وسواس قهري في الوضوء والصوم والصلاة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
إنّه الوسواس القهري! أنا منزعج جداً جداً جداً منه.
كانت بدايته نتيجة الاحتياطات لكي يكون وضوئي تامّاً وصلاتي تامّة وطهارتي تامّة. وحتى في العمرة؛ أحياناً في عدد الأشواط، فأنا لم أحجّ قلقاً من الوسواس القهري، فكيف أتوضأ أمام الناس مدة 15-25 دقيقة؟! وعندي أيضاً مشكلة النيّة لكل عمل فيه عبادة لله، أتلفظ أحياناً وأحياناً أخرى لا، ولكن أتجرع المآسي حتى أحقق النية، والمشكلة أني أدري أن أعمالي الوسواسية ليس لها داعٍ. وتطورت الحالة بالأفكار حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت عندما أذكر الله أو استغفر وأمامي أي مخلوق يأتيني هواجس لا داعي لذكرها، وأيضاً عندما أريد فعل شيء فيه عبادة يقول الوسواس: "ما قصدك هل تستهزئ بالدين؟" علماً أني أعاني من هذا الوسواس منذ 7 أعوام تقريباً.
ولما أتمضمض وأنا صائم أتفل مدة دقيقة أو أكثر لأتأكد من عدم وصول قطرة ماء لجوفي فيفسد صيامي! وعندما أغسل عضواً أثناء الوضوء يقول لي: "هل تغسله من باب النظافة أم وضوءاً؟".
ذهبت لبرفسور نفساني بالرياض وشرحت له ما أعاني ولكن ليس بالدقة وكتب لي كبسولة فلوزاك 40 جرام يومياً قبل شهرين، وفخفّ عندي تقريباً 12 % من المعاناة، ولكن ما زلت أعاني وأعاني وأعاني.
أرجو الرد سريعا
وشكراً يا دكتور.
29/5/2009
رد المستشار
السلام عليكم،
الأخ الكريم أنس، واضح من رسالتك أنك تعاني من خلل معرفي في عدد من الأمور الشرعية، بعضها قواعد كلية، وبعضها أحكام جزئية، كذلك فإنك تعاني من سلوكيات خاطئة.
فأمّا القواعد الكلية التي اختلت حقيقتها عندك فهي:
1- مفهوم الكمال في الشريعة.
2- معنى الدقة وتطبيقه في الحياة العملية.
3- يسر الشريعة.
وأما الأحكام الجزئية فهي:
1- حقيقة النية سواء في بداية العمل أو أثنائه.
2- حكم ما يدور في النفس من أفكار وخواطر وخاصة الموسوس.
3- حكم الشك في عدد الأشواط إذا بلغ حد الوسوسة.
4- حكم ما تبقى من الماء في فم الصائم بعد المضمضة.
وبالنسبة للسلوكيات الخاطئة:
1- تجنب الفعل.
2- التكرار والتأكد والمبالغة.
وأبدأ بمناقشة هذه الأمور معك واحداً تلو الآخر:
1- مفهوم الكمال: جميل أن تحب الإتقان، وترغب في أداء أفعالك على الوجه الأفضل أمام الله عزّ وجلّ، ولكن عليك أن تعرف ما هو الوجه الأفضل ثم تقوم على تحريه ومتابعته. وأنت تعلم أن أفضل الأعمال وأحسن الطاعات ما كان عليها سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمخالفته ليست من الكمال في شيء سواء كانت بزيادة أو بنقصان، وأحيلك إلى ما كتب في (منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري 5) وهذه المعلومة أنت تعرفها جيداً لكن عليك تفعيلها في حياتك حتى تتمثل بها وتصبح سلوكاً عندك لا مجرد كلمات ترددها. وهذا يمكن أن يحصل– بشيء من الصبر- إذا داومت على تذكير نفسك بهذه المعلومة وتكريرها بشكل واعٍ في سائر أوقاتك، وخاصة عند مباشرتك للأفعال التي توسوس فيها، فإذا قمت للوضوء، وشعرت بحاجة للتكرار أو المبالغة، حدث نفسك وقل: (إذا كررت ففعلي ناقص، عليّ أن أقاوم التكرار والتحري حتى أصل إلى الكمال في متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وهكذا...
2- معنى الدقة وتطبيقه في الحياة العملية: وتحرّيك الزائد للدقة واضح من النسبة التي أعطيتها لتحسنك بعد أخذ الدواء وهي: (12%)!! فالناس عادة يقولون: 10%، 15%..أما 12% فهي تعكس الدقة المبالغ فيها عندك!! وهذه الدقة التي تتحراها دائماً خارجة عن القدرة لذلك لم يكلفنا الله تعالى بها في الأحكام الشرعية... فمثلاً: طالبنا الله عزّ وجلّ أن نقرأ الفاتحة في الصلاة، ولكنه لم يطالبنا أن نكون دقيقين فيها جداً وإنما يكفي إخراج الحرف بحيث يعرف ما هو، فلا نطالب بتحقيق الصفات ولا بالتشدد في إظهار الحرف وتوضيحه، ولا بغير ذلك (حتى عند الشافعية وهم أشد المذاهب في هذا). كذلك، عندما طالبنا الله تعالى بالاجتهاد لمعرفة القبلة -إذا لم نكن نرى الكعبة- لم يطلب منا أن نكون بوصلة متطورة دقيقة، فيكفي بذل الجهد لمعرفة القبلة، وصلاتك مقبولة وإن كان اجتهادك ليس دقيقاً في واقع الأمر وكنت منحرفاً بعض الشيء عن الكعبة...
وانظر إلى سائر أمور الحياة: ترى الصواب يختلط بالخطأ، والصحيح بالسقيم، والفاسد بالصالح، فالفصل بين هذه الأمور بدقة مستحيل لهذا لا نطالب بأكثر مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولكن سددوا وقاربوا)). جاء في فتح الباري لابن حجر: (قوله: (فسددوا) أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل. قوله: (وقاربوا) أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه). فإن لم تستطع الدقة فاعمل بما يقربها، ولن تخرب الدنيا بهذا، ولا الآخرة...
3- يسر الشريعة: تذكر دائماً أن المشقة التي أنت فيها هي أكبر دليل على أن ما تقوم به غير مطلوب شرعاً لمخالفته لقول الله تعالى: ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]. وإذا كان غير مطلوب شرعاً فلا داعي لفعله وإتعاب النفس به. وأحيلك أيضاً إلى: منهج الفقهاء: 7.
وهذه المفاهيم الثلاثة متداخلة فالدقة فرع عن طلب الكمال، والمشقة التي أنت فيها نتيجة لتحري الكمال والدقة، ولكن عليك أن تغير فكرتك عن هذه الأمور الثلاثة معاً لتجني أكبر فائدة ممكنة.
4- حقيقة النية: النية أمر تعرفه من نفسك دون أن يعرفك أحد به، فلا تحتاج إلى أن تعصرها عصراً من قلبك...، فإذا وقفت أمام المغسلة ومرّ في ذهنك أنك تريد الوضوء فهذه نية، وإن وقفت للصلاة فمر في ذهنك إرادتك لصلاة الظهر مثلاً فهذه النية، وإذا قمت فتسحرت ومر في ذهنك أنك صائم غداً فهذه نية... ومرور النية في الذهن لا يحتاج لأكثر من ثوانٍ، وعندما تغسل أعضاءك في الوضوء فالنية في أول الوضوء تنسحب على جميع أفعالك ولا داعي لأن تسأل نفسك عند كل عضو: ما نيتي من غسله!. ولو كنت تريد التنظف فأكيد ستعرف هذا من نفسك ولن تشك، وبما أنك تشك فهذا يعني أنه وسواس ونيتك صحيحة فلا تلتفت إليه، وإذا بلغ الشك منك كل مبلغ ففي مذهب الحنفية فرج فقلده حيث لا يشترطون النية في الوضوء وتصح صلاتك وإن كنت تقصد التنظف أثناء الوضوء.
5- حكم ما يدور في الذهن من خواطر: تعلم أن الخواطر تجري في الذهن باستمرار ومن العسير إيقافها، وهي لا تسألك عندما تهجم عليك، ولكنك قد تقبلها فتستمر فيها بإرادتك أو ترفضها فتقطعها بإرادتك، ولا تحاسب إلا على الذي يدخل تحت إرادتك ووسعك من ذلك لأن الله تعالى لا يكلّف نفساً إلا وسعهاً. وخواطر الموسوس مهما كان محتواها خارجة عن الإرادة بدليل أنها تظل تلح على ذهن الموسوس وإن كرهها وحاول طردها. لهذا فلا مؤاخذة بها البتة أياً كانت، وأنت لم تفصل خواطرك، لكن الأمر لا يهم، فأياً كانت تلك الخواطر فكلها لا قيمة لها لا شرعاً ولا عقلاً.... وإذا كانت كذلك فالانشغال بها من إضاعة الأعمار، والاهتمام لها من قلة العقل، فهي شيء تافه لا يستحق منك كل هذا الاهتمام، فاتركها ترتع ما شاءت ولا تفكر في مضمونها وامض لأعمالك، واصرف نفسك عن الأخذ والرد فيها وانشغل بشيء آخر، وهناك على الموقع من البرامج الذاتية في علاج الوسواس ما يساعدك على التدرب على قطع تلك الأفكار وصرف الانتباه عنها.
6- حكم الشك في عدد الأشواط للموسوس: إن الله تعالى يأمرك ويأمر أمثالك أن تبني طوافك على الأكثر، فإذا شككت هل طفت أربعاً أم خمساً تكمل فعلك على أنك طفت خمساً وتتابع وهكذا...، وإذا كان الله قد أمرك بهذا فعليك أن تمتثل سواء أعجبك الحكم أم لا، وإذا قلقت وكرهت نفسك هذا فكرر عليها: أنا فرض الله عليّ ستة أشواط أعجبك أم لم يعجبك!.
7- حكم الماء المتبقي بعد المضمضة: إذا مجّ الصائم ما بفمه من ماء المضمضة فلا يضره ما بقي في فمه ولا يفطر به عند جمهور الفقهاء، وذلك لعسر التحرز من هذه البقايا ومشقة إخراجها، وإليك ما ذكره البهوتي في كشاف القناع (وهو كتاب معتمد عند الحنابلة) قال: (..(أو تمضمض أو استنشق) في الوضوء (فدخل الماء حلقه بلا قصد أو بلع ما بقي من أجزاء الماء بعد المضمضة لم يفطر)؛ لأنه واصل بغير قصد أشبه الذباب [يعني مثلما أن دخول الذباب للحلق لا يفطر] (وكذا إن زاد على الثلاث في أحدهما) أي: الفعلين وهما المضمضة والاستنشاق (أو بالغ فيه) أي: في أحدهما بأن بالغ في المضمضة أو الاستنشاق؛ لأنه واصل بغير اختياره [يعني فإنه لا يفطر]..).
وأما بالنسبة للسلوكيات الخاطئة:
1- تجنب الفعل: ويبدو في تجنبك للحج خشية الوسواس والوضوء أمام الناس، وإذا أردت أن تشفى فعليك أن ترغم نفسك للتعرض إلى ما تخشاه وتخاف منه وترغم نفسك مع هذا ألا تستجيب للوساوس، فعليك أن ترغم نفسك على الحج، ولكن: تعلم أحكامه جيداً عند عالم غير موسوس يجيد أحكام الحج عند أكثر من مذهب. وحاول من الآن مقاومة وسواس الوضوء والتدرب على التقليل من وقته، واستمر على هذا أثناء حجك. ولمعرفة تفصيلات أكثر حول أحكام وسواس الوضوء ارجع إلى:
الوسواس القهري برنامج فقهي علاجي سلوكي.
موسوس من العيار الثقيل م1.
2- التكرار والتأكد والمبالغة: كما في وضوئك، وهذا ستعرف طرق مقاومته إذا رجعت إلى الروابط السابقة، وكذلك في التفل بعد المضمضة، وترك المبالغة والتكرار في ذلك سيصبح يسيراً عليك إن شاء الله تعالى بعد أن عرفت الحكم فيه.
بقي أن أقول لك: إذا تغلبت على وساوسك الحالية فكن يقظاً للوساوس الأخرى التي يمكن أن تحل محلها، وسارع إلى معرفة أحكام ما يعترضك، واصرف ذهنك عن الوساوس عند أول هجومها، واستمر على ذلك مهما طال العراك معها، فهذا هو دواؤك الوحيد. والحمد لله أنك تتناول العلاج الدوائي وتلقى تحسناً عليه، فتابع علاجك واصبر على مرارة الإعراض عن الشكوك، وتفاءل بالشفاء بإذن الله تعالى.