السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله رب العالمين الذي هداني بفضله ورحمته؛ أنا فتاة عزباء أبلغ من العمر 24 عاما، لدي وظيفة ثابتة، والحمد لله حصلت عليها من خلال تفوقي الدراسي في إحدى كليات القمة؛ فحياتي والحمد لله كلها نجاحات على المستوى الدراسي منذ صغري، وأنا والحمد لله شخصية اجتماعية جدا ومحبوبة من أهلي وأصدقائي وزملائي بالعمل، كل هذا جيد، ولكن بداخلي حزنا عميقا وهما كبيرا أكبر من أن أتحمله؛ فأنا شخصية حساسة أتأثر بسرعة وأعطي لكل شأن في حياتي وزنا أكبر من وزنه.
بدأت القصة منذ عامين وفي شهر رمضان حيث بدأت أستفيق ولأول مرة في حياتي لحقيقة الدنيا والآخرة، وبدأت الالتزام في الدين وكنت في المسجد طوال الشهر؛ حيث كنت قد أنهيت دراستي الجامعية في هذا العام، ولم أكن قد التحقت بالعمل بعد، كانت أيام الشهر الفضيل هي أجمل أيام حياتي، تخليت فيها عن كل أخطائي السابقة، وتبت إلى الله توبة لم أذق حلاوتها من قبل قط، وشعرت أني أسعد إنسانة في الوجود بقربي من الله سبحانه وتعالى، ولم أكن أطلب أي شيء في الدنيا سوى رضاه وجنته يوم القيامة.
وإذا بي في صلاة الفجر في الأيام الأخيرة من شهر رمضان تأتيني فكرة بغيضة عن الله سبحانه وتعالى، لا أستطيع أن أصفها أو أذكرها لأي شخص في الوجود، فانزعجت كثيرا وتضايقت من نفسي وبكيت بكاء مريرا ليغفر الله لي، وانتهى شهر رمضان وتلته شهور وشهور، وقد تحولت إلى إنسانة غريبة لم أعرفها من قبل قط، لقد انهارت حالتي النفسية؛ حيث توالت علي أفكار ووساوس عن الله سبحانه وتعالى لا أدري من أين أتتني وأنا لم أكن أفكر يوما أن تأتيني من قبل أن ألتزم.
وقد حاول أهلي وأصدقائي أن يخرجوني من هذه الحالة دون جدوى، في هذه الأيام كنت أتمنى أن أموت قبل أن تأتيني هذه الأفكار، كنت أشعر أني لا أستحق أن آكل الطعام الذي رزقنيه الله سبحانه وتعالى؛ حتى نحل جسدي كثيرا ولم أكن أستطيع النوم دون كوابيس أو بكاء أو أرق، في هذه الفترة شعرت وكأن الثوابت والفطرة التي فطرنا الله سبحانه وتعالى عليها قد تبدلت لدي.
أنا بصراحة لا أستطيع أن أذكر هذه الأفكار، ولكنها أشياء مكروهة يرفضها العقل، ويدمى لها القلب، وتبكي لها العين بكاء مريرا، وكنت أتساءل وأقول: كيف يفكر فيها عقلي ويرفضها قلبي؟ وظللت أقاوم وأقاوم دون جدوى، وقال أهلي: إن تديني هو السبب، وإن الفراغ هو السبب، ومر الوقت ولا أعرف كيف تخليت عن التزامي شيئا فشيئا ولم يتبق لي منه سوى الصلاة المفروضة.
والتحقت بوظيفة جيدة ولله الحمد، ووجدت نفسي قد شفيت تماما ولله الحمد ولم أعد أتذكر شيئا وتناسيته تماما، ولكني بعدت عن الالتزام وكان هناك نداء بداخلي يقول لي إلى متى تعيشين هكذا دون أن تعملي لآخرتك وأنا أحاول أن أتجاهل هذا النداء، حتى جاء شهر رمضان من هذا العام فقررت أن أقف وقفة صادقة مع نفسي، فقررت الالتزام، وكنت سعيدة جدا بالعبادة حتى تذكرت ما حدث لي بالماضي، وخفت أن تعود لي هذه الأفكار مرة أخرى.
ولم تكن نتيجة هذا الخوف إلا أنها عادت مرة أخرى، وأفسدت علي حياتي وسعادتي بالتزامي، ولكني قررت هذه المرة ألا أخبر أهلي حتى لا ينقلبوا عليَّ، وحاولت ألا يظهر عليَّ أي شيء من الحزن أمامهم أو أمام أي أحد آخر؛ فأنا أمام الناس فتاة سعيدة متدينة لكنهم لا يعرفون ما بداخلي، أشعر دائما بأني أسوأ مخلوقة على وجه الأرض، كيف أفكر بهذه الأفكار عن الله سبحانه وتعالى، أنا لا أؤمن بهذه الأفكار وأكرهها، وأكره نفسي أكثر منها، حتى أنني أدعو الله وأقول له أن يعتبرني إنسانة أخرى غير التي بداخلي.
كيف يحدث هذا التناقض؟ كيف أحرص على العبادة وفعل الخير وحسن الأخلاق؟ كيف أريد أن أدخل الجنة؟ لا أعرف ماذا سأفعل يوم القيامة؟ دائما أتخيل أني سأحضر من بين كل الخلائق وأقذف في النار وأعذب أشد العذاب، ومع كل هذا الخوف والحزن والهم لا أستطيع أن أتخلص من هذه الأفكار حتى شككت في إيماني، لا أعرف هل أنا كافرة أم مشركة والعياذ بالله، أحيانا أنظر إلى أهل المعاصي وأقول يا ليتني مثلكم فسوف يغفر الله لكم بإذنه، ليتني أكون منكم ولا أفكر في هذه الأفكار برب العالمين، تقدست صفاته وأسماؤه.
أنظر إلى المرآة وأقول لنفسي: لماذا تفعلين هكذا؟ أنا أكرهك، هناك ضيق بصدري وجرح في قلبي، لا أطلب شيئا في هذه الدنيا الفانية سوى رضا الله سبحانه وتعالى، ولا أعرف إن كان الله يحبني أم لا بسبب هذه الأفكار؛ فالمنطق يقول هذا؛ كيف يجتمع الخير مع الشر؟ كيف؟ لم أعد أعرف من أنا.
هداني الله سبحانه وتعالى للتصفح على موقعكم، فوجدت العديد من الأشخاص يعانون من مشاكل مشابهة، وقرأت الردود، وعرفت أنه مرض الوسواس القهري، ولكني لا أعرف هل ينطبق التشخيص على حالتي؟ حاولت أن أقنع نفسي أني مريضة مثل هؤلاء الأشخاص، فشعرت بأن همي قد خف، ولكن الأفكار ما زالت موجودة، ولكن في الحقيقة تأتيني بعض فترات انهيار وبكاء.. كنت أتمنى أن أكون مثل باقي الأشخاص العاديين على الفطرة، أحيانا أتمنى أن أعود طفلة بريئة لا أفكر في هذه الأفكار.
لم أخبر أحدا الآن سوى صديقة وأخت في الله متدينة جدا وهي صحبتي الصالحة في الدنيا تعينني على فعل الخير وتقول لي دوما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قـ:16)، لكني لم أخبرها بالتفصيل ما هي هذه الأفكار، أستطيع أن ألخصها بأني وبلا شعور أنسب إلى الله سبحانه وتعالى صفات وأفعالا وشتائم تقدست صفاته وأسماؤه عنها، وتتغير في عقلي معاني الكلمات سواء في القرآن أو الأدعية أو الكلام العادي إلى معان سيئة ومكروهة، كما تأتيني أفكار وتخيلات سيئة تضايقني وتحدث بدون إرادتي.
وهو شيء يحدث بالرغم عني في كل وقت، سواء في الصلاة، أو أثناء قراءة القرآن، أو عندما أتحدث مع أشخاص، أو أستمع إليهم، بل وفي كل حال؛ حتى أني أحيانا أشعر أنني أنا التي أذكر نفسي بها وأعذبها.
ولا أعرف إن كنت سأحاسب على هذه الأفكار والوساوس أم لا، وهذا هو ما يخيفني؛ فلا أعرف هل تقبل أعمالي أم لا، وأحيانا أقول: سأعمل الخير وأعبد الله وأتوكل عليه وأسلم له نفسي وروحي وهو العادل وهو أعلم بحالي، أستيقظ وسط الليل وأستشعر عظمة الخالق سبحانه وتعالى وأشعر أني أعيش في وهم كبير أنا التي صنعته وأريد أن أخرج منه دون أن أفقد التزامي وتديني، وإن حققت هذا فسوف أكون بإذن الله سبحانه وتعالى أسعد مخلوقة في السماوات والأرض في الدنيا والآخرة، لكني لا أؤمن أن تناول بعض الأدوية هي التي يمكن أن تشفيني، أؤمن أن الشفاء يأتي بإذن الله من الإرادة الداخلية.
أسألكم أن تساعدوني، جزاكم الله خيرا، وله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان..
وأعتذر للإطالة.
2/7/2006
رد المستشار
الأخت السائلة،
أهلا وسهلا بك على صفحتنا استشارات مجانين، وشكرا جزيلا على ثقتك، أجد في إفادتك عددًا من النقاط بعضها ناقشناه باستفاضة من قبل على الصفحة، وبعضها وردت الإشارة إليه ونحن نجيب ولم نناقشه باستفاضة، إلا أن نقطة وردت في آخر الإفادة تعتبر جديدة عليَّ من مريضة تعاني معاناتك مع الأفكار التسلطية الكفرية ومع الاكتئاب، وهي نقطة رفضك للأدوية، وعلى أي حال سنناقش كل النقاط وسنفرد الجزء الأكبر من الإجابة لمفهومك عن دور الدواء في تخفيف معاناتك.
أما النقطة الأولى فتتعلق بأفكار السب والتطاول على الذات الإلهية، وهذه التي تحسبين نفسك فريدة في معاناتك معها هي من أكثر أشكال الأفكار التسلطية إيلاما لمرضى الوسواس القهري، ومعروفة منذ أيام الإسلام الأولى؛ فعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" قال ابن قدامة: "رد أمره" مكان "رد كيده".
وقد أفضنا في الحديث عن هذا النوع من الأفكار البغيضة للمؤمن، وفي بيان أن بعضها من الوسواس الخناس (الشيطان الرجيم) وبعضها حسب فهمنا الحالي من الوسواس القهري وذلك في إجابة: الأفكار الكفرية: حتى ببوذا يمكن أن تحدث وتقتحم، وكذلك إجابة الوسواس القهري في الأفكار، علاج معرفي!، ولا داعي لتكرار ما تسهل عليك قراءته في أكثر من موضع، ولكن أهمه هو أن الله لا يحاسب المسلم على ما يجد من أحاديث النفس؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عفي عن أمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به"، وتجدين تفصيلا أكثر في ردنا السابق: الوسواس القهري: أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعي.
وأما النقطة الثانية فهي إشكالية العلاقة بين بداية الالتزام والوسوسة؛ فمن ناحية يبدو الأمر منطقيا في فهم الطبيب النفسي لأن الداخل في الالتزام عادة ما يوغل مدفوعا برغبته في الإحسان إلى ما يجعله من الناحية النفسية يرفع من منزلة تدينه ليصبح الفعل الديني أو المعنى الديني أهم وأعز معنى أو فعل لديه، وعادة ما يوسوس الإنسان فيما يتعلق بأعز عزيز على نفسه؛ فنجد الأم توسوس بفكرة تقتحم وعيها أنها تذبح أو تخنق ابنها أو بنتها مثلا.
ولكنني كطبيب نفسي مسلم لا أستطيع وأنت تحكين لي عن تكرار الوسوسة معك كلما بدأت التزامك، حتى أنك قررت إخفاء أمرها في المرة الثانية خوفا من ضغوطهم عليك... لا أستطيع أن أبعد عن ذهني وسوسة الشيطان؛ لأنها تفهم في فقهنا بنفس الطريقة؛ فكلما وجدك الشيطان من الطاعات أقرب فأمعن في محاولة إغوائك، ولكنني سرعان ما أذكر نفسي بأن الوسوسة ما لم تكن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كافية للتخلص منها فإننا لا بد أن نرجعها لغير الشيطان؛ لأن كيد الشيطان كان ضعيفا بنص القرآن الكريم.
وكي لا أطيل عليك في مناقشة هذه القضية مكتفيا بإحالتك إلى ردنا السابق على استشارات مجانين الوسواس والالتزام الديني، هل من علاقة؟..
وأصل بعد ذلك إلى المحور الأهم لتصحيح ما لديك من مفاهيم، وهو محور جوهري في طريقك للعلاج إن شاء الله؛ فأنت تقولين: "أستيقظ وسط الليل وأستشعر عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وأشعر أني أعيش في وهم كبير أنا التي صنعته وأريد أن أخرج منه دون أن أفقد التزامي وتديني، وإن حققت هذا فسوف أكون بإذن الله سبحانه وتعالى أسعد مخلوقة في السماوات والأرض في الدنيا والآخرة، لكني لا أؤمن أن تناول بعض الأدوية هي التي يمكن أن تشفيني، أومن أن الشفاء يأتي بإذن الله من الإرادة الداخلية"، وأجدك هنا -رغم عظمة الهدف وسمو وسلامة النية- أجدك مع الأسف قاصرة المفاهيم:
أولا: في خلطك مفهوم التداوي ومفهوم الشفاء؛ فنحن مأمورون أن نسعى في طلب الدواء (العلاج) الذي يداوي أو يعالج، وبأن نطلب الشفاء من الواحد الأحد صاحب الشفاء سبحانه؛ فليس دواء يشفي وإنما دواء يعالج، وأما كيف يمكن التداوي؟ فبطلب الدواء من أهل العلم بالدواء (وهم في زماننا الأطباء النفسيون)، وصاحب العلم بالدواء أو العلاج قد يختار لك علاجا يستعين فيه بإرادتك أنت (أو يحاول على الأقل إرشادك وتدريبك) أو يستعين في علاجك بالعقار فهذا راجع لتقييمه لحالتك ولأدائك أيضًا في جلسات العلاج المعرفي السلوكي اللازمة.
وأما كيف يعالج العقار ما ترين أنت أنه يعالج بالإرادة فاقرئي فيه حديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي أشار فيه إلى قدرة التلبين على إزالة الغم من النفس، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن"، قال ابن القيم في شرحه: "التلبين هو حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، وهي تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة؛ فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية" انتهى كلام ابن القيم. وزيدي عليه ما تجدين على الرابط التالي: كيف يعالج عقَّارٌ مادي معاناة نفسية؟
إذن واصلي التزامك ولا تتخلي عنه، واعلمي أنك غير محاسبة من علام الغيب وبينها غيب نفسك، واستخيري ربك واطلبي العلاج من طبيب نفسي والشفاء من الله، وقد يخيرك الطبيب بين العلاج المعرفي السلوكي فقط، وإضافة العلاج العقاري معه. وأما نصيحتي لمثلك فهي الخيار الأخير؛ أي استعيني بعد الله بالعقار والعلاج المعرفي السلوكي معا، أي استخدمي الإرادة لا تتخلي عنها وادعميها ولو مبدئيا بالعقار الآمن من مجموعة الم.ا.س.ا،
ولا تنسي متابعتنا بقصة نجاحك إن شاء الله قريبا.