاه شخص واحد (مهما كانت مكانته أو مكانتها) بل افتحي مسارات متعددة للعلاقات الإنسانية المتوازنة والناضجة مع الأب ومع الأم ومع الأخوة والأخوات ومع الأقارب ومع الزوج (في المستقبل) ومع العشيرة ومع أهل الوطن ومع الأمة ومع الإنسانية ومع الكون كله على أساس أنهم كلهم من مخلوقات الله حبيبك الأكبر والأول والأوحد الذي لا يزول ولا يتغير ولا يغيب عنا طرفة عين.