السلام عليكم
مضى على اتخاذي هذه العادة مدة تزيد عن ثلاثة عشر عاماً.. فأنا لا أتذكر قبل أن أبلغ السادسة هل كانت هذه عادتي أم لا؟.. هذه العادة سيدي هي عادة الخيال اليقظ المفرط فيه.. اتخذت هذه العادة رفيقة في دربي، ولعلي عشت في الأعوام الثلاثة عشر شارداً في أرخ الخيال أكثر ما عشت منتبهاً منه.
اتخذت من هذه العادة مركبة لي أسافر بها نحو المستقبل فأعيشه قبل أوانه، ونحو الماضي فأصححه، ونحو ما ينقصني فأزوّد نفسي به.. وهكذا. سافرت بالخيال نحو المستقبل فعشت كل الأدوار المتاحة التي لم أكن أستطع أن أعيشها في مثل عمري؛ من بداية صعلوك وشحاذ ولص وتاجر مخدرات إلى ضابط ومهندس ودكتور تتفاءل به النساء عندما يولّدهن فيسمين أبنائهن على اسمه وضابط مخابرات وبطل جاسوس كرأفت الهجان ورجل أعمال يملك مؤسسة اقتصادية ضخمة وموسيقار وممثل وكاتب وشاعر ومركز لهذه الأرض فيدور الناس حوله!.
وسافرت بالخيال نحو الماضي أصلحه؛ فكانت لي مواقف في الماضي لست راضياً عنها فمثّلتها متخيّلاً وتصرّفت فيها كما كان يجب أن يكون، وعوضت بالخيال ما نقصني، فلا أكون كاذباً إذا قلت أنني على الرغم من حياة أبي وأمي لم أشعر يوما بحضنهما لذا فكثيراً ما طوقتهما بخيالي، وكان الخيال لي عالماً حقيقياً رسمت لنفسي فيه صديقاً دعوته "عليّاً" عمل معي كثيراً في حرف عديدة عملت فيها في خيالي ولكنني أنهيت علاقتي به من سنوات ولا أدري السبب.. حسبك.. لعلي أعرف السبب، فمن سنوات أيضاً- حين كان عمري في نهايات العقد الأول- أصبح شريك خيالي أنثى وليس ذكراً!
استعرت أشكالهن من ممثلات أحياناً ومن محيطات أحياناً أخرى. أمّا أوصافهن الداخلية؛ فكنت أنا من يؤلفها من خيالي، مارست هذا الخيال في كل وضع فمارسته جالساً وضاجعاً ومستحمّاً، و لكن أكثر وضع أحبه في ممارسة عادتي المفضلة هو متمشياً ويا حبذا لو كان بحجرة مظلمة لا يشوب ظلمتها سوى بعض النور كي لا أصطدم بما حولي.
استفدت من خيالي كثيراً فبه عرفت الخطابة، وبه قرأت أفكاراً عن قرب فقرأت فكرة السلطة وقرأت فكرة الصعلكة، وبالخيال طفت بين جميلات الدنيا يقتسمن معي خيالي من سمراء مصرية إلى شقراء أوروبية وبينهما كثير جداً! ولذلك أدركت ما هو الجمال وأصبح لي وجهة نظر فيه. لكن الخيال أخذ مني أيضاً؛ فيكفي أن أذكر أنني كنت في السالف بالإعدادي أنافس على المراكز الأولى وعندما ذهبت إلى الثانوي في المرحلة الأولى من الثانوية العامة حصلت على 69% وفي الثانية حصلت على 89% حتى لم يمكنني مجموعي أن أدخل سوى كلية الحقوق، وذلك لأنني كنت أضيّع وقت المذاكرة في الخيال. سيدي أنا أقضي كل أوقات فراغي في الخيال، ولست أدري هل هذا صواب أم خطأ؟ أحياناً أقول لنفسي يجب عليك أن تقلع عن عادتك هذه وتوفّر طاقتك للواقع، وأحياناً أخرى أقول نحن معشر الفنانين هذه حياتنا نصف واقع ونصف خيال (أنا بعثت بقصيدتين إلى الأستاذ فاروق شوشة فردّ عليّ بخطاب ونصحني فيه أن أرعى موهبتي الشعرية).
أخيراً سيدي، أقول أن ما ذكرته سالفاً لا يعد أكثر من مقدمة لملحمة قامت بدنيا الخيال كان بها أحداث عديدة مملة وقليل منها جميل، أمّا إذا لاحظت في رسالتي فخراً بعض الشيء فهذا لأنني كنت أحيا وقتما كتبت الرسالة في موجة من السعادة الحقيقية.. والسبب؟؟؟؟.
08/06/2008
رد المستشار
ثلاثة عشر عاماً من الهروب إلى (الفانتازيا) الخيال بفعل استعداد بيولوجي في تركيبة المخ وخلاياه العصبية، تكوينك النفسي، وكذلك محيطك الاجتماعي بكل ما له وما عليه حتى صارت عادة النزوح إلى الخيال هي رفيقة دربك، سلواك وعذابك في نفس الوقت، وكأنك في شرودك تركب عوالم تركبها وخيالات ترتادها ودنيا تخوضها وبحور تسبح فيها لتزود نفسك بما تريد (فكرة وصورة) فقط وتنقصها بأن ما تفعله هو محض خيال وليس له من أمر الواقع شيء سوى قبض الريح.
فها أنت تمثل أفلاماً ومسلسلات وتكون صعلوكاً وشحاتاً ولصاً وتاجر مخدرات، ثم ضابط ومهندس ودكتور، ضابط مخابرات وجاسوس ليس كأي جاسوس بل كرأفت الهجان بحاله وماله ورأسماله الوطني والدرامي (ما أجملك وما أروعك وما أحلاك) وما أحلاها دنياك اللازوردية الوردية المتضمخة بالعطر الفتان والدنيا الحُلمية.
ثم تصرح تصريحاً عنيفاً (على الرغم من حياة أبى وأمي، فلم أشعر يوماً بحضنهما، لذا كثيراً ما طوقتهما بخيالي)... حتى تلك المشاعر الضرورية لنموك كطفل وراشد انتقلت من واقعها الضروري إلى مخيلتك اللاضرورية.. حتى شريكة عمرك صارت من المتمثلات والمحيطات بكل أوصافهن الداخلية والخارجية التي ألفها خيالك. ما كل هذا الخيال الجبار، ما كل هذا العنفوان التخيلي، الضارب في عمرك؟ ما هذا السحر "جان وضاجعاً ومستحماً" ما كل هذه اللغة الجزلة العذبة التي تطوق بها عنقك وأوراقك وترميها إلينا كرشة عطر تحاول بها لا شعورياً أن تصدمنا وتدفعنا لقلة الحيلة أمام حالتك التي قد تبدو وكأنها في حاجة إلى البوح أو إلى الاستشارة أو إلى استلهام اللحظة.
من الواضح أنك تلمس الواقع بكفيك وتدرى كُنه جذور النبات في أرضِ خصبة ملمة بحال الدنيا والسموات السبع؛ فأنت تعرف الخطابة وتقرأ عن فكر (السلطة) وفكر (الصعلكة)، تدرك ما هو (الجمال).
إن تحديد مجموعك في الثانوية العامة ليس إلا تحصيل حاصل بغير دلالة، وحياتك ليست نصف واقع ونصف خيال، لكنها منتهى الواقعية بكل حلاوتها، ميوعتها وفظاظتها.. ومن كثرة توحشها حولك فأنت تهرب منها إرادياً ولا إرادياً إلى خيالك الوردي العذب. أنت بعضٌ من كل شيء ولك في الإبداع مساحة يصعب على غيرك تملكها.
خيالاتك قصورك في الهواء بيوتك على الأرض سيناريوهاتك ومخطوطاتك الذهنية المتمردة مجنونة تعمل (كمرشح) (فلتر) لعالميك الداخلي والخارجي. هي ليست دخاناً في الهواء لكنها الحقيقة الشمسية السطوع.
إن عالمك الخارج عن حدودك وعن حدود ذهنك رحب ومتعدد الطوابق وكثير الأجنحة.