الوسواس القهري في أمور التوحيد
أعاني من الوسواس القهري في أمور تتعلق بالعقيدة والتوحيد منذ فترة طويلة قد تتجاوز عشر سنوات، وكلما أذكر الله يأتيني الوسواس بأني لم أذكر الله وإنما ذكرت غيره! وكذلك في سائر العبادات بأني لم أكن أقصد فيها عبادة الله وإنما غيره، وأحاول الخلاص منها ولكن لا أستطيع، وأخاف من أن أحاسب عليها في الشريعة الإسلامية وهذا الوسواس في كل الأمور الدينية.
9/7/2009
رد المستشار
السلام عليكم، الأخت الكريمة رشا؛
أعجب من صبرك الطويل على هذا الوسواس الوبيل! ولا أدري إن كنت طلبت العلاج من قبل عند المختصين، أو أنك قمت بسؤال أحد من علماء الدين في هذه الفترة أم لا؟ على كل فالأمر يسير بإذن الله تعالى، فمن البداية أطمئنك أن ما يوسوس إليك لا تحاسبين عليه، ولا يؤثر على إيمانك، بل فيه رفع لدرجاتك –كأي بلاء آخر- بإذن الله تعالى، ودليل ذلك:
1- قوله تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا)): وهذه الوساوس التي تعانين منها، خارجة عن وسعك فلا يكلفك الله بها ولا يحاسبك عليها.
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ»)). [مسلم: الإيمان/باب بيان الوسوسة في الإيمان]. إذن خوفك من هذه الوساوس دليل على إيمانك الخالص الصريح، وليست شيئاً تحاسبين عليه، أو تخرجين به من الدين.
3- إن ما يخطر في بالك من الوساوس لا هو شرك لا أكبر ولا أصغر، أي لا تكفرين به، ولا تعدين من الذين يراؤون، وهذا ما نص عليه كبار العلماء: جاء في "تفسير القرطبي" [8/36]: (قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه، ولم يُمْضِ فيه عزيمة [أي خطر الإيمان في قلبه ولم يعزم عليه] لم يكن مؤمناً. وإذا وُجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً [أي إذا تكلم بالكفر بالقلب واللسان]، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها [أي لا يكفر المؤمن بورودها على ذهنه]). وقال ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" [1/372] عند الحديث عن اتباع السنة بإسدال قطعة من قماش العمامة بين الكتفين: (ولو خشي من إرسالها نحو خيلاء، لم يؤمر بتركها،... بل يفعلها، وبمجاهدة [أي يؤمر بمجاهدة] نفسه في إزالة نحو الخيلاء منها، فإن عجز [أي عن إزالة خواطر الرياء من قلبه] لم يضر حينئذ خطور نحو رياء، لأنه قهري عليه، فلا يكلف به كسائر الوساوس القهرية، غاية ما يكلف به أنه لا يسترسل مع نفسه فيها بل يشتغل بغيرها ثم لا يضره ما طرأ قهراً عليه بعد ذلك، وخشية إيهامه الناس صلاحاً أو علماً خلا عنه [لا يتصف به] بإرسالها، لا يوجب تركها أيضاً بل يفعلها ويؤمر بمعالجة نفسه كما ذكر).
إذن لا أنت مشركة، ولا مرائية، ولا مؤاخذة، ففيمَ الهم والحزن؟! كل ما في الأمر أن الإنسان ينزعج مما يدور في رأسه ولا يستطيع الخلاص منه، وخير دواء لهذا أن تعرضي عن الوساوس وتحاولي ألا تشتغلي بها ولا بمضمونها، فليست ذات قيمة لتضيعي وقتك بها! واصبري قدر المستطاع على ذلك، واعلمي (أن النصر مع الصبر) -كما جاء في الحديث-.
وقد ذكرت أن ذلك يحصل معك في كل الأمور الدينية، وهذا يدل على شدة حرصك على دينك، واعلمي أن الشيطان لما وجدك بهذا الحرص والاهتمام، يئس أن يصدك عن دينك بطرق الإغواء، فسلك طريقاً ظن أنه يخرجك عن دينك به –ولن يستطيع-، وأراد أن يوهمك بأنك لا تعبدين الله تعالى من أجل أن تكفي عن طاعته وتيئسي من رحمته، لهذا كوني متيقظة لحيله ومكره، واعملي على عصيانه فيما يوهمك به، فإذا قال لك: "لم تذكري الله" فقولي له: "بلى ذكرته واخسأ أنت، فقد عرفت حيلتك"، وإذا قال لك: "صيامك ليس لله، أو زكاتك رياء، أو..أو..." فقولي: "هي لله رغم أنفك!" واقطعي التفكير والشك بذلك فوراً، لأنه يكفيك أن تقومي إلى الفعل وأنت تقصدين التقرب من الله وطاعته، ثم كل ما يأتيك من الأفكار بعد ذلك لا قيمة له ولا يؤثر على نيتك –كما ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في النص الذي ذكرته لك قبل قليل-.
كوني قوية الإرادة، واثبتي على الإعراض عن التفكير وستجدين نتائج طيبة، ولا تحزني إن طال الأمر بل على العكس! لأنه كلما وسوس إليك الشيطان فعصيته وثبتِّ على الطاعة وعلى الحق كلما ازددت درجة ورفعة عند الله تعالى لصبرك وثباتك، فاجعلي هذا البلاء سلماً يرقى بك إلى الله عزّ وجلّ وذلك –كما قلت لك- بمداومة الطاعة والإعراض عن الوسوسة، وثقي أنه كلما كانت قناعتك أقوى بالعلاج كلما استطعت الخلاص سريعاً مما أنت فيه، وقد جاءني -منذ بضعة أشهر- موسوسة تظن أنها كافرة والعياذ بالله، وعانت من ذلك عدداً من السنوات، وسألت عدداً من علماء الدين دون جدوى، وشاء الله تعالى أن تأتي إلي وتثق في وثوقاً أعمى –لأن من أرسلها إليّ من كبار الشخصيات الدينية- إضافة إلى ما سقته لها من أدلة ونصوص وغير ذلك، وقد كلمتها ثم واعدتها بعد أسبوع، وإذ بي أفاجأ أنها تحسنت تحسناً عجيباً، فاقتنعتْ أنها ليست كافرة، وأصبح من السهل عليها جداً أن تعرض عن الوساوس وتقطعها!! فقلت في نفسي هذا شيء مؤقت، لهذا طلبت منها أن تتصل بي إن عاد الوسواس أو وجدت أي صعوبة، ولكنها لم تتصل بي إلى الآن!! وأعلم يقيناً أنه لا شيء يمنعها من الاتصال لو أن هناك شيئاً ما، فقد كانت تعاود الاتصال بمن سألتهم قبلي مراراً عندما لا تجد تحسناً!! أنا ما زلت أعجب من تحسنها السريع، ولكني أرد ما حصل إلى القناعة التي خرجت بها بعد أن كلمتها، وإلى تطبيقها العلاج بيقين تام!.
صدقيني إن ما أخبرتك به ليس مسكناً لآلامك وإنما هو كلام نبيك المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وما استنبطه العلماء من شرعه القويم، فإذا عزمت على الامتثال وصدقت في ذلك، فأعرضت عن التفكير وداومت على الإعراض، واتجهت إلى الله بكليتك أن يشفيك مما أنت فيه، فإن الله تعالى لن يخيبك.
حافظي على الأذكار الواردة في معالجة الوسوسة –وهي موجودة في: منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري. واطلعي إن أردت على سائر المقالات ففيها ما يفيدك. كذلك اقرئي برامج العلاج الذاتي من الوسواس التي كتبها الدكتور محمد شريف سالم في نطاق الوسواس القهري، والاستشارات القريبة من وسواسك فكثرة القراءة ستعينك على تقوية قناعتك وصبرك على العلاج.
ثم من الأفضل لك -وقد لزمك الوسواس هذا الزمن الطويل- أن تبحثي عن طبيب نفسي ملتزم ليعطيك الدواء المناسب لحالتك فإنه سيعينك على الإعراض عن الوسوسة ويسرّع الشفاء بإذن الله.
عافاك الله وشفاك.