أنت على مفترق طرق م2
الباحث عن أسرار الكون
السلام عليكم تحية طيبة وبعد، (استكمالا للاستشارات السابقة - على مفترق طرق) أسعى في هذه الأيام إلى تطوير مستوى تفكيري لأرقى بنفسي ومجتمعي، لذلك أنا بحاجة لمزيد من إرشاداتكم الحكيمة التي ترقى بالروح والنفس...... عندي مجموعة من الأسئلة العميقة تحتاج لأناس ذوي خبرة وحكمة من أمثالكم للإجابة عليها:
* قرأت في استشارة بمجانين أن هناك فرقًا بين التفكير الناقد والتفكير الهادم للذات، ولكن لم توضح بالضبط ماهية الفرق، أعتقد أن أحد أكبر مشكلاتي هي في عدم التفريق بين هذين المصطلحين، فعندما كنت أستمع في المحاضرات أن نقد الذات ومحاسبتها هو من عوامل النجاح والإيمان كنت أظن أن المقصود هو جلدها وتصغيرها وتحقير شأنها، لذلك سببت لنفسي (بسبب قصور الفهم) المتاعب والمشاكل ظنًا مني أني أطورها وأحسنها.
* لا أعرف أن أفرق بالضبط بين التواضع والذل، فكيف أكون متواضعًا لله من غير ذل لغيره؟ وكيف أعرف هل تواضعي حقيقي أم مزيف؟ بمعنى أنه ذل وهوان بغطاء التواضع.
* أيضًا لا أعرف كيف أفرق بين الصراحة والوقاحة وكيف أعرف الحد الذي إن قطعته تعديت من الصراحة إلى الوقاحة!
* كيف أوازن نفسي بين الصدق وبين عدم إبلاغ كل أموري للناس (إذا سألوا عنها) وإخفاء ما يجب إخفاؤه.
* هل من الصواب تشغيل عقل الإنسان بالتفكير طوال الوقت؟ قد تضحكون وأنتم تقرؤون هذه الكلمات (معكم حق..) لكن هذه إحدى مشاكلي أيضًا، لأني دائم التفكير في حياتي ولا أعرف المزاح وربما إذا مازحني أحد خاصمته بحجة أنه يضيع وقتي (لا داعي للضحك فأنا جاد) نعم... لكن المفارقة العجيبة أن التفكير هذا أحيانا يمنعني من ممارسة حياتي بشكل طبيعي، وسأضرب لكم مثالًا على هذا: لدينا حاليًا فترة امتحانات وبدل أن أركز فيها وأعطي كل طاقتي، أقضي وقتي بالتفكير بالماضي والمستقبل، بل أقضي الكثير من الساعات في تصفح استشارات موقعكم الكريم بدل المراجعة والمذاكرة. ربما أتمسك بالتفكير ظنًا مني أنه من دونه سأضيع وهذه صحيح لدرجة معينة، يصبح بعدها التفكير مَرضيًا فأفكر في أشياء ليست من دائرة تأثيري، وأفكر بإرضاء ومساعدة جميع الخلق الذي كما أفدتم يعتبر هذا التفكير ضعفًا فكيف أتحول إلى تفكير يؤهلني لأن أكون قويًا؟؟؟
* عشقي للنجاح والإنجازات جعلني أنسى نفسي بمعنى أن أنسى حقوق الجسد والبدن من أجل النجاح وكدت أفقد صحتي وعافيتي من شدة ضغطي على نفسي بدل الرحمة بها، نعم فأنا غير راحم لنفسي (لا بأس أن تضحكوا قليلًا)، فكيف أوازن بين متطلبات النفس والجسد والروح؟!!.........
* مجتمعي انتشرت فيه المحسوبية والانتهازية واللؤم والخبث.. حسنًا تعبت من تعداد سلبياته وللأسف بدل أن أؤثر على الناس حصل العكس فبدأت أفكر في اكتساب صفاتهم لأنسجم معهم ("آتيهم على قدر عقولهم") فكم لدغت من جحر كنت احسبه ملجأ ومأمنًا، وكم من خسيس ونفس ضعيفة تطاولت علي، ولسذاجتي كنت أسكت بحجة الأدب. لا أدري لو تعلمون الضغوط التي أتعرض لها لعلكم تتفهمون وضعي أكثر، إذا إنني أخوض أخطر مرحلة في حياتي أتدرون ما هي؟
إنها حرب الأفكار والقيم، فلماذا يجب أن أتحمل كل الأذى من الناس بالرغم أني قادر على ردعه ودرئه؟ ولو كانت النتيجة خسران بعضهم (المزيفين). لماذا يجب علي احترام الكبير وتوقيره وهو يوجه الإهانات اللاذعة ظنًا منه أنه يبني مجدًا على أنقاض غيره، وهو بلؤمه يدمر نفسه أولًا قبل أن يدمر مجتمعه؟ لماذا نحارب اللصوص الفقراء وننسى كبار اللصوص المختبئين تحت عباءة الوعظ والقيم وهم أبعد الناس منها؟
* كيف أحقق الاكتفاء الذاتي؟! بمعني أني ينقصني الشعور بأني "واثق"، حسنًا اتبعت إرشاداتكم الحكيمة في زيادة الإنجازات والتحدث الايجابي مع الذات، لكني بعد عدة أشهر لم يحصل التغيير الذي كنت أتخيله، مشكلتي فيها بعض الفكاهة نوعا ما: فأصبر على أشياء لا يجب أن أصبر عليها، ولا أطيق الصبر على الذي يفترض أن أصبر عليه (ربما سببت لكم بعض الصداع اعذروني....)، فكيف أصبر على نفسي بأسلوب "الصبر الجميل" ("فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون")، لا أدري ربما لو كنت أملك مهارة تشجيع نفسي لكان الوضع أحسن بكثير، لكني أجلدها وأقلل من إنجازاتها (عندما ذكرت إنجازاتي للطبيب النفسي تفاجأ وأعلمني أني واحد من أناس قلائل ربما يعدون على الأصابع من الذين عرفهم) ربما أحيانًا أتلذذ بجلد نفسي ظنًا مني (عفوًا الأصح "غباء مني") أني أقودها إلى برِّ الأمان وإلى جنة العدنان..... فكيف أتعامل مع نفسي بتقدير واحترام من دون ذل ولا كبر؟ (ربما هذه العقدة عالقة في ذهني منذ الصغر، لأنه قد تم ترويضي على جلد الذات والتحقير بها مثل ضربي والشتائم والإهانات) لأصل إلى برِّ الأمان؟
وكيف أثور على المفهومات الخاطئة التي رباني (عفوًا روضني) عليها أهلي ومجتمعي؟ فقد خضت أكثر من معركة ضروس مع نفسي لأتخلص منها، فالعبرة بالنهاية وليس بعدد الجولات بل بالنتيجة النهائية للصراع فكيف أفوز بالنهاية وأنتصر وأتلذذ بنشوة الانتصار؟
* حلمي أن أكون من عظماء التاريخ ومغيريه (في الفكر والعمل) ربما تسألونني عن السبب فأقول لكم: إني أطمح أن أكون بجوار الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الجنة بإذن واحد احد.
نعم أريد في هذا العمل أن أكسر القاعدة، وأن أغير الوعي السائد في هذه الأيام أن الإسلام دين خمول، ورجعية، وتخلف، وهو السبب في وضع العرب والمسلمين هذه الأيام (ربما الثورة المجيدة في مصر وتونس غيرت بعض الشيء هذه المفاهيم). لا والله بل هو دين الحياة دين السكينة دين الجنة في الدنيا قبل الآخرة، أريد أن أعيد المجد للإسلام والمسلمين (وقد بدأتم به بافتتاح موقعكم الفريد).
ولكي يحصل كل هذه (إذا قدر الله لي هذا) يجب علي أن اكتسب الكثير من المهارات القيادية والاجتماعية لكي أشهد الله على صدق نيتي، فكيف السبيل إلى اكتساب كل تلك المهارات أو قسم منها على الأقل؟ ومن أين أبدأ؟ وما هي المناصب التي لديها التأثير على المجتمع لأصل إليها؟ (أم تنصحونني بالحديث النبوي: "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه"؟!!!!!!!! أعتقد أني أهل لها والله أعلم بحالي).
* يأتيني شعور في بعض الأحيان أنني سأكون من أصحاب النار والعياذ بالله وقد حلمت بهذا وعمري 8 سنوات، فهذا الشيء يقلقني كثيرًا، فهل من المعقول أن أحلم بجزائي في الآخرة قبل أن أبلغ الحلم؟ لكن بدل أن أستعيذ بالله من الشيطان وكيده أصدق في بعض الأحيان هذا الهراء (لا أعلم أين سأذهب؟ الله أعلم بأحوالي) وأتعامل معه كأنه أمر واقع، فكيف السبيل للوقوف أمام محاولات الشيطان لإقناعي بالقنوط من رحمة الله؟ (مع أنني لم ارتكب كبيرة بحمد الله).
* يوجد عندي نقطة ضعف وهي عند تهديد أحدهم لي أو تلميحه بالضرب ففي هذه الحالة وكأني أشعر بالشلل التام وعدم القدرة على فعل أي شيء. أحاول قدر الإمكان أن أتجنب هذه المواقف لكن للأسف البلطجة سائدة لدينا أيضًا وإذا لم أحسن نفسي في هذا الجانب سأشعر بشيء ناقص، أو سأضطر إلى تنفيذ مطالب المعتدي التي لا تنتهي إلا بتركيعي (آخر مرة حصل معي قبل 12 سنة)، فكيف أحصل على "قوة القلب" مع العلم أن تعرضي للضرب من الأهل والأقارب (في الصغر) فاقم لدي المشكلة؟
* هل يمكنني اكتساب سمات الشخصية الكارزمية أم أنها تأتي بالوراثة؟!!!!!
* يجول بخاطري أن الحياة قصيرة ولكي أحقق الأهداف التي وضعتها لنفسي علي أن أتخلى عن فكرة الزواج لأنه تحمل لمسؤولية وسيستهلك أغلب وقتي!!! أعلم أن هذا التفكير خاطئ لكن ما السبيل للتخلص منه وما هي الحجة المقابلة؟؟؟؟
* أهتم بآراء الناس حولي فهل هذا من قلة الإخلاص أم من طبيعة الإنسان؟!!!!!!
* أتعلم في جامعة مختلطة مع اليهود (في فلسطين 48) وحاليًا لا اختلط معهم لكني بالعمل مجبر على هذا (أو القعود بالبيت) المشكلة أني أتعذب من الداخل عندما أكون معهم، فكيف أكتسب هذه المرونة مع العلم انه يوجد شباب يفوقونني بالتدين والعلم والوطنية ويتمتعون بهذه المرونة؟ لأننا تنقصنا نحن فلسطينيو الداخل المؤسسات والمصانع التي تسبب لنا الاكتفاء الذاتي لذلك نحن مجبورون شئنا أم أبينا على هذا التعامل (من يدري لعل مخابرات المؤسسة الإسرائيلية ترى هذه الرسالة.... لا تخافوا!!)، وربما أرى في حالنا قول الله عز وجل "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" إذ إننا بتنا نعرف أسباب وسر قوتها إذ إنها ليس كما يقولون أنهم "شعب الله المختار" لكنهم جادون في حياتهم يقاضون المذنب ولو كان رئيس الدولة (وقد سجن بالفعل) يتمتعون بالحرية، يتكلمون قليلًا ويفعلون كثيرًا، يتبرعون بكميات رهيبة من أموالهم. كل هذا الذي ذكرته من الممكن اكتسابه وتعلمه وليس محصورًا فيهم لذلك يجب علينا الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله (لئلا يتحول لتواكل). عندي إحساس عند كتابتي هذه السطور أني في استراحة "محارب" قبل أن أخوض في الحياة بعد إنهائي التعليم.........
حسنًا ألقيت كل ما في جعبتي من أفكار وتوجسات وتساؤلات التي ربما تحتاج لكتاب لتوفيها حقها لكنكم بمهنيتكم العالية التي تبهرونني بها دائما، وفي كل كلمة تكتبونها أحسبها تعدل كتابًا، فأعدكم أن آخذ كل كلمة على محمل الجد، وإذا لم تقدروا على الإجابة على كل التساؤلات والهواجس،
أسألكم بالله أن تجيبوا على أكثرها أهمية، من يدري لعلكم بهذه الكلمات التي تكتبونها قد تصنعون إنسانًا عظيمًا (وربما لا) لن ينسى معروفكم أبد الدَّهر. تريدون كلمة صادقة ونابعة من أعماق قلبي ---------------> إني أحبكم في الله من دون أن أراكم من يدري لعل الملتقى يكون في الجنة بإذن الله..........
17/02/2011
رد المستشار
ملاحظة لمن يقرأ من رواد مجانين: خذوا نفسًا طويلًا، أو جزؤوا القراءة على فترات، فصاحبنا له أسئلة عويصة هامة، والإجابة عليها طويلة لكنها ضرورية ولازمة.. أعانكم الله تعالى على القراءة والصبر عليه وعلي أيضًا..
أعود إلى "محمد" وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته: أهداف سامية نبيلة، ونفس طموحة، غير أنك أخطأت الطريق إليها يا "محمد"!
- الإنسان العظيم ليس الذي يجلجل اسمه في الآفاق، وليس الذي ينظر الناس إليه بالإعجاب أو يذكرونه طوال النهار!! ولكنه الذي يستطيع إلزام نفسه باتباع شرع الله تعالى والثبات عليه، في المكان الذي وضعه الله تعالى فيه.
- الفائز بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الذي يغير التاريخ، ولكن من أحبه، وأكثر الصلاة عليه، واتبع سنته، وحسن أخلاقه..
- ليس من شروط النجاح في الدعوة والإصلاح أن تكون قياديًا، أو ذا كاريزمية عالية، أو وظائف مرموقة، ومراكز بارزة..، هذه أمور مكملة، والشرط الأساسي هو الصدق والإخلاص والعلم
- مقياس العظمة والنجاح ليس كلام الناس ونظرتهم، وإنما ثباتك على الحق واتباع أوامر الله تعالى، وإن احتقرك الناس عن بكرة أبيهم..
- التكليف والأجر متعلق بالسعي والعمل، وليس متعلقًا بالنتائج، فالعمل ليس سببًا حتميًا لوجود النتيجة، ولا قدرة له على إيجادها، وإنما يخلقه الله تعالى عند السعي والعمل، وفي الوقت الذي يشاء.
- التغيير أن نسعى لنغير وليس أن يحصل التغير فعلًا، وهذا فرع عما سبق
هذه حقائق كبيرة جدًا يا "محمد، ولها ارتباط بعقيدتنا، ولو أنك درَست العلوم الشرعية عند العلماء المتقنين، وليس عند دعاة الكارزمية والقيادية، ومستخدمي الألفاظ الطنانة الرنانة الخالية عن المضمون، لعلمت أن العظمة والنجاح في الإسلام أبسط بكثير مما تتصور، وأنه يمكن لزبال مغمور، لا يحسن لفظ كلمتين، أن يناله!!
احترت كيف أبدأ الإجابة عليك، فكما ترى، كل فكرة من هذه الأفكار تحتاج بحثًا كاملًا لإيفائها حقها، ولتصحيح المعارف المقلوبة التي يحملها كثير من المسلمين اليوم!!
سأجيب عن أسئلتك الآن، وأعطيك العناوين، ليتبين لك بداية الطريق، وأترك لهمتك العالية أن تبحث عن التفاصيل، ولنفسك الطموحة أن تلتزم بما علمت من تلك التفاصيل:
1- الفرق بين التفكير الناقد والتفكير الهادم: التفكير الناقد: هو التفكير الذي يكشف العيوب، ويبحث عن حل لها، ثم يحاول تصحيحها، فيبدأ من جديد ويرمي الماضي خلف ظهره مصطحبًا منه العبرة فحسب. أما التفكير الهادم فهو: البحث عن العيوب والوقوف عندها، والاكتفاء بلوم النفس عليها، مع اليأس من إصلاحها. كما أن التفكير الناقد منصب على الفعل، والتفكير الهادم منصب على الذات. وبغض النظر عمن كان سبب فهمك الخاطئ لهذين المعنين، وعن ملامته، فإنك الآن قد عرفت، ففكر تفكيرًا ناقدًا، وارم الماضي خلف ظهرك، وابدأ التغيير.
2- الفرق بين التواضع والذل: التواضع حالة نفسية تشعر من خلالها، أنك لست أفضل من الناس، وإنما أنت مثلهم، مهما كانت أعمالك في الظاهر أفضل من أعمالهم، لأنك لا تدري في الحقيقة من هو صاحب العمل العظيم المقبول عند الله تعالى، ولكن لو رأيت منكرًا أنكرت على صاحبه محتقرًا وكارهًا لفعله دون شخصه، فهو إنسان مثلك على كل حال. ويظهر هذا الشعور من خلال أفعالك، فيجعلك تقبل الحق أيًا كان قائله، ويدفعك لتقدير أعمال الآخرين، وعدم بخسها، مهما كانت صغيرة..
أما الذل: فهو الشعور بالصغار، وبأنك خلقت ناقص الإنسانية، عديم الشأن، أي بشرًا من الدرجة الثانية، لهذا ترضى أن يدوسك البشر الذين تحسبهم من الدرجة الأولى، وتظن أن هذا حقهم المشروع رغم ألمك من فعلهم، وإن حاولت أن تبحث في عقلك عن دليل يبرر استسلامك هذا فإنك لن تجد، وحينها تعيش الصراع والذل في آن واحد.
وأظن أنك بهذا تستطيع أن تفرق بين الذل والتواضع بحيث لا يلتبس أحدهما بالآخر عليك.
3- الفرق بين الصراحة والوقاحة: الصراحة أن تقول رأيك ومشاعرك دون خوف أو مواربة. والوقاحة: ألا تحترم مشاعر الآخرين، ولا تعرف قدرهم عندما تكون صريحًا، بمعنى أن الصراحة تنقلب وقاحةً إن لم تحسن أسلوب عرضها.
4- الفرق بين الصدق والاحتفاظ بالخصوصية: إذا سئلت عن أمر فليس لك أن تخبر بعكس الحقيقة، إلا في حالات معروفة بيَّنها الشرع، كأن يترتب على صدقك قتل شخص مسلم مثلًا..، لكن لك إن سئلت ألا تجيب بكل التفاصيل، ولك أن تجيب جوابًا عامًا لا تفهم منه التفاصيل لكنه ليس بكذب، فالصدق ليس الإخبار بكل التفاصيل، وإنما عدم قلب الحقائق.
5- هل من الصواب إعمال العقل بالتفكير طوال الوقت؟:
السؤال ليس: هل أعمل عقلي طوال الوقت أم لا؟ ولكن كان ينبغي أن يكون: بماذا أعمل عقلي؟ أما العقل فمهمته أن يفكر، ولكن بماذا يفكر؟ عليك أن تحضر لعقلك المادة الأولية السليمة ليفكر بها، فلا تحشوه بالترهات والنظريات الفاسدة المقلوبة، وعليك أن تلزمه بالتفكير فيما يلزمك وفيما تحتاجه في حينك، لا في الأحلام مهما كانت سامية وجميلة.. وما ذكرته عن نفسك من ترك المذاكرة للتفكير يسمى شرودًا لا تفكيرًا، وإضاعةً للوقت فيما لا ينفع، وكان ينبغي أن تخاصم نفسك على هذا لا أن تخاصم من يمازحك، فإياك أن تلتبس عليك المسميات، ولا تفهم من كلامي أنه يمتنع عليك أن تريح عقلك، وأن تعطيه حقه من التخيل ومن استرجاع الماضي والتفكير في المستقبل، وإنما لهذا وقت ومقدار، ولذاك وقت ومقدار.. نظم عقلك وتفكيرك بتنظيم مهامك في يومك، ثم إلزام نفسك بالتفكير فيما تفعله.
6- التقصير في حقوق النفس، وكيفية الموازنة بين الروح والعقل والجسد: إذا علمت أن النجاح يكون باتباع شرع الله عز وجل، وأن شرع الله تعالى جعل النجاح غير مرتبط بكثرة الأعمال، ولا بإرهاق النفس، وإنما بإعطاء كل ذي حق حقه، بحسب وسعك وطاقتك، نجحت في الموازنة. لكن إذا استقر في ذهنك أن النجاح متعلق بكمية العمل، دون أن تحسب حسابًا لقدراتك وظروفك التي وضعك الله تعالى فيها فإنك ستقصر ولا ريب في كل شيء في سبيل تحقيق النجاح الموهوم الذي تخيلته في عقلك، فنجاح كل امرئ بحسبه. ومعروف لديك الحديث الذي ذم النبي صلى الله عليه وسلم فيه فعل بعض الصحابة حين ظنوا النجاح والتفوق يكونان بحرمان النفس من حقها في النوم أو الطعام أو الزواج، في سبيل الإكثار من العبادات..
7- اكتساب صفات السيئين، والمسوغ لتحملهم واحترامهم: لك الحق يا "محمد" أن تقول: إنك تعاني من حرب الأفكار والقيم. أنت فعلًا تعاني منها ومنذ زمن، حيث قرأت في استشاراتك السابقة حربًا مثل هذه حصلت معك بعد أن قرأت كتب الليبرالية ونحوها..، عليك قبل أن تعرف إجابة هذه التساؤلات، أن تبني قيمك الثابتة التي تؤمن بها وتدير حياتك من خلالها، عليك أولًا أن تسأل نفسك: من أين آتي بتلك القيم؟
وبما أنك مسلم يقتنع بأن قيمه يجب أن تكون مستقاة من الشريعة المطهرة، فعليك أن تأخذ قيمك من أوامره ونواهيه، وحينها تعرف لمَ تتحمل، ومتى تتحمل؟ ولمَ تحترم، ومتى تحترم، إذ ليس كل مؤذ يحتمل وفي كل حين، وليس كل كبير يحترم احترامًا مطلقًا وفي كل حين.، مازلت أكرر وأكرر: لا دواء لعقلك -الذي لا يكف عن العمل- إلا بالعلم الصحيح المأخوذ بالتلقي عن المشايخ الأثبات المعروفين بالتقوى، وعن العلماء الموثقين في كل علم آخر... وهذا لا يؤخذ بيوم أو يومين، ولا باستشارة ترسلها إلى هذا الموقع، أما إن بقيت على هذه الحال، وبقيت تأخذ علمك من هنا وهناك، أو من أفكارك الحالمة، وتصوراتك التي لم تبنها على حقائق، فإن نهاية صراعك هذا لن تكون محمودة..
فعلًا لا شيء يسوغ بقاءنا جيدين مسالمين في هذه الغابة المليئة بالوحوش، إلا عندما نعلم أن الأخلاق مبدأ، وصاحب المبدأ لا يغير مبدأه لأجل الناس، وإلا فحينها يصبح منافقًا لا مبدأ له يميل حيث مالت مصلحته، ومن هؤلاء المائلين اللصوص المتخفين تحت عباءة الوعظ والقيم الذين تشتكي منهم، فإياك إياك أن تسير سيرهم بعد أن رأيت شناعة فعلهم.. هؤلاء إن لم يستطع المجتمع أن يعاقبهم لروغانهم كالثعالب، فلهم ربّ لا يفلتهم إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة حيث لا مجير ولا معين، ولا عباءة ولا عمامة..
8- كيف أثق بنفسي وأقدرها؟ يتحقق ذلك بأمرين: أحدهما ألا تحملها ما تطيق لكيلا تشعر بالفشل واحتقار الذات بعد هذا، اعرف إمكانياتك ومواهبك فطورها، ودع ما لا تحسنه لمن يحسنه من خلق الله تعالى، أنت خلقك الله تعالى لشيء، وخلق غيرك لشيء، ليحصل التعاون بين الناس وتتكامل الدنيا وتعمر..، وكف عن حلمك بأن تصبح سوبرمان، لأن هذا حلم مستحيل لك ولغيرك..
الأمر الثاني: أن تجعل مقياس قيمتك هو مقدار ثباتك على المبدأ والعمل الصالح، بالقدر الذي تتحمله نفسك لا بالقدر المثالي، ولا بحسب آراء الناس التي لا تتفق على رأي فيك.. قد يصعب هذا عليك، وقد لا تزول معاناتك بالكلية، وقد تكون طريقة تربيتك حفرت في نفسك آثارًا يصعب محوها، ما المطلوب الآن؟ هل نمضي العمر بالندب ومطالبة النفس بما لا تطيق؟
إن الذي يتعبك جدًا هو اعتقادك بأن العبرة بالنهايات والنتائج وليس بالمحاولة وبذل الجهد.. ابذل كل جهدك ثم ارضَ بالنتيجة التي وصلت إليها مهما كانت بعيدة عن الوضع المثالي.. لنفرض أن طفلًا تعرض لحادث في صغره ففقد رجله...، ألا ترى من الحكمة أن يقنع بعلته ويحاول إدارة حياته بحسب طاقته؟ ألم تسمع أبدًا بمعاق لاقى إعجاب الجميع لفعله شيء لو فعله أحد الأصحاء لما كان ذا قيمة؟ وما ذلك إلا لأنه بذل ما يستطيعه حسب وضعه..
ثم ألا ترى أن هذا المعاق يكون غير واقعي لو بقي يندب حظه ويطالبها بأن تشترك في سباق جري مع الأصحاء ويفوز عليهم؟ قد لا يعجبك كلامي لأنك ما زلت تحلم بالسوبرمان.. وأكرر: ابذل كل جهدك، ثم ارض بالنتيجة، قد تكون تحسنًا كاملًا، أو تحسنًا جزئيًا.. هذا لا يهمك!
9- هل العبرة بالنتيجة أم بالسعي: هذه أشرت لك إليها مرارًا لكني سأفرد لها جوابًا لأنها خطيرة جدًا على حالتك النفسية، بل وعلى دينك.
العبرة بالسعي وما تبذله من جهد تستطيعه يا "محمد" وليس بالنتيجة التي تصل إليها: أولًا: لقوله تعالى: ((لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها))، فالله كلفك بما تستطيعه لا بنتيجة معينة.
ثانيًا: روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ)). قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: ((كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا))... هذا بذل نصف ماله، فبرهن لله تعالى أنه مستعد للتصدق بنصف ماله طلبًا لمرضاة الله تعالى، أيًا كان مقدار هذا النصف.. فسبق من تصدق بجزء قليل من ماله أيًا كان مقدار هذا الجزء.. هكذا كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، لا كما يفعل بعضهم من تعداد الإنجازات الضخمة ومطالبة كل إنسان أن يفعلها وأن يكون "قائدًا" و"عبقريًا" و"فاتحًا" ووو... ولن يستطيع ذلك غالب الناس!!
إن صححت نيتك بطلب رضى الله تعالى حقًا فستقنع بكلامي، وإن وجدت نفسك تألمت لما أقوله لك فصارحها واسألها: هل تريدين بهرجة الحياة الدنيا، والصيت الحسن، والشهرة في الآفاق؟ أم تريدين مرضاة الله تعالى؟ وابدأ بعدها طريقًا طويلًا في جهادها وتهذيبها، أعانك الله على ذلك، وادع الله تعالى لي أن يعينني –والمسلمين- عليه أيضًا..
10- الشعور بنشوة الانتصار: رغم أنك لم تسأل عن أمر كهذا إلا أنني أعلق على عبارتك التي طالما نبهت على فسادها، وعلى تشوه مفهومها هذه الأيام..
أسألك: ما هي صورة المنتصر كما تراها في كتب الـ NLP ونحوها، أو في التلفاز وغيره عندما يتكلمون عن النجاح والانتصار؟ يرسمون لك صورة رجل واقف على قمة جبل، قد فتح ذراعيه عاليًا، والمكان فسيح وخالٍ من حوله، وكأنه لا أحد سواه في الدنيا.. تخاف عليه أن ينتفخ بعد قليل ويطير، وكثيرًا ما يرسمونه يطير من هضبة لأخرى، أسألك بالذي خلقك وسواك: هل كانت هذه صورة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحًا لها؟ ألم يدخل وقد طأطأ رأسه حتى كاد عثنونه (الشعرات التي على ذقنه) يلمس واسطة رحله؟.. ألا ترى أن العبد في المفهوم الإسلامي يظل عبدًا متواضعًا ذليلًا لله تعالى في لحظة الانتصار كما هو في لحظة الضعف والانكسار؟ ألا تعلم أن سلوك المنتصر في الإسلام يجب أن يكون شكرًا بالغًا لله تعالى، واعترافًا بالتقصير، وبأن المنتصر لا حول له ولا قوة لولا نصر الله تعالى له؟ فكيف تريد أن تذوق نشوة الانتصار؟ ما ينبغي أن تحلم بها أصلًا بالشكل الذي تحلم به الآن! روّض نفسك وتخيلها دائمًا وهي تخرّ ساجدة لله تعالى معترفة بتقصيرها عند كل انتصار تحققه، وإلا فإنك لن تحقق بانتصاراتك في الدنيا إلا زوال حظك في الآخرة..
11- حلمك بأن تكون من عظماء التاريخ ومغيريه لتجاور سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أكرمنا الله وإياك بهذا الجوار: جميل جدًا، حلمك هذا يعكس حبك لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ورغبتك بأن تكون شيئًا في هذه الحياة، وألا تخرج منها كما دخلت..، رغبة قلما نجدها عند أترابك.. ولكن هناك أمر دقيق: فعلًا هناك أناس عظماء شرفوا التاريخ، وغيروا وجه الدنيا...، وباعتبارك مسلمًا سأتحدث معك عن كبار العظماء الذين غيروا الدنيا وجعلهم الله تعالى قدوة لنا، الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، هؤلاء غيروا وجه التاريخ كله، كيف غيروه؟
هل كان أحدهم عندما أسلم، يجلس فيمضي وقته يحلم بالعظمة وبتغيير التاريخ؟
هل كان أحدهم يتخيل نفسه وقد جاء من يكتب اسمه في الكتب، ويتحدث عنه في المحافل؟
إنما كان همّ واحدهم أن يتلقى أوامر الله تعالى فور نزولها ليتمسك بها ويستميت في تطبيقها، فإن أمره بالصلاة صلى، وإن أمره بالجهاد جاهد، وإن أمره بالكف عن الجهاد كف عنه، وإن أمره بنشر الدعوة قام فنشرها، لا ليقال عنه: إنه داعية عظيم؛ ولكن لأن الله تعالى أمره فحسب!!
فماذا كانت النتيجة: رأى الله تعالى صدقهم، وإخلاصهم، وحسن عبوديتهم له فخلق النصر على أيديهم، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ((إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم)) [الرعد:11]، هم غيروا أنفسهم فاتبعوا أمر الله تعالى، لكنه سبحانه هو الذي غير ما بهم لا هم الذين غيروا!!
من الأمور المعروفة في عقيدتنا الإسلامية: أن المسَبَبَات أو النتائج لا ترتبط بأسبابها ارتباطًا حتميًا، وليست الأسباب علة للنتائج، وإنما الله تعالى هو الذي يخلق النتيجة عندما يقدم الإنسان على العمل، فإن لم يخلقها بقدرته فلا تقوى الأسباب على إيجادها، خذ مثلًا ما جرى مع الخليل إبراهيم عليه السلام: عندما ألقي في النار، وعندما جاء ليذبح ابنه فلم تذبح السكين، لو كانت النار هي علة الإحراق، ولو كانت السكين هي علة الذبح، لما تخلفت النتائج، لكن شاء الله تعالى ألا يخلق الإحراق والذبح في هاتين المرتين فلم تحرق النار، ولم تذبح السكين..
ونفس الكلام يقال هنا: أنت تعمل بأسباب النصر والتغيير، وتخلص في ذلك لله، أي تقوم بهذا العمل لأن الله تعالى أمرك، لا لترى النصر ولا لتنال مكانة وشهرة بين الناس بعملك هذا، والله تعالى هو الذي يخلق نتيجة عملك هذا نصرًا وفتحًا في الوقت الذي يريده هو..
تغيير تاريخ البشر متعلق بمجموع الأمة لا بشخص واحد، لهذا عندما تعمل، فأنت واحد من الأمة الذين يضيفون شيئًا إلى أسباب نصر، فإذا اكتملت أسباب النصر بمجموع ما قامت به الأمة، يخلق الله تعالى النصر ويغير التاريخ، ومن ينظر نظرة سطحية للأمور يحسب أن الذي غير التاريخ، هم الذين شاهدوا النصر، وعلى الأخص قائدهم، ولكن الأمر ليس كذلك، النصر هو نتيجة يخلقها الله تعالى عند اتخاذ الأسباب من قبل الأمة بأسرها، فليس الزبال الذي يتخذ أسباب النصر في المكان الذي وضعه الله تعالى فيه، بأقل شأنًا من قائد اتخذ الأسباب في المكان الذي وضعه الله تعالى فيه..
إذن فلا يلزمك أبدًا أن تكون قياديًا، ولا صاحب قدرات اجتماعية مميزة، ولا صاحب منصب، لكي تكون ممن غير التاريخ، كل ما يلزمك أن يكون لك هدف تسعى إليه ضمن قدراتك، مبتغيًا به رضى الله تعالى غير خارج عن شرعه أثناء سعيك إليه. وبهذا أجيب عن استفسارك عن كيفية اكتسابك للكارزمية، إن أعطاك الله إياها فاحمده سبحانه واستخدمها في مرضاته، وإن لم يعطكها فلا تحزن عليها، ولا تضع من ضمن أهدافك أن تأسر قلوب الناس وتجذب أنظارهم إليك... ويقول الإمام الغزالي -في كتابه إحياء علوم الدين- حول هذا: (اعلم -أصلحك الله- أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار، وهو مذموم، بل المحمود الخمول إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب شهرة منه).
12- هل مجاورة رسول الله تعالى تنال بتغيير وجه التاريخ؟ وهذا تتمة للفقرة السابقة:
هل عثرت على حديث واحد يقول لك: إن مجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنال بالعظمة وتغيير التاريخ؟ انظر:
- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليّ، وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ، أحَاسِنَكُم أخْلاَقاً، وَإنَّ أبْغَضَكُمْ إلَيَّ، وَأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ، الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهقُونَ)). قالوا: يَا رسول الله، قَدْ عَلِمْنَا ((الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ))، فمَا المُتَفَيْهقُونَ؟ قَالَ: ((المُتَكَبِّرُونَ)).
- عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أَوْلَى النَّاسِ بِي يَومَ القِيَامَةِ أكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً))، وروى البيهقي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا علي من الصَّلاةِ فِي كلِّ يومِ جمعةٍ فإنَّ صلاةَ أمتي تُعرض عليّ في كلِّ يومِ جمعةٍ، فمن كان أكثرَهم عليّ صلاةً كان أقرَبهم مني منزلةً)).
- عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).
وأترك لك البحث عن أحاديث أخر بيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أسباب القرب منه.. إذن الأساس في القرب من النبي صلى الله عليه وسلم هو: اتباع سنته، وحبه، وكثرة الصلاة عليه، والاتصاف بحس الأخلاق.. سواء كان المرء بعد ذلك من عظماء التاريخ أم لا.
13- يأتيني شعور بأني من أصحاب النار، فكيف أتجنب القنوط؟
يا محمد: أينا يضمن أنه من أهل الجنة؟ وأينا لا يخشى أن يكون من أصحاب النار؟ وأينا يعلم أن عمله خالص متقبل؟
كلنا يا محمد يعيش بين الخوف من عذاب الله، ورجاء رحمته، فتارة يغلب الخوف فكأن النار أقرب إلينا من شراك نعالنا، فنستغيث بالله ونسأله الرحمة، وتارة يغلب الرجاء وكأن الجنة أقرب إلينا من شراك نعالنا، فنأنس ونرتاح، ونسأل الله تعالى أن يقبلنا ويدخلنا في رحمته وجنته.. إنما تدخل الجنة برحمة الله تعالى لا بعملك، فداوم الاستغاثة به، وسؤاله الرحمة على أيّ حال كنت عليها..
14- إذا هددني أحدهم أشعر بالشلل، وأنفذ مطالب من اعتدى عليّ: قد يكون لما حصل معك في الطفولة الأثر البالغ في هذا، لكن لا تحزن، وكما قلت لك: اسأل طبيبك عن كيفية الخلاص من هذا الأمر، وارجع إلى ما نصحك به المستشارون في استشاراتك السابقة، واتبعه قدر الإمكان، وافرح واحمد الله تعالى على أي تغيير مهما كان صغيرًا، ولا تيأس مهما طال الطريق، فما دمت تسير فإنك ستصل، حتى إن لم تصل إلى الوضع المثالي فتذكر بأنك لا تطالب إلا بجهدك، وما تبقى من آثار سيئة فاحتسبها عند الله تعالى كسائر الابتلاءات التي يبتلي الله تعالى بها عبيده. أَوَ تظن أن المعاناة النفسية التي لا يتسبب بها الإنسان لنفسه بمعصية يرتكبها، أتظنها لا أجر عليها؟ بل لك عليها بإذن الله تعالى الأجر، فادخرها ليوم القيامة، فأنت بحاجة إليها هناك..
15- هل أتخلى عن الزواج لأحقق أهدافي؟
اتفقنا أن النجاح لا يكون بكثرة الأعمال الضخمة، وإنما بطاعة الله تعالى في الوضع الذي أنت فيه، وعلى قدر جهدك، إذن ففكرة أن الزواج يعيقك عن أهدافك العظيمة وعن النجاح فيها غير وارد، ولو كان الأمر كذلك لرأيت العظماء كلهم بلا زواج..
أما حكم ترك الزواج: إن كنت تظن أن تركه طاعة وقربة، فهذا حرام، وإن كنت لا تظن هذا فالزواج ليس بحتم لازم وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية لهذا يختلف حكمه من شخص لآخر، ومجمل ما قاله العلماء:
أن الإنسان إذا كان يتوق للنكاح وخشي على نفسه الزنا، وجب عليه الزواج.
وإذا كان يتوق للنكاح ولم يخشَ الزنا، ووجد نفقات الزواج، فهو مستحب بالنسبة له. فإن لم يجد النفقات فالأولى له تركه، وقطع شهوته بالصوم.
فإذا كان الإنسان لا يرغب بالنكاح لطبيعة فيه أو علة: فإن خشي ظلم الزوجة حرم.
وإن لم يخش ولكن لا يجد النفقات كره له لأنه سيتحمل ما لا طاقة له به لغير فائدة. وإن وجد النفقات: فإن كان مشتغلًا بعلم أو عبادة، فترك النكاح أفضل، وإن كان فارغًا فالزواج أفضل..
وعلى كل حال فالأمر عبارة عن ترجيح مصالح ومفاسد تختلف من شخص لآخر، فانظر أي الرجال أنت وتصرف بحسب هذا. فإن كنت غير راغب في الزواج أصلًا فلا بأس عليك ألا تفعل، أما إن كنت ترغب فيه لكن تمنع نفسك لتحقيق أهدافك فليس لك هذا، والزواج أعظم أجرًا بالنسبة لك من التفرغ لتحقيق ما تريد.
16- هل الاهتمام بآراء الناس من قلة الإخلاص، أم من طبيعة الإنسان: إن الاهتمام بآراء الناس، ورغبة المرء في أن يكون له قدر في قلوب الآخرين، أو ما يسمى: "بحب الجاه"، أمر يحبه الإنسان بطبعه، وقل أن يخلو منه أحد. وألخص لك قول الإمام الغزالي في هذا، وحاصله:
حب الجاه كحب المال، عرض من أعراض الدنيا، فلا بد من القليل من الجاه يحصله الإنسان في قلوب الآخرين ليستطيع العيش معهم، وليشعر باحترام إنسانيته من قبلهم، وبأنه ليس مرفوضًا من المجتمع. فهذا ليس بمذموم والسعي إليه ليس بحرام، ما لم يطلبه بالكذب أي بوصف نفسه بما ليس فيه. ولو نظرت إلى هذه الحالة لوجدتها ليست حبًا للجاه في ذاته، وإنما لأنه يتوصل بالجاه حينها إلى أمور محبوبة..
وأقول: قد يكون سبب كثرة الاهتمام بآراء الناس في هذه الحالة، شعور الإنسان بأنه مرفوض اجتماعيًا (مع أنه ليس كذلك)، لظروف مرّ بها، أو لأسباب نفسية خارجة عن إرادته، وحينها فليحاول التخفيف من الاهتمام قدر المستطاع، والله تعالى بعدها أعلم بوضعه وظروفه ومشاعره.
أما حب الجاه في ذاته: وهو حب الشخص أن يكون له قدر في قلوب الناس، لا لشيء إلا لانتشائه بأنه ملك قلوبهم، فهذا بمجرده ليس بحرام، لكنه يحرم في حالتين:
1- أن يحمله على فعل معصية كأن يسعى للحصول عليه بالكذب وبوصف نفسه بما ليس فيه.
2- أن يتوصل إليه بالعبادة، (مثلًا يحسن عباداته ليقولوا تقي) فهذا ما يسمى بالرياء، وهو حرام.. إلا أن حب الجاه على هذا النحو بذرة الفساد والنفاق، وقل ألا يجر إلى محرم، لهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)) رواه الترمذي.
لهذا على الإنسان أن يتعهد قلبه دائمًا ويتفقده ليزيل منه حب الجاه... والطريقة لعلاج حب الجاه هي:
1- أن يتخيل الناس الذين أعجبوا به قد ماتوا، أو يتخيل نفسه قد مات، وليسأل نفسه حينها: هذا الذي كنت أسعى لملك قلبه، أين قلبه الآن؟ وهل يفيدني حبه؟ أو لو متّ أنا، ماذا أستفيد من حبه لي؟ وهل امتلاكي لقلبه ينقذني يوم القيامة؟ وبقدر ما تكون الصورة واضحة لدى الإنسان، وبقدر ما يستطيع العيش في معناها، بقدر ما يجد أن من قلبه انصرافًا عن الاهتمام بآراء الناس، وعن التأثر بكلامهم.
2- ثم بعد هذا عليه أن يخالف رغبات نفسه في السعي لاكتساب الاهتمام، فإذا اشتهت نفسه التحدث بمحاسنه وإنجازاته لتشعر بنشوة امتلاك القلوب، ولفت الأنظار، فليرغم نفسه على السكوت، وهكذا.. وإن أردت التوسع في هذا والتعرف على دقائقه وأمثلته، فارجع إلى كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى.
وبعد هذا كله: اعلم أنك لن تنال رضى الناس كلهم مهما كنت عظيمًا ومهما كنت على الحق، وسيظل الساخط أكثر من الراضي..
17- أما بالنسبة لعلاقتك مع اليهود، فليس لي اطلاع واضح على الموضوع، لكن أدلك على الدكتور نواف هايل التكروري، وهو حائز على دكتوراه في الفقه وأصوله من جامعة دمشق، وكانت رسالته عن "أحكام التعامل السياسي مع اليهود في فلسطين المحتلة" وله أبحاث أخرى في هذا المجال، فيمكنك الاتصال به والاستفسار عن الموضوع، وتجد رقم هاتفه، وبريده الالكتروني على هذا الرابط،
فهذه أجوبة ما في جعبتك من أسئلة أيها الفيلسوف، ولا تصدقني إن قلت لك: إني أطبقها كلها. وإنما وصلت إلى معرفتها بعد أن تساءلت كثيرًا كثيرًا، وبحثت أكثر وأكثر، وما زلت منذ عرفت، أحاول التطبيق وأحاول..، فحاول أنت أيضًا، واعلم أن محاولتنا لن تنتهي ما دام فينا أنفاس تتردد، وهذا هو طريقنا إلى الله تعالى: جهاد دائم وثبات على السير إلى أن نلقى الله تعالى
أخيرًا: أحبك الله تعالى الذي أحببتنا فيه، وجعلك من المتقين، والعلماء العاملين، وجمعنا وإياك تحت لواء سيد المرسلين، لكن انتبه جيدًا: راقب فكرك وغذه بالمفيد، وشمر ساعديك فأمامك عمل طويل..
التعليق: إلى أستاذتي رفيف الصباغ .... السلام عليكم ... والله الذي لا إله الا هو عندما أكون محبطا أو يائسا من الوضع المزري الحالي أتذكر أن هناك أمثال الأستاذة رفيف فيطمئن قلبي ولا أزكي على الله أحدا ولكني أقول كلمة حق أن بوركت وبارك الله فيك وبذريتك وعلمك وجعلك رافعة للأمة جمعاء.....