إكمال الطريق أم العودة لما تحب؟
أنا فلسطيني عمري 31 عاما, للأسف المفروض أنني ناضج وقادر على اتخاذ القرار السليم لكنني أعترف أن الأمور ضبابية، لدي معضلة متعلقة بمستقبلي ولا أستطيع أخذ قرار فيها، كتبت لأن الموضوع لم يحتمل التجارب، هي معضلة لأنها ستؤثر حقا في مستقبلي ولا أريد أن أخطأ ثانية، أخطأت كثيرا من قبل وربما كانت للظروف دور في هذا، لم أجد من يدعم قراري أو يسانده ولكن للحظة الحالية دعني أقول أنني المسؤول الأول والأخير، الموضوع باختصار شديد:
دخلت كلية الهندسة وكنت راغبا بدخول كلية الطب ورفض الأهل رفضا قاطعا، كانت سنيناً صعبة للغاية، لم أكن أفهم الدروس رغم محاولاتي، ورسبت عدة مرات، وكم حاولت أن أقنعهم بما أريد علما بأننا كنا نتملك القدرة آنذاك. ولكنني تخرجت في النهاية، وعملت في أحد الوزارات وما أدراك ما عمل الحكومة! أن تبقى خاملا جالسا على كرسي دون عمل على الإطلاق من الثامنة إلى الثالثة لهو أمر قاتل جدا خصوصا لمن كان طموحا مثلي، كان مؤلما حقا أن أجد زملائي يسبقونني ويصلون إلى أعلى المناصب والدرجات وأنا كما أنا، يعلم الله كم حاولت أن أعمل في مجال الهندسة -رغم كرهي الشديد لها- إلا أنني لم أوفق لعدم تواجد الخبرة، حتى ماجستير إدارة المشاريع الهندسية فشلت فيه لعدم تواجد الخبرة التي كانت مطلوبة وشرطا أساسيا للقبول، حتى أن الدكتور رئيس برنامج الماجستير بنفسه هو من نصحني بعدم إكمال الدراسة.
ربما بسبب هذه الظروف وهي عدم تحقيق أي شيء في تلك الفترة ظل الحنين للطب يراودني حتى أنني فكرت بإعادة الثانوية العامة لإعادة الالتحاق بالكلية في غزة، وعزمت على الموضوع أكثر من مرة ثم تراجعت بناء على نصائح الآخرين لي أن (لا تلتفت خلفك).
في العام 2005 التحقت ببرنامج ماجستير الدراسات الأمريكية، وهو ما يفترض به أن تدرس كافة ما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية حتى تفهم هؤلاء القوم في حال ما أبعثت كمندوب لبلادك، طبعا كانت فرصة مناسبة لي -أو هذا ما تراءى لي آنذاك- فهناك فرصة للعمل في أكثر من مجال خصوصا أنني موظف حكومي ومن الممكن -وإن كان صعبا- الالتحاق بأي مؤسسة بها هذا الفرع (المخابرات, الأمن الوقائي, وزارة الخارجية,....) والتحقت به رغم معارضة الوالدين. ولأننا في غزة نهوى إفساد الأمور، ولأن الجامعة كانت تنظر لنا على أننا جالبو نقود فحسب، فقد أهمل تدريس كافة المساقات والتركيز على العلوم السياسية المتعلقة بأمريكا، ودعني أخبرك سرا صغيرا أنا أمقت السياسة وبعنف، يومها فكرت جديا في ترك البرنامج فالموضوع أصبح تحايلا، إلا أنني أكملت الدراسة به وحصلت على الماجستير.
في العام 2007 أفتتح برنامج دبلوم العلاج الطبيعي، والتحقت به لعدة أسباب، كان مرضيا لي بدرجة كبيرة وقد كان برنامج الإكمال مسائيا بمعني أنني لو انتهيت منه وحدثت المصالحة فمن الممكن لي البقاء في عملي وإكمال الدراسة، ونصحني به أستاذ في كلية التمريض وأنا في المرحلة الجامعية، وحاولت التحويل إليه منذ سنتي الثانية في الجامعة ورفض أهلي ذلك رفضا عنيفا، تعرف الفكرة المرتبطة بالعلاج الطبيعي في غزة وبأنهم (مدلكاتية)!.
رغم أنه علم قائم بحد ذاته وواسع جدا. إلا أن فرص العمل قليلة جدا وحتى فكرة العيادة الخاصة لا تنجح غالبا للعديد من الأسباب. هنا وجدت نفسي حقا، المواد التي ترغب بدراستها، العمل في المستشفيات، خدمة الناس، التحدث إليهم، وتخفيف الآمهم، كانت تلك الفترة هي أسعد أيام حياتي.
هل تعلم بأنني عملت كممارس خاص بعد التخرج؟ وكان لي ثلاث مرضى رفضوا جميعا استقدام غيري عندما علموا بسفري -وهي القصة التي سأخبرك بها الآن- وأصروا على انتظاري وقد تحدثت إليهم من (مصر) وأخبرتهم بضرورة متابعة العلاج حتى لا تسوء حالتهم. وكنت الأول في كافة مسابقات التوظيف التي كانت تقيمها المؤسسات الخاصة، طبعا لم يقبل أحد توظيفي بسبب أنني موظف حكومي (مستنكف)، بل لم يقبل تطوعي، أنت تعرف كم ننادي في المؤتمرات بضرورة التطوع، وعندما ترغب بذلك لا تجد من يقبلك. طبعا كان حلمي أن أعمل بهذا المجال وأن أكمل دراستي العليا به، أن أكون أستاذا جامعيا، وأن تكون لي عيادتي الخاصة، كلها أحلام كان من الممكن تحقيقها، طبعا لتفعل ذلك كان لا بد من إكمال البكالوريوس، وهو الأمر الذي كان صعبا، فقد أغلق برنامج الإكمال في الجامعة الوحيدة الذي توفر هذا التخصص، ورفض المسئولون به افتتاحه، هنا كان لا بد لي من البحث عن بديل لأن حياتي كانت متوقفة آنذاك.
ويعلم الله لو افتتح البرنامج وقبلت فيه لما فكرت بالسفر أبدا أو البحث عن أي بديل. هنا رأيت برنامج الدكتوراه في الإدارة العامة الذي يتبع (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة)، الإدارة العامة فرع من فروع العلوم السياسية -بالمسمى فقط- وهي تختص أكثر بإدارة المؤسسات الحكومية والمؤسسات الدولية وراق لي هذا –تعرف أن هذا مجال جيد جدا في بلادنا- و سافرت إلى مصر وتقدمت بأوراقي، وهناك أخبروني بضرورة دراسة أربع مساقات لمدة سنة كاملة قبل التقدم لبرنامج الدكتوراه، وأيضا بعد سنة، إذا رأى مجلس القسم أنه قد يحملني أكثر من مادتين تكميليتين فقد أضطر إلى البقاء سنة أخرى!
طبعا هذا الكلام غير مؤكد، تعرف النظام المصري بروتينه وتعقيداته. أيضا جامعة القاهرة هي الجامعة الوحيدة في مصر التي يوجد بها تخصص الإدارة العامة وتقبلني، بينما لا تقبلني (جامعة بورسعيد أو معهد البحوث والدراسات العربية أو أكاديمية السادات للعوم الإدارية) لتعارض البكالورويس والماجستير.
دعك من بعبع ما يسمى الموافقة الأمنية، فقد تحصل عليها وقد لا تفعل، هذا بنفسه رعب في حد ذاته، ماذا سيكون موقفك لو اكتشفت انك بعد سنة كاملة من دراسة المواد التكميلية والبدء فعلا في برنامج الدكتوراه، تكتشف أنك رفضت أمنيا وأنك ممنوع من الدراسة، ماذا ستفعل آنذاك؟
صحيح أنني دخلت مصر بموافقة أمنية من السفارة المصرية وأنا شاب في حالي، فما الذي سيمنع حصولي على الموافقة؟ كلام صحيح بديهيا إلا أن المصريين لهم مزاجيتهم الخاصة في التعامل مع هكذا أمور. وقد رأيت العديد من زملائي ممن لم يكن عليهم شيء ورفضوا أمنيا وعادوا إلى غزة بخفي حنين!
هناك نقطة أخرى بأنه كان من المفروض عليّ دراسة أربع مساقات، اثنين في الفصل الأول واثنين في الثاني, طبعا في ديسمبر من هذا العام اكتشفت أن الأربع مساقات مطروحة للامتحان!! لماذا لم يخبروني بذلك؟ الإجابة المعهودة (هي كده)، عموما سجلت الأربع مواد وبدأت الامتحانات، سأنتهي يوم 18 الشهر الجاري، الظريف أن هناك مادة تدرسها دكتورة تؤمن بأن الطالب لابد أن ينجح لديها من المرة الثالثة! طبعا أنا لا أملك هذا الترف فلو رسبت في امتحان يناير فلدي فرصة للتقدم في مايو، أما لو رسبت أيضا في امتحان مايو فيجب الانتظار سنة أخري قبل التقدم للدكتوراه لأنهم يرفضون التقدم إلا لو أتممت دراسة كافة المواد، والتقدم يكون مرة واحدة في العام في شهر أغسطس، ثم يدرسون طلبك ليروا إذا كان ذلك كافيا أم يجب أن تحمل بمساقات إضافية! ثم يبدأ مشوار الأمن!
في ظل هذا كله حدثت المفاجأة، فقد افتتح برنامج إكمال العلاج الطبيعي والذي من المفترض أن تبدأ الدراسة به في أول مارس، وقيل لي بأنني لو قدمت أوراقي فسأكون من أول المقبولين. قل لي يا سيدي الفاضل لو كنت مكاني فماذا ستفعل؟ هل تكمل مشوار الدكتوراه؟ أم تعود للحصول على البكالوريوس والبدء من جديد؟ أم تبقى للدكتوراه محاولا العمل في مجالك الذي تحب في مصر وإن كان ذلك صعبا، مضحيا بالفرصة هناك والتي قد لا تتكرر إلا بعد أربع سنوات؟ لا أستطيع اتخاذ القرار الصائب، كل ساعة وأنا في حال ورأي مختلف، أنا أعرف ما أريد لكنني لا أرغب أن يكون للعواطف دور كبير في قراري هذا،
صليت الاستخارة بدون فائدة، لذلك طرقت بابك رغبة في مساعدتك
وأنا أعتذر إذا كنت قد أثقلت عليك.
26/01/2012
رد المستشار
حياك الله وهداك لما فيه خيرك في الدنيا والآخرة. لتخرج من حيرتك ارسم صورة لما تريد أن تكون عليه حياتك بعد عشر سنوات من الآن بغض النظر عن عمرك، وخذ ما تحتاجه من وقت لرسم جوانب تلك الحياة المختلفة مثل المادية والاجتماعية، ارسم صورة واقعية يمكن تحقيقها في ظل ظروفك الخاصة والعامة -نفسك وبلدك- والواقعية تحتاج الاعتماد على العقل اللازم لإلجام العواطف وحسن استثمارها.
نظرة إلى مجريات حياتك تشير إلى اعتمادك في التقييم والأحكام على المشاعر مع تعكر طريقة التفكير والتي تعبر عنها بقولك "لا أريد أن أخطأ ثانية" لا ضمانات في الحياة وهذا رغم انه يزعج البعض إلا أنه طاقة الأمل، فما من سبيل يحفظك من ارتكاب الأخطاء في جميع جوانب حياتك.
يجب أن تعمل على إنضاج شخصيتك بالاعتماد على تقديرك الذاتي أكثر من اعتمادك على تقدير الآخرين حتى المهمين منهم في حياتك، وفي حين تظن أنك تحرر نفسك من التقدير الخارجي تلقي الكرة في ملعبنا وتسأل ماذا تفعل لو كنت مكاني رغم أن ما قد يختاره المرشد لا قد لا يناسبك، وهكذا أي طريق تختارها لتكسب الرضا والتقدير لذاتك؟
ظروف حياتك ليست سيئة كما تظن ولا العمل إلا أنها فكرتك السالبة عنها وهي ما أدى لكراهيتك لمعظم ما أنجزته في حياتك سابقا وترى أن حياتك متوقفة لأنك لم تحقق ذاتك بعد.
هكذا ترى أن جذور مشكلتك تمتد لأبعد من نوع التخصص الذي تدرسه، ستساعدك الصورة الذهنية الواقعية التي بدأنا بها الاستشارة في الاختيار.
إن لم تصل بعد لقرار سأفكر معك، ماذا يترتب على إكمالك لدراسة الدكتوراه، بعيدا عن الشروط الافتراضية المعطلة التي ذكرتها من رسوب وتأخر الموافقة أو عدم الحصول عليها فجميعها متغيرات طبيعية لكل دارس في أي مكان وإن كان الأمر في الجامعات المصرية تسميها الموافقة الأمنية فالدراسة في أمريكا تتطلب منك الكثير أيضا من المتطلبات الأمنية والأكاديمية.
بما أن حالتك المادية كما ذكرت جيدة جدا -ما شاء الله- فهي تمكنك إذا من إعادة المواد وانتظار الموافقة الأمنية وفي حال عدم تيسر الأمر تكون أغلقت هذا الباب بعد الآخذ بالأسباب مع تذكر بأن لا ضمانات في الحياة.
من جهة أخرى ما الذي قد يضيفه دكتور كاره للتخصص، وما الذي قد تضيفه لك درجة الدكتوراه، إن كنت تظن بأن الدرجات العلمية تضمن دخل أعلى فغير فكرتك، وإن كنت ما زلت مصرا على تحقيق رضاك عن نفسك فقط من خلال تقدير الآخرين لك لن تشعر بأن حياتك قد حققت هدف وجودها مهما فعلت، هكذا ترى تحديد هدفك في الحياة سيساعدك في ما هو أفضل لك.
أرجو أن تكون قد توصلت إلى قرار يقنعك ويريحك وإلا ومخالفة للتعامل المهني أشير عليك بأن تعود لتدرس وتعمل ما تحب فما أهلك مجتمعاتنا ليس قلة الدرجات العلمية بل قلة الإخلاص والدافعية والإبداع، واعمل على إنهاء وضعك الوظيفي بطريقة قانونية كي لا تعامل كمستنكف عن الوظيفة الحكومية، ورب مدلك -معالج طبيعي- يكون ذا أثر في الحياة والمجتمع أكثر من دكتور آخر -الكمشة منهم بشلن-، أما عن الدخل المادي فالأرزاق بيد الله وما سعينا في الدنيا إلا أخذ بالأسباب، عسى الله أن يجعلنا وإياك من سعداء الدارين ويرزقنا خير العمل وقبوله.
التعليق: لا نجني من الأهل إلا المصائب غالبا،
مع الأسف الشديد