نقاب فعباءة فبنطلون !! إحترس من حواء
أنا مررت بنفس التجربة اللي أغلب طلاب الطب اشتركوا في خطوطها الرئيسية: محتار في مصيري, دخلتها غصب عني, مش قادر أحبها، عندي رغبة أشارك في ضوء تجربتي وإن كنت أرجو العذر إني أفكاري مش مرتبة إلي حد كبير.
أنا رابع سنة لي في الكلية رسبت سنة ودخلت امتحانات الصيف كل السنين اللي قبلها ولجأت لعدد كبير من الدكاترة النفسيين بعضهم اكتفي بجلسات التحليل النفسي والبعض استخدم أدوية، وآخر حاجة متابعة ومستقرة فيها حتى الآن العلاج الجماعي والفردي والدوائي لفترة ثم انقطع، المهم أنا ما نجحتش إلا بعد ما كنت في المستشفى وتستغرب إني كنت أذاكر بالغصب والتخويف بالكهرباء والحقن والأسئلة المفاجئة والواجب، كل ده خلفية لحضرتك مش للرد.
اللي نفسي أٌقوله لزملائي طلبة الطب المحطمين نفسيا:
(1) إنهم يدوروا هو بجد الكلية هي السبب؟ ولا إن ممكن يكون السبب استعداد عندك وعندي ممكن يطلع بأي ضغط ثاني وكان ممكن يطلع في كلية ثانية لأي سبب ثاني وإن في ناس دخلت كليات تحبها جدا وبعد ما دخلوها حصل لهم نفس التعب وبرضه وقفوا في الدراسة وكانت صعبة عليهم وبالنسبة لي أنا انقطعت عن الكلية وحاولت جديا أغير وكانت النتيجة أسوا من الأول.
(2) هل كفاية إن عدم الارتياح في الدراسة يدمر حياة كاملة؟ فلنفرض إن أنا فعلا متعثر في الكلية معني كده أن حياتي تقف علي كده ونفسيتي تتدمر و...؟ الرد ده أنا عرفته السنة دي بس من خلال معسكر جوالة أن تقريبا كل زملائي في المعسكر كانت لهم مواهب وميول وكارهين الطب قرروا يوقعوا سنين ودرسوا دراسات حرة منهم مهندس جرافيك وموزع موسيقي و..... بعضهم وصل السنة الخامسة وبعضهم لسه في الثانية وراضيين بالرغم من تعثرهم الدراسي ويشاركون بشكل رائع في كل أنشطة الكلية لهم وظائف ومستقرين ماديا.
ده مش نداء للتخلف الدراسي لكن ده نداء إن الواحد ما يحبسش نفسه لأنه فشل في حاجة واحدة مهما كانت كبيرة برضه اسمها حاجة واحدة.
(3) أن كل الاهتمام كان أٍسيب الطب ولا أكمل والموضوع لا هو سيبان الطب ولا التكملة، الموضوع إزاي أتعامل مع الحالة اللي وصلت لها والألم وإزاي أفضل بني آدم أعيش مع الناس وأؤدي واجباتي وأعيا وأخف وأفرح وأزعل الدنيا ما وقفتش إني مش قادر أكون شاطر أو أحب الكلية.
(4) النجاح مش بس حب ولا ذكاء ولا.... ولا.... النجاح مجهود في المقام الأول والأخير وربنا مش ظالم أبدا، كثير من الناس يحتاجوا يذاكروا كثير علشان حفظهم ضعيف أو تركيزهم ضعيف ليه ما تعملش ده لأن حالتك النفسية المشوشة تقلل التركيز كثير وبعدين الواجب اللي عليك مش بس ألمذاكرة ولا الحضور لكن الرغبة والرغبة مش بس الحب لكن أداء الواجب واجبي إني طالما قادر أفهم ما أحفظش وطالما مش فاهم وفيه حد أسئلة ما أستسلمش وطالما مش قادر أحفظ أعيد وده أداء الواجب اللي بعده ربنا يوفق مش أداء الواجب أكون بجسمي في المحاضرة وعقلي في الخيال ولو حد يحب الكلية ومش مريض نفسي وكان وجوده في الكلية بالشكل ده برضه هيفشل.
(5) أول سؤال سألاه الآخر كان مستقبلي هيكون إيه بعد الكلية ومرتبي سيكفيني ولا لأ؟، ده شيء معرض له أي بني آدم وفي يد ربنا قبل كل ده مش حاجة حكر علي الدكاترة ومن المعروف إن أغلب الدكاترة مستواهم المادي عالي.
(6) إدي نفسك فرصة ولسه عندي كلام هاكمله ثاني إن شاء الله لأني مضطرة أمشي.
شكرا لكم
25/12/2003
رد المستشار
عندما قال لي أخي الدكتور وائل أن طالبة الطب التي رددت عليها من شهور أرسلت مشاركة على موضوع الدراسة في الكلية بين الضغوط والرفض... إلخ، قلت في نفسي: وماذا ستضيف ابنتنا بعد كل هذا الغياب؟ وأعترف أنك يا ابنتي قد احتفظت بقدرتك السابقة على إدهاشي في رسالتك الأخيرة هذه... تظنين رسالتك تحوي توجيهات أو ملاحظات من واقع خبرتك كطالبة متذمرة من كليتها سابقا؟!
طبعا رسالتك تحتوي على هذا، ولكن الأهم أنها تمثل نصا ذهبيا – وإن كان قصيرا في خبرة المرض والتعافي النفسي، أنها نفس الخبرة التي سمعت أوصافا أخيرة لها على لسان طالبة طب أخرى في نفس دفعتك، وما زالت تحت متابعتي على فترات متباعدة – لأنها تعافت تقريبا بعد أعوام من المعاناة النفسية الرهيبة، والتأخر الدراسي المؤلم.
رسالتك تدل على ما تعلمناه ونصر عليه –رغم شدة التيار المناهض والمعارض له– من أن المريض النفسي مبدع ضل طريقه، أو تناثر إبداعا ثم لم يلتئم كما ينبغي لكل مبدع، وأن الجنون عبقرية تحتاج إلى تنظيم وإنضاج، وهي بعض المعاني التي دفعتنا إلى تسمية موقعنا هذا باسمه، وهي الحكمة والمعرفة التي دفعت العرب إلى القول: (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) ومعناها أن المجنون في خبراته وتجربته مع تشظي الوعي، واضطراب المزاج، وتدفق الهلاوس والضلالات إنما يتجول في عوالم أخرى من آفاق إدراك وشعور غير المألوف، ولو عاد من جولاته هذا سالما قادرا على رصد خلاصة ما تعلمه لاستفدنا منه ومن كلماته الكثير، وبالمعنى الإيجابي للكلمة أرى أنك كنت مجنونة متبعثرة، ولكنك تلتئمين تدريجيا لتصبحي مجنونة حكيمة مبدعة بنظام، ورسالتك دليل مادي على كلامي هذا، وسأنتظر بقيتها كما وعدت.
وقبل أن ألتفت لسطورك تفصيليا ينبغي التنبيه أن ما تعبرين عنه من خبرة ليس فقط من نتاج المرض، وبمقام أهم، من نتاج خبرة العلاج النفسي التكاملي الذي خضعت له، ومن حسن حظك أنه قد تكامل في حالتك العقاقير، والعلاج النفسي الفردي والجماعي، وخبرتك هنا مهداة لكل من تشوه وعيه أو تشوشت معرفته بشأن جدوى ونفع العلاج النفسي ومآلاته، كما هي مهداة للزملاء الذين يظنون أو يعتقدون في نوع واحد من العلاجات، وكذلك للقائمين على شأن توفير خدمة الصحة النفسية لأن برامجها – حتى الآن – عاجزة عن توفير الدواء بانتظام فكيف ببقية العلاجات؟!!!
لا أريد أن أستطرد في أحلامي بما ينبغي أو ما أطمح إلى تحقيقه عبر مجانين، وغيرها من أن تكون الصحة النفسية بمعناها الأشمل للجميع فعلا: معرفة وخدمة، وتواصلا ومشاركة، ووعيا ناهضا لن نتقدم بغيره.
- والمذاكرة مثل أنشطة أخرى هي معنى ومعيار، والدفع نحو إنجاز فيها يمثل نوعا من تنظيم الطاقة المتبددة، وضم الشظايا المتناثرة في درجات من التشتت والقلق، والتردد والمخاوف التي هي أعراض شائعة قد تصل إلى درجة المرض، وقد تبقى في حدود المتاعب النفسية التي يعاني منها الزملاء أصحاب شكاوى رفض الكلية، ومشاعرهم تجاهها، ومعاناتهم النفسية المستمرة.
المذاكرة بالنسبة لك كانت علاجا، وبالنسبة لهم أيضا ستكون انخراطا في نشاط يفيد معاناتهم، ويجمع أمرهم، ويلم شعثهم النفسي في مناخ من المشاعر الإيجابية وعلى خلفية ما تفضلت به من أفكار وحقائق تغيب عن أذهانهم.
- وأنت تشيرين ببراعة إلى دور المعاناة والضغوط في إظهار الأعراض النفسية، وأن الكلية قد تكون هي القشة التي قسمت ظهر البعير، أو هي الستار الذي يحجب حقيقة التركيبة النفسية المؤهلة أصلا، أو المستعدة أو القابلة للأمراض أو الدخول في خبرة مؤلمة أو غير مستحبة شعوريا وذهنيا.
- وتستمرين في البراعة حين تعطين إيماءة من خبرتك إلى من استجابوا للضغوط، وتركوا كلية الطب إلى غيرها، وأغلبهم – كما رأيت – لم يجدوا ما كانوا يبحثون عنه، ناهيك عن تعثرهم الدراسي في كليات أخرى كانوا يظنونها أسهل!!!!
- ما أروع كلماتك، وأنت تنشرين الحياة كتابا كبيرا يتضمن صفحات وأبوابا متعددة، ومن الطبيعي أن تنقطع بعض صفحاته أو تضطرب بعض سطوره، أو تفشل بعض أنشطته، أو لا تكون بالنجاح المرجو أو المثالي، ولكن هذا لا يكون – عند العقلاء الحكماء – نهاية العالم، وهذه خبرة أساسية في الحياة كلها: أن الفشل في نشاط أو مرحلة أو مهمة أو دور لا يعني الدمار أو نهاية الحياة كما تقولين، وتضربين أمثلة حية من زملاءك الذين لم يُعِقْهم تعثرهم الدراسي عن استكمال الكلية مع إعطاء اهتمام حقيقي وكبير لأنشطة وهوايات،
وقاموا بتطوير أنفسهم فيها لتكون مصدر كسب مادي، وإشباع معنوي أيضا، وفي هذا نضج يدرك أنه يمكن لكل إنسان أن يصوغ معادلته الخاصة جدا للنجاح، وأن النجاح ليس وصفة ثابتة خاضعة لمعيار أو مقياس واحد أو في مجال محدد مثل الدراسة فقط، وفي حالة هؤلاء الزملاء فإن تطوير هذه الاهتمامات والهوايات كان نوعا من العلاج، وكان مقدمة للقدرة على المواصلة في الدراسة بالكلية رغم التعثر، وإن كان السير يتم بسرعة أقل
- وأشير إلى أن المعسكر الذي تذكرينه، وخبرة التعامل مع هذه الحالات العملية من الزملاء قد تكاملت مع خبرتيِّ المرض والعلاج لتكون رافدا مضافا للوعي وشحذ الإدراك ليكون أعمق وأشمل، وأجدني حزينا على افتقاد الكثيرات من الأخوات وبناتنا الطالبات لمثل هذه الأنشطة الثرية في خبراتها إما بسبب ضعف الأطر التي تتبناها مثل عشائر الجوالة التي كانت ملء السمع والبصر، فإٍذا بها تتآكل في أغلب الأماكن، تحت مطارق ضعف الإمكانيات، أو انحلال الأخلاق في بعض الدوائر، والكشافة ثم أن الجوالة مرشحة بطبيعة أنظمتها، وجدية القائمين عليها لتكون هي المحضن الأهم لما نتحدث عنه دوما، ونسميه التفاعل بين الجنسين في المجال العام، فهل نستطيع إحياء هذا النشاط المندثر، واستحداثه أو نشره وبخاصة في الأقطار التي تعرفه محدودا أو قاصرا على استيعاب الفتيات كما في أغلب الخليج؟!!
- وما أبدع ما تقولينه حيث كتبت: نداء أن الواحد ما يحبسش نفسه لأنه فشل في حاجة واحدة – مهما كانت كبيرة... برضه اسمها حاجة واحدة ومع تفضيلي للفصحى، وإن شفع لك أن كل العرب يفهمون العامية المصرية، بل ويحب بعضهم أن نحدثهم بها، أقول أن كلمتك هذه توجيه لكل مكروب حبس نفسه في سجن الفشل الأول، أو سجن أي فشل عاطفي أو دراسي أو ديني أو غير ذلك، وأنت تشيرين ببساطة رائعة أن هذا الفشل في مجال أو موقف أو اختيار أو اختبار هو مجرد فشا في شيء واحد، أو "حاجة واحدة " بتعبيرك، مرة أخرى ليست سوى حاجة واحدة، والفشل فيها بالتالي ليس سوى فشل في حاجة واحدة، ومنطقي بالتالي ألا يكون نهاية العالم.
- وتبلغين ذروة الحكمة والروعة بفضل الله ونعمته عليك، وعلينا إذ أوصلنا بك، وبهذه الخبرة ننشرها على العالمين، تتألقين حين تنفذين إلى ما وراء الأسئلة التي تبدو مضللة أحيانا، بل ومربكة ومقلقة بينما هي ليست الأهم أو الأولى بالرعاية أو الاهتمام أو التركيز.
ما أروعك، وكأنك تقولين: ليس الأهم أن تشعر بالألم، أو تهرب منه بترك الكلية أو غير ذلك مما نتصور أنه سيلغي الألم، ليس الأهم زوال الألم لأنه لن يزول، ولن نعدم له أسبابا متجددة أو دائمة... إنما الأهم ماذا نفعل، وكيف نتعامل مع الألم، لا حبا فيه ولكن معرفةً بأنه لا تخلو الحياة من ألم أو هموم، والسؤال الأهم – حتى من سؤال العقل أو الجنون – هو: كيف أكون أصلا ثم أبقى – بني آدم "إنسان" أعيش مع الناس، وأؤدي واجباتي، وقد أمرض وأشفى، أو أفرح أو أحزن، ولا تتوقف الدنيا لأنني غير قادر على شيء بعينه أو فشلت فيه.
- وألهث وراءك أحاول اللحاق بتداعيات معاني كلماتك، بارك الله فيك، ونفع بك، وجعلك قرة عين لوالديك ومحبيك، وأنت في سطور قليلة تصفين معادلة التفوق والإنجاز والامتياز، موجهةً صفعةً قويةً لمن يحتجون بقدراتهم الضعيفة أو جهودهم المتواضعة، واستيعابهم المحدود، ولم تتركي بابنتي عذرا لقاعد عن المذاكرة أو غيرها لأنك ربطت الإنجاز بالرغبة، وهي أيضا النية، وربطت النجاح بتوفيق الله، وربطت توفيق الله ببذل ما في الوسع كيفما كان،
وما في الوسع قد يختلف من إنسان إلى إنسان بحسب قدرته أو طبيعة مهاراته أو ملكاته، ولكن التوفيق ليس مشروطا بالعبقرية أو الذكاء الموروث، أو الفرص الأكثر، وإنما يرتبط بالتوفيق الإلهي المتوقف على المجهودِ البشريِّ المطلوبِ بذل كل ما في الوسع منه، وعلى الله النتائج، وهذا عين العلاقة السليمة بين العمل البشري والقدر الإلهي، فكم كنت متجلية وأنت تكتبين سطورك المتعجلة هذه!!! وأنت كأنك تشيرين أن الجدية والجد أهم من الذكاء الطائر، والتركيز المشتت مع حب عاطفي لا بذل فيه لكلية أو نشاط ما.
- ونفس الشيء بالنسبة للمستقبل: أحسنت حين لم تقطعي بمثل كلمات الآباء والأجداد: أن كلية الطب هي أفضل الكليات، وأن مهنة الطبيب هي أفضل المهن وأنجحها، وأغناها... هكذا بالمطلق!!!، ولكنك وضعت كل الاحتمالات، وعدت إلى قاعدة أعط نفسك فرصة، وتوكلي على الله، فلا أحد يعرف المستقبل.
- أجد نفسي مدينا لرسالتك بالكثير من الشكر فقد تعلمت منها، وأرجو أن يستفيد منها كل من يقرأها... نفع الله بك، وفي انتظار متابعتك.
ويضيف الدكتور وائل أبو هندي: الابنة العزيزة شكرا على ثقتك، وأهلا بك مرة أخرى نرجو أن تكون صفحتنا مدخلا لتلاقي وتفعيل جهود الملايين من الشباب الطامح إلى فعل إيجابي ونحن في انتظار قدرتك على التواصل والتعاون المستمر الواضح في معالمه وتفاصيله وإجراءاته. سعدنا بالاطمئنان على حالتك الصحية، ونحن نتعامل مع رسالتك هذه على أنها ثالث رسالة تصلنا من صاحبة مشكلة: نقاب فعباءة فبنطلون !! إحترس من حواء، وإن كنت ألاحظ أنك غيرت بريدك الإليكتروني، وأنا أحييك على الألفاظ التي اخترتها لبريدك الجديد، ولن أقول طبعا لأن هذا سر بينك وبين فريق استشارات مجانين، بالمناسبة سطورك الشعرية التي كنت قد أرسلتها لنا جميلة، وأعتقد أن شعرك سيتحسن أكثر وأكثر بالقراءة والثقل، وفي النهاية نكررُ فخرنا بأن تكوني صديقة صفحتنا وفقك الله وجعلك دائما في رعايته وتابعينا وشاركينا دائما.