الحب.. حب الله وحب البشر: هل من تعارض؟!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
كل عام وأنتم بألف خير.. وأمتنا الإسلامية بألف ألف خير.. استشارتي اليوم هي في موضوع: الحب..
منذ بضعة أيام احتدمت المناقشة بيني وبين أختي حول هذا الموضوع, ونقطة الخلاف بيننا هي: هل يجوز لي كانسان أن أحب إنسانا آخر إلى درجة أنه إن غاب عن حياتي أنتهي وأموت.. ؟!؟!!؟
أختي تقول أن هذا الحب جائز شرعا, طبعا أنا لم أستطع أن آخذ كلامها على أنه حكم نهائي في الموضوع لأنها مخطوبة وتحب خطيبها بهذا القدر.. أي أنه إن تركها أو خرج من حياتها فإنها ستموت –أسأل الله أن يتمم لهما بالخير وأن يجمع بينهما على خير-.. أما أنا فأرى أن هذا الحب وبهذا القدر هو حب خاطئ.. بل الوحيد الذي يستحق هذا الحب هو: الله عز وجل.. فأيتنا على صواب؟!؟!؟
طبعا أختي تنعتني بأنني متبلدة المشاعر.. لأنه ليس للحب مكان في حياتي, طبعا هي لا تقصد حب الجنس الآخر, وإنما تقصد عاطفة الحب كعاطفة, حتى ولو كانت متوجهة لنفس الجنس.. كالأخ أو الأخت أو الأولاد أو...
وأيضا تقول أختي أنني لا تزال لدي نزعة صوفية في هذا الموضوع, وأنه قد آن الأوان أن أتخلص منها لأنها ستؤثر مستقبلا على حياتي الزوجية وعلى حبي لزوجي!!! هل هي محقة؟؟؟؟؟؟
ما استوقفني أيضا في هذا الموضوع أن لي أختا تكبرني بعشرة أعوام تحبني إلى هذه الدرجة, تحبني إلى درجة أنني إن خرجت من حياتها فإنها تموت..، هل هذا الحب الموجه للبشر بهذا العنف وهذه الشدة حب طبيعي وجائز شرعا؟؟ وهل هو من نفس نوع حب الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام؟!؟!؟
طبعا أنا أتمنى أن يكون حب أختي لي من نفس نوع حب الصحابة للرسول, ولكنني في هذه الحالة أسأل الله تعالى أن يعينني على القيام بهذه المسؤولية على أكمل وجه, لأن تعلّق شخص بك إلى درجة تعلق حياته بحياتك أمر في غاية الصعوبة, ويشكل ضغطا هائلا وشعورا بالمسؤولية أكثر هولا.
لقد قلت لأختي أنني أنا أيضا أحب بهذه الطريقة, أحب الله عز وجل, ويمكنني تحمل كل شيء إلا أن يعرض عني ويطردني من رحمته أو حتى أن يبعدني عنه في الجنة فلا أكون من الذين سيرون ربهم في الغداة والعشي. ولكنها ترى أن حب هو الله شيء مختلف عن حب البشر.. بل هو حب فلسفي.. وأنه لا يتعارض مع أن نحب بشرا إلى الدرجة التي ذكرتها.. وتستدل على صحة رأيها بأن أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما توفيت في اليوم التالي لوفاة عمر وذلك من فرط حزنها عليه، هل ما تقوله أختي عني صحيح؟؟
أفيدوني أفادكم الله.. وجزاكم الله كل خير.
02/12/2003
رد المستشار
الأخت السائلة؛ شكرا على سؤالك حول "الحب" الذي يبدو لي من أكثر المعاني التباسا، وإن كان هاما للإنسان مثل الماء والهواء والغذاء، فحاجة الإنسان للتقدير والاهتمام، والاحتياج والرعاية، وتبادل المشاعر، وإطلاق الخيال ثم تحقيق بعضه، وحركة القلب بين الفقد والوجد... الخ هذا وغيره من مظاهر الحب وعلاماته وطقوسه يحتاجه كل أحد، أما كنه الحب أو حقيقته فتبدو مسٍألة تحتاج إلى إبحار لا يتسع له المقام، ولكنني سأحاول بما يخدم ما تسألين عنه.
من المعروف أن الحب درجات، ولذلك فإن له أسماءً عدة في تراثنا العربي والإسلامي، والأٍسماء المختلفة تصف أحوالا مختلفة وأيضا درجات مختلفة، ولذلك فإن الحب غير الغرام، والهيام غير الوله...الخ. وما تتحدث عنه أختك لا يسمى حبا من الأساس، أو هو درجة من درجات الحب تسمى "التعلق" كما تفضلت أنت نفسك في نهاية رسالتك، وشتان بين درجات الحب جميعا، وبين هذه الدرجة المتقدمة... وعجبت لقولك: هل يجوز لي كإنسانة أن أحب.. الخ، فالحقيقة أن مدار الأمر في الحب لا يكون الجواز أو غيره، فليس الحب فعلا اختياريا، ولكن المدار هو الحدوث من العدم، ورغم أن الإنسان ينبغي أن يحترز من هذا النوع من الحب –بغض النظر عن موقف الشرع منه– إلا أنه يقع للناس أن يصلوا في مشاعرهم إلى هذه الدرجة التي تحمل بعضا من معاني "العبادة"، وسيدهش هذا البعض، فينبغي التوضيح:
يعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف الصديق أبو بكر رضي الله عنه ليضع النقاط على الحروف في وسط مناخ مشحون أذهل الفاروق عمر رضي الله عنه حتى امتشق حسامه مهددا بضرب عنق من يقول بوفاة الرسول... الخ موقفه المعروف. وقف "أبو بكر" ليقول للمسلمين المنكسرة قلوبهم بوفاة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم... وقف ليقول لهم قولته الشهيرة: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت... فهل كان أبو بكر يقصد العبادة بمفهومها الحرفي؟!، وهل من المتصور جدلا أو عقلا أن في الصحابة رضوان الله عليهم من كان يعبد النبي صلى الله عليه وسلم؟!
الإجابة واضحة طبعا مثل الشمس والسماء صافية، فماذا كان يقصد أبو بكر إذن؟!، الصديق رضوان الله عليه قصد الحب إلى درجة التعلق، ويقصد الخلط بين الرسول والرسالة، ويقصد إسباغ القداسة على الرسول حتى يصبح جزءا من حقيقة الدين بحيث ينقص الدين بغيابه، ولذلك فإنه رضي الله عنه وأرضاه تلا قوله سبحانه وتعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ" الخ الآيات، طبعا مشاعر الحب تجمع بالقلوب، وسلطان الإنسان علي قلبه ليس مطلقا، وإنما هو يحاول تهذيب نفسه، وإلزامها وحدودها في الحب فلا تحب إلا خيرا، وبالقدر المعقول، وتكره الشر، وأيضا بالنوع والقدر المطلوب... ولكن من قال أن كل من يحاول ينجح؟!!
نعم... أحب الصحابة جميعا حبا نلك على البعض كيانه فهل يصلح هذا الحب دليلا على صحة مسلك الفروق عمر مثلا؟! فنعتبره مسلكا شرعيا محمودا؟!، اللهم لا... إنما هو وارد إنسانيا... والأصوب موقف الصديق أبو بكر الذي كان مقدمة لازمة للتمييز بين الرسول والرسالة، وبالتالي استمرار الدين بعد وفاة حامله من السماء إلى الأرض. الإيمان حب وكره كما في حديث آخر والانطلاق مع الحب حتى التعلق يحدث، ولكنه ضار بصاحبه، وضار بالمحبوب، والإسلام يفهم هذا ويرشد إليه، والمرء حيث يضع نفسه... لأن الحب الزائد يدعو إلى نوع من التقديس والنمذجة، ومن ربط بين حياته ومسلك غيره على نحو ملتصق يوشك أن يدفع ثمن هذا حين يتغير المحب أو المحبوب، والبشر يتغيرون... أكتفي بهذا... وشكرا لسؤالك.