الكمالية
أعزائي السلام عليكم؛ إن كمالي في بعض أفكاري وتصرفاتي خصوصاً ما يخص الدراسة والعلاقات الاجتماعية وقد حاولت طويلاً أن أتخلص من هذه النزعة وما يصاحبها من تردد وقلق وخوف اجتماعي واكتئاب وتأجيل وتسويف إلى ما هنالك من الأعراض والمشاكل المتزامنة مع هذه المشكلة.
والداي مثاليان إلى حد ما ولدي بعض عادات الإدمان غير السيئة بحد ذاتها كوسيلة لإخماد حالة القلق التي لدي، عندي ضعف ثقة بالذات، انطوائية محدودة والكمالية لدي قد تكون ناتجة عن بعض خبرات الطفولة (تشجيع على التفوق، عقوبة على الخطأ، محاولة تكوين هوية إزاء المجتمع في مرحلة المراهقة بناءاً على الكمالية والتميز إلخ.).
أنا حريص على رسم الأمور المستقبلية خصوصاً بدقة مبالغ فيها ولا أثق بما سيحدث في للغيب، أتحسن مع زيادة جرعات الإيمان ولكن من الصعب المحافظة على مستوى "الإحسان" طوال اليوم كي أتخلص من هذه الأعراض وأشعر بالسلام.
أزور طبيب نفسي منذ أكثر من سنة ولكن لا أزال لا أستطيع الخروج من هذه المشكلة وأنا لا أتناول أدوية، ما الحل جزاكم الله خيراً،
أرجو طلب الاستزادة في الشرح في حال الحاجة إلى تفصيل أكبر. وشكراً.
02/12/2003
رد المستشار
الأخ السائل العزيز، أهلا وسهلا بك، وشكرًا على ثقتك، الحقيقة أن العبارة التي بدأت بها استشارتك تثيرُ فينا التساؤل بعد عدة كلمات فقط فأنت تقول: (إن كمالي في بعض أفكاري وتصرفاتي)، وهنا ننبهك أولاً إلى أن الصحيح هنا هو أن تقول إن كماليتي، أو محاولتي الوصول إلى الكمال، في بعض أفكاري وتصرفاتي، لماذا؟ لأن الكمال لله وحده، ولن تكون لك الكمال أبدًا!
وهذا الكلام لتصحيح اللغة أو المفهوم الإيماني لديك، كما أنه تقديم لمشكلة نفسية ومعرفية نواجهها مع مرضانا من أصحاب السمات القسرية (القهرية)، أو مرضى اضطراب الوسواس القهريOCD Obsessive Compulsive Disorder أو اضطراب العَرَّات Tic Disorder، أو اضطراب الشخصية القسرية Anankastic Personality Disorder، وأنت في الحقيقة تضع بين الكلمات ما يستوجب أن يكونَ الرد عليك متأنيا فقد وردت لفظة الإحسان الذي تريد أن تحافظ عليه طوال اليوم عند حديثك عن الجرعات الإيمانية التي تحسنك عند زيادتها، ولا ندري هنا هل المقصود هو مستوى التحسن بزيادة الجرعات الإيمانية أم مستوى الإحسان في مجال الأفعال القهرية؟!
والحقيقة أن التعمق في جدلية الكمالية/الإتقان بين السواء والمرض هي جدليةٌ شغلتني كثيرًا بسبب الخلط الموجود بين المفاهيم المتعلقة بإحسان العمل والإتقان والنزوع إلى الكمالية، فحجة أنني لابد أن أتقن ما أعمل لأن ديني يحثني على ذلك كانت هي حجةُ معظم مرضى عقدة الإتقان أو الموسوسين سواء مرضى اضطراب الوسواس القهري أو الشخصية القسرية، وكنت أثناء جلسات العلاج المعرفي أو السلوكي معهم أجد نفسي مضطرًا إلى التعليق على حديث "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" (صدق رسول الله) (رواه البيهقي، والألباني) وهو حديثٌ ضعيف السند لكن ما يقال فيه هو أنه جميل المعنى.
وكذلك ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وأذا ذبحتم فأحسنوا الذبيحة"، وهو الحديث الذي لم أجد له سندا حسب بحثي، فقد كانت المشكلة هي الخلط بين الإحسان والإتقان والكمالية المفرطة، وكان بعض المرضى يقولون لي: نحن نحسنُ ما نعمل لأن الله تعالى يقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً " (صدق الله العظيم) (الكهف:30)، فكنت أوضح لهم فهمي للفرق بين الإتقان المفرط وإحسان الفعل، وكيف أن الأحاديث ضعيفة وغير ذلك من أجل أن أساعدهم على تعتعة أفكارهم المرضية المتحجرة، وأذيب مخاوفهم من الوقوع في الخطأ.
وكنت كلما فكرت في أن أقول رأيا في هذه الجدلية أرجأت الأمر من أجل مزيد من البحث، إلا أن استشارتك هذه على ما يبدو جاءت في وقتها، فمما لا شك فيه أن ديننا الإسلامي يحضنا على إحسان وإتقان العمل لأن هذه صفة طيبة في الإنسان، وتؤدي إلى نتائج طيبة، ولهذا السبب يضرب الفقهاء وعلماء الحديث المثل بحديث "إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" الضعيف السند، حين يناقشون ما يقبل من الحديث الشريف رغم ضعف سنده، وما يرفض منه ولو كان السند قويا، والإتقان في العمل صفةٌ مستحسنة يا ليتنا جميعا نحرص عليها.
ومن المهم التنبيه إلى أن العمل المقصود في الآية الكريمة يقصد به عمل الإنسان في الدنيا أكثر من أن يقصد به عمل منفردٌ أو فعل محدد، فالآية هنا تتكلم عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وليس عن الذين أحسنوا إغلاق الصنبور لدرجة أنه انكسر! أو الذين أحسنوا غسل جلدهم لدرجة أنه التهب!
معنى ذلك هو باختصار أن بإمكاننا كمعالجين مسلمين أن نعارض أفكار مرضانا عن عدم ضرورة الإتقان بل واعتباره ظاهرةً مرضية تفضلُ مواجهتها بعدم الإتقان، دون أن نكونَ بذلك مخالفين لسنة مؤكدة، أو أمرٍ إلهي، إن من المهم عند تناول النصوص الدينية أن تفهم هذه النصوص في إطار مرجعية شاملة لدين يتناول سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي كله ولا يتعارض أبدا مع الفطرة ولا يحيد عن الاعتدال، فإذا ما نظرنا إلى من يمنعه إتقان أو إحسان الوضوء أو الصلاة من الصلاة في جماعة أو حتى من رعاية أسرته أو أداء أعماله فإننا هنا لا نستطيع اعتبار ذلك الإتقان من الإتقان الذي يدعونا ديننا إليه، خاصة وأن سند الحديث ضعيف.
كما أن ما وصلني في سطورك الإليكترونية أمرٌ مختلف بعض الشيء فالمفترض والمنتظر فيمن يحسنون أعمالهم (أو أفعالهم حتى وعلى مستوى الفعل الواحد) من المؤمنين الصالحين أنهم يشعرون بالطمأنينة، لأنهم فعلوا ما يجبُ فعله في حدود قوله تعالى في آخر سورة البقرة".... لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا..." صدق الله العظيم، وأما ما تقوله أنت فهو أن النزوع إلى الكمالية عذبك ونغص عليك حياتك وما يزال حتى أنك تقول في وصف تلك النزعة: (وما يصاحبها من تردد وقلق وخوف اجتماعي واكتئاب وتأجيل وتسويف إلى ما هنالك من الأعراض والمشاكل المتزامنة مع هذه المشكلة).
فهي إذن مشكلةٌ تحول بينك وبين الحياة بصورةٍ طبيعية، بل إنك تقول لنا ما يوجهنا في اتجاه ما نسميه وسواس الترتيب المسبق حين تقول: (أنا حريص على رسم الأمور المستقبلية خصوصاً بدقة مبالغ فيها ولا أثق بما سيحدث في للغيب)، ونحن هنا نتكلم عن حالةٍ يجدُ صاحبها نفسه مضطرًا إلى البقاء طويلا قبل المهمات الاجتماعية مثلا لكي يتخيل ما سيحدثُ وكيف يرتبُ نفسه له، وهو في نفس الوقت لا يثق بالمستقبل، ولا أريد أن أقول بالغيب كما قلت لأن هذا هو التعبير الأسلم، لأن مفهوم الغيب عند المسلمين أكبر من أن تستخدمه هذا الاستخدام.
فأنت كما يظهر من كلماتك تعيش حالةً مستمرةً من القلق، ولديك عادات أدمنتها، ولم توضح لنا كنهها وإن كنا نتوقع أنها بعض العرات (اللوازم االحركية)، إضافةً إلى قولك: (عندي ضعف ثقة بالذات، انطوائية محدودة)، وهذه هي عادةً فكرةُ الموسوس عن نفسه والتي تتراكم داخله بسبب آراء الآخرين فيه وانتقاداتهم المتكررة له غالبا، لأن الوسوسة المتمثلة في التكرار والتردد، وكذلك بعض أشكال العرات الحركية، غالبا ما تفهم اجتماعيا على أنها علامة على عدم الثقة بالنفس، وربما تدفع مثل هذه الفكرة عن النفس بصاحبها إلى الانطواء.
بعد ذلك تشير أنت إلى الأسباب المحتملة لمعاناتك فتقول: (والكمالية لدي قد تكون ناتجة عن بعض خبرات الطفولة)، كما تكلمنا عن مثالية والديك، وأنا هنا أريدك أن تنتبه إلى أن الأسباب المحتملة لحالتك أو للحالات المشابهة متداخلةٌ ومتشابكةٌ، وليست هي هدف العلاج، لأن التاريخ لا يتغير، وإنما هدف العلاج هو تغيير مفاهيمك أنت، وسلوكياتك أنت من خلال العلاج المعرفي والسلوكي، ولكنك بعد عام من ذلك العلاج لا تتحسن، فهل تدري لماذا؟
أنت أخبرتنا أنك لا تتناول الأدوية، ولم تقل لماذا لا تتناولها، هل تخاف أنت منها؟ أم أن معالجك ليس طبيبا وإنما هو أخصائي نفسي في مكان إقامتك، فلا يستطيع وصف العقاقير؟ فرغم أنك قلت أن معالجك طبيب نفسي إلا أمن احتمال التباس المفاهيم لديك ككثير من العرب احتمال وارد حتى وأنت تحيا في أمريكا، ومهم أن نقول لك أن العقاقير المسماة بالماس أو الماسا يمكنها بصدق حسب خبرتي أن تغير كثيرًا من السلوكيات والمفاهيم التي تعيق حياتك، خاصةً عندما يتم تناولها مع العلاج المعرفي والسلوكي الذي يجبُ أن تستمرَّ فيه.
وسببُ طرحي لفكرة حاجتك للعقار هو أن حالتك على الأغلب ليست فقط شخصية قسرية أو اضطراب شخصية قسرية، وإنما من الواضح أن لديك بعض معايير تشخيص اضطراب الوسواس القهري، كما يتضح من تفكيرك الزائد عن الحد في الأمور المستقبلية وترتيبك لها، إضافةً إلى احتمال أن تكونَ العادات التي أشرت إليها بقولك: (ولدي بعض عادات الإدمان غير السيئة بحد ذاتها كوسيلة لإخماد حالة القلق التي لدي)، هي أحد أشكال اضطرابات نطاق الوسواس القهري OCD Spectrum، فربما عرات وربما نتف شعر Trichotillomania، وربما قضم أظافر Onychophagia، وكل هذه حالات يكون لدى أصحابها عادات يدمنونها لأنها تريحهم مؤقتا من القلق والتوتر، وهناك غير ذلك مما ستعرفه إذا رجعت إلى الروابط التالية سواء من صفحتنا استشارات مجانين، أو من مقالات على موقعنا :
الاستمناء والوسواس والعرات والشُّقَـيْـقـة!
الوسواس القهري وأحلام اليقظة
الوسواس القهري في الأفكار، علاج معرفي!
في نطاق الوسواس القهري: رحلة العذاب
الوسواس القهري ونتف الشعر بينَ القهرية والاندفاع
وأيضًا : مقال: أسباب الأمراض النفسيةوقد عرضنا لك بهذه الروابط ما قد يكونُ خافيا عليك من علاماتٍ مرضية تسميها "عادات أدمنتها"، كما بينا لك أهمية اللجوء إلى كل وسائل العلاج، وأن الأمر المهم ليس البحث عن الأسباب وإنما كيفية التعامل مع النتائج التي هي سلوكيات تنغص عليك حياتك، ونحن في انتظار سماع أخبارٍ طيبة عنك.
ويتبع >>>>>: الكمالية والإتقان بين السواء والمرض م