السلام عليكم، حضرة الدكتور وائل،
قد قرأت اليوم الاستشارة التي بعنوان: "شذوذات بالجملة! عفواً، اضطرابات تفضيل جنسي".... وكلما قرأت استشارات من هذا النوع، يعود إلى ذهني اعتراضكم على فتاوى الفقهاء بإباحة ما يكون بين الزوجين فيما عدا المحرمات المعروفة بينهما.
أعلم أن هذه المسائل قد نوقشت على مجانين من قبل، وأنكم على اطلاع على الفتاوى فيها، ولكن بالنسبة لهذا السائل فإن ما يفعله محرم خارج العلاقة الزوجية قبل أن يكون محرماً فيها!.
فارتداء ثياب النساء ووضع المكياج، وكذلك ارتداء المرأة ثياب الرجل والتشبه به حرام وهذا شيء معروف!
وقضية إدخال الإصبع في الدبر لا يخفى عليكم الخلاف فيها، وإن سبب الضرر فالخلاف حينئذ يزول وتبقى الحرمة.
ثم إن سباب المسلم لأخيه المسلم محرم أيضاً وفي كل حال! وكذلك يحرم التضمخ بالنجاسة لغير ضرورة، فكيف يستجيز هذان الزوجان تنجيس بعضهما؟.
فعندما يبيح الفقهاء ما يجري بين الزوجين، يكون من المسلمات عندهم أن هناك محرمات عامة لا يجوز الإتيان بها في أي حال من الأحوال! ولا أظن أن المفتي مضطر لأن يذكر جميع محرمات الإسلام أثناء إجابته عن سؤال السائل! أو عند تعرضه لمسألة من هذه المسائل!.
الإسلام كلّ متكامل، وليس فتوى نطبقها هنا أو هناك، وأظن أنه لما غابت –أو غُيِّبت- هذه الحقيقة عن الناس هذه الأيام، فلا عجب أن نسمع ونرى ما يخطر وما لا يخطر على البال من الشذوذات، والمحرمات.
أذكر كيف جاءني ابن أختي ذو السنوات الست ويريدني أن أعطيه سوار تفريغ الشحنات الذي أرتديه، فأعطيته إياه وفرح به كثيراً، ثم جاءني بعد يومين ولم يكن يرتديه، فقلت له: أين السوار؟ فقال: ذهبت إلى المسجد فقال لي الأستاذ: هل وصفه الطبيب لك؟ فقلت لا! فقال اخلعه هذا تضعه البنات فقط، ولا يجوز للرجال إلا إذا وصفه لهم الطبيب!! فقلت سبحان الله! كيف غاب عن بالي هذا؟ وكنت أعطيته إياه على أنه ليس للزينة وإنما للعلاج دون أن ألحظ مدى الضرورة التي تبيح له وضعه! وفكرت حينها: إن ديناً يغرس الفرق بين الذكر والأنثى منذ نعومة أظفارهم وأظفارهن، ويبالغ في وضع الحواجز بينهما، ويميز بين هوّيتيهما هذا التمييز، حتماً لن يوجد الشذوذ واضطراب الهوية، وما شابه ذلك... بين أفراده إلا في النادر! أما أن ننسى هذا كله، وينشأ الشاب أو الفتاة، ولا ضير عندهما في أن يلبس كل منهما لبسة الآخر، أو يتحرك كحركات الآخر (ولو جزئياً فيما لا يعده مجتمع اليوم عيباً ولا حراماً)، فلا غرابة أن يتبادل كل منهما الأدوار أثناء علاقتهما أيضاً، وأن يقوما بما لا يخطر على بال...!
فهل ما زال عندكم اعتراض على الفتاوى؟ وهل ما زلتم تحسون بتقصير شرعي في هذا المجال؟ ربما أنا لا أستطيع تخيّل ما يدخل عياداتكم فضلاً عن أن أفهمه، ولهذا لا أستطيع تقدير خطورة المسألة،
على كل أحاول بين الفينة والأخرى أن أطرح جانباً من الجوانب الشرعية في المسألة عسى أن يكون فيما أطرحه ما يعينكم أو يفيدكم.
وجزاكم الله كل خير.
19/11/2009
رد المستشار
الأستاذة الفاضلة رفيف،
نعم للأسف، ما زلت أحس بتقصير شرعي ليس فقط في مسألة الفتاوى بالإباحة دون إلمام كامل.... ولكن أرى أن انسحاب الفقهاء من أي ميدان من ميادين العلم هو تقصير من جانبهم، فليس فصل العلم الديني عن العلم المادي فيدرس بعض المسلمين هذا ويدرس آخرون ذاك إلا جريمة كبيرة في حق هذه الأمة... ولذا أقول: "نحن أمة لما ضيعت فقهها ضاعت"... الفقه في الإسلام يشمل الدين والدنيا وهو بالتالي يشمل العلم كله بما في ذلك دراسة السلوك البشري لتنظيمه وعلاج انحرافاته.
تخيلي يا أ. رفيف أن الفهم الشائع لهذه الفتوى هو: كل شيء بين الزوجين ما داما متفقين وراضيين ولا ضرر منه جائز طالما ابتعدا عن الحرام المعروف وهو الإيلاج في الحيض أو الدبر... وكل شيء بعد ذلك جائز! ويتضمن في الفهم نفسه كون الناس في زمن الصورة والفحش المنتشر قد يحتاجون لمثيرات غريبة... هذا هو الفهم الشائع لفتاوى الإباحة ولا أظنه خطر ببال أحد أن المحرم في غير نطاق الجماع محرم أثناءه، بل على العكس كثيراً ما تجدين من يقول أن ما يحدث لا يتعدى غرفة النوم! وهو ما يعني أنه يخالف ما يعلنه الشخص أمام الناس.
وأما فهمنا نحن لنفس المسألة فهو أن المستثير الغريب إذا كان يحدث على سبيل التغيير ولا يمثل عادة أو تفضيلاً وإنما شكلاً من أشكال الإثارة الجنسية التي تنتهي بالبحث والدخول في غيرها، وبشرط ألا تتضمن تحقيراً أو إهانة لخلق الله، فإننا نراه نوعاً من الخيالات البشرية المثيرة، وأما إذا تحول إلى عادة أو حالة لازمة للأداء الجنسي فقد أصبح مرضاً يجب العلاج منه... حتى وإن كان صاحبها حصل على فتوى بالإباحة لأنه دائما لا يعطي كل المعلومات ولا كل الأفكار والخيالات لمن يستفتيه.
نعم: "المفتي مضطر لأن يذكر جميع محرمات الإسلام أثناء إجابته عن سؤال السائل! أو عند تعرضه لمسألة من هذه المسائل!" وأكمل من سطورك لأن الإسلام ذلك الكلّ المتكامل ليس مفعّلاً في حياة الناس، وهو بالتالي أصبح مجموعة فتاوى نطبقها هنا أو هناك، وبالفعل -غابت وغُيِّبت- هذه الحقيقة عن الناس هذه الأيام، وتقلّص ما ينتظرون من الفقيه بشكل فادح، ومع مُرّ الأسف انسحب الفقهاء من الميدان بعد الميدان.
معك حق فقد وصلنا حالة اجتماعية تتميز بميوعة الحدود الفاصلة بين السلوك الذكري والأنثوي، بينما كان الإسلام حازماً في الأمر وواضحاً وضوحاً لا لبس فيه... وأذكرُ كذلك أن عدد حالات مضطربي الهوية الجنسية والراغبين في التحول الجنسي لم تكن أبداً بمثل الكم الذي هي به الآن -ولا الكيف بالمناسبة-، وذلك بالتأكيد راجع إلى الغياب المستمر لقيم الإسلام وأساليبه التربوية عن حياة الأسر والمدارس، ومن المؤسف أن هناك كذلك تغييب للإسلام واختراق مستمر بآلاف الطرق، ومعظمها لا يدري الناس عنه شيئاً فيُخْتَرَقون وتُخْتَرَقُ بيوتهم واقرئي هاري بوتر خيال والرسول حقيقة، وفكري كم نموذجاً كهاري بوتر هذا موجود في مجتمعاتنا وما أثره على ذريتنا؟.
أسأل الله أن يعافي الجميع وأن يقينا شر أيامنا القادمة.
الإسلام يا أستاذة -ويؤسفني أن أقول هذا-... ينسحب تدريجياً من حياتنا اليومية دون أن نشعر ويكاد يقتصر على العبادات، لا والله بعض العبادات اليومية (كالصلاة والصوم والذكر)... فيبقى لنا الإسلام المختصر المستأنس، ومن المفارقة المبكية أن هذا الانسحاب يحدث في نفس وقت الصحوة الإسلامية وانتشار الالتزام وكثرة النماذج التي تبدو إسلامية مشرقة، ولعل سبب هذه المفارقة هو أننا نأخذ ما يناسب العصر من الغرب حتى كدنا نعيش كل شيء في حياتنا تقريباً على طريقتهم، ولكننا فقط نعبد ربنا على طريقتنا بالإسلام! وأحمد الله أننا ما زلنا نموت على طريقتنا أيضاً... لكننا نطبق أساليب الغرب ونتعاطى معطياته في كل تفاصيل حياتنا بعد ذلك ونسأل الله النجاة.
نعم سأبقى أقول أن هناك تقصيراً من جانب المسلمين كلهم، فقهاء أو أطباء أو علماء في أي علم من العلوم أنا أريد أن نرقى بفتوانا إلى الفتوى المدعومة المُسندة Evidence Based بالدليل العلمي مثلما هي بالدليل الشرعي... وبالتالي أطالب الفقهاء أن يدرسوا على الأقل أحد العلوم الدنيوية بتعمق أو تفقه مع دراستهم الفقهية، وأطالب الأطباء وكل العلماء على اختلاف تخصصاتهم (مع تفضيل المشتغلين بالعلوم النفسية الاجتماعية) بأن يتعلموا ولو قدرا معقولا من الفقه وأصوله ومجالاته... نصل بذلك إلى الفقه الحقيقي الذي أظنه وظيفة الفقيه المسلم العالم.
ربما أعود يوماً لإكمال هذه الأفكار في مقال، ولكن يكفي ما قلت في حدود أنها استشارة ومشاركة مستشار.
شكراً لك أيتها المستشارة، وأخيرا أوضح للسادة المجانين الذين يقرؤون وقد اعتادوا أن يرد المستشار على المشاركات الواردة في استشارته ولكن المسألة ربما تختلف في حالة مشاركة المستشار.... وعلى كل فقد عرضت ردي على د. قاسم كسروان صاحب الرد الأصلي وأذن لي في التعليق على مشاركة أ. رفيف.