أمل جديد: أبناء الخوف، والقهر، والمهجر
السلام عليكم، أنا طالبة بكلية الطب أعاني من عدة مشاكل سأسرد كل واحدة على حدة أنا من أسرة ميسورة الحال تتكون من أم حنونة جدا وأب عصبي جدا بيني وبينه قليل من التواصل منذ أمد قريب وثلاثة أخوة أخت أكبر مني ولد وبنت أصغر مني.
بداية كنت أعيش في الخليج مع أهلي حتى الثانوية العامة ولم أعش طفولة سعيدة فقد كنت دائمة المشاكل بالمدرسة لأني لا أترك حقي أبدا ولم يكن لي أصدقاء تقريبا فقد كان الجميع يكرهونني لأنني مصرية ولقد عانيت كثيرا بسبب هذا فأنا شخصية حساسة جدا وعاطفية لأقصى درجة حتى أذكر أنني أصبت بحالة تلعثم مؤقتة بالكلام من جراء مشكلة في المدرسة.
طبعا أنا لست عدوانية ولكن إذا أحد شتمني شتمته بالمثل وهكذا كانت المشاكل تتوالى يوميا حتى الصف الرابع الابتدائي ثم تركت المدرسة أنا وأختي الكبرى بعام لنذاكر في المنزل وندرس المناهج المصرية حتى ثاني إعدادي ثم انتقلنا إلى مصر وكانت فرحتي كبيرة جدا لأني أخيرا سصبح لدي أصدقاء وأعود لمصر وبالفعل عدنا لكن من دون والدي حيث كان لا يزال يعمل هناك وعدنا إلى القاهرة (محافظة امي) ودخلت المدرسة وكنت بدأت أكون علاقات في المدرسة وكانت جعلت أمي توصية للمدرسين بالمدرسة أن يهتموا بي لأني خجولة جدا وبالفعل لقيت الترحيب والتشجيع وكنت بدأت أكون صداقات وأخيرا شعرت أنا وأخوتي أننا نعيش حياة جميلة بعد سنوات من العزلة الكبيرة.
ومر نصف عام بسلام حتى عاد والدي من الخليج في إجازة نصف العام وقرر أننا يجب أن ننتقل إلى محافظته من الصعيد لأنها مسقط رأسه ويجب أن تكون كذلك لنا وانتقلنا إلى هناك ومن يومها تغيرت الحياة تماما إلى السوء الشديد فقد كانت بلدة ريفية في أسوأ مكان بها أقمنا طبعا نتيجة سوء اختيار شديد من أبي.
المهم لم يكن لي أصدقاء سوى واحدة وكانت فتاة سيئة للغاية كثيرة النميمة وهكذا انقطعت العلاقة ومرت الثانوية العامة وأنا أدرس بدون أي أمل وإحباط شديد نتيجة الحياة في المكان الفظيع وعانت أمي كثيرا حتى أنها أصيبت بالمثانة العصبية من الضغط النفسي فلا أهل لها في هذا المكان وأهل أبي لم يكونوا بجانبنا كما كان أبي يدعي عنهم، المهم مع كل هذا اليأس دخلت كلية الطب وكانت هذه مفاجأة كبيرة لأنني لم أكن ذكية كما يجب (لقد كانت أمي دائما وأبي تقول عني أني لن ألتحق بكلية محترمة لأني مستهترة) ودخلت الكلية ليس لأني أريدها (لم يكن لي هدف أصلا) بل قلت سأكسب ثقة بنفسي وسيحترمني الناس كثيرا وبالفعل تغيرت نظرة أمي لي وأبي تماما وأصبحا يحترماني كثيرا.
المهم اجتزت السنة الأولى بتقدير سيئ للغاية وفي العام الثاني تحسنت كثيرا في التقدير لكني وسط كل هذا كنت أعاني أيضا من الخجل الشديد وتعرفت على مجموعة زملاء أتودد إليهم وأتظاهر أني منسجمة معهم فقط لتمضي الأيام وحسب وكنت أعاني منذ الثانوية من حالة خوف شديد حيث أشعر أن مصيبة ستحدث لي أو أن أحدا عزيزا علي سأفقده خلال الامتحانات وأني سأعيد السنة بسبب هذا طبعا حدث هذا في العام الثاني في الطب في آخر السنة أثناء الامتحانات ووجدت والدتي قد سافرت إلى القاهرة قالت لزيارة جدتي المريضة (فقلت في نفسي لابد أنها ماتت ولن تقول لي لأني في امتحانات فقلقت جدا فاتصلت بها فأقسمت لي أنه ليس هناك شيء)؛
طبعا عدت من الامتحان وإحساسي أن هناك مصيبة تنتظرني في البيت وبالفعل عدت ووجدت أخوالي وأبي (كان قد عاد نهائيا من الخليج منذ سنة) وأمي مستلقية على السرير وتقول ألم تلاحظي شيئا فقلت لها لا شيء أراه فوجدتها أزالت الملاءة لأكتشف أنها قد أجرت استئصالا كاملا للثدي الأيسر فقالت لي سرطان وهي مبتسمة فلم أكن أستوعب الصدمة بعد فقلت لها أمام أخوالي عادي جداا لقد توقعت أن هنك أفظع من هذا أن كان قد توفي أحد مثلا، وفي هذا اليوم قلت لأختي أنا أشعر أن الله ابتلانا كغيرنا من الناس ولسنا الوحيدين في هذا العالم وبكيت هذا اليوم ولكن لم يكن البكاء من قلبي (لم أكن أستوعب أبعاد الموضوع) المهم خلصت من العام الثاني ودخلت أمي في رحلة العلاج الكيماوي ثم ظهرت الأشعة لتفيد بأنه انتشر للعظام فبكت أمي لكني كنت لا أزال أشعر بأمل أو لنقل هدوء نسبي لأنها لا تزال في صحة جيدة.
ودخلت العام الثالث في الدراسة وأخذت طبعا أدرس الأورام والانتشار والخطر ولكني كنت لا زلت أحتفظ بهدوئي حيال هذا الموضوع وأقول الأعمار بيد الله لا بيد الأطباء وفي نهاية العام أيضا حصل لوالدي حادثة صدمته سيارة وأصيب بارتجاج بالمخ والحمد لله نجا لكن مع فقدان كبير للسمع من أحد أذنيه وهذا العام بدأت أقلق قلقا شديدا حيال والدتي خاصة أنها أنهت الإشعاع وأصبحت أقول لنفسي ماذا بعد هذا وسمعت طبيبا يقول في التلفاز (إذا الورم انتشر للعظام يكون المرحلة الرابعة وعلى المريض السلام) طبعا أنا كنت أعرف هذا الموضوع من قبل ولكني هذه الفترة بدأت أدرك حقيقة الموضوع وأبعاده فبكيت بكاء شديدا من قلبي هذه المرة كل يوم قبل النوم وأدعو الله أن يشفيها حتى استيقظت من حوالي أسبوع لأشعر بدوار شديد من جراء البكاء لا زلت أعاني آثاره حتى اليوم.
طبعا أنا الحمد لله قد هدأت قليلا منذ قراءة القرآن وذكر الله وأمي بحالة جيدة نوعا ما بالإنابة لحالتها وأنا مستحيل طبعا أقول لها أن علاجك هذا مجرد علاج للأعراض ألم العظام وليس هناك شفاء وإنما إطالة البقاء لمتى الله أعلم، أنا أشعر بالذنب تجاه أمي كلما شكت لي أحد أعراض الألم تمنيت في داخلي لو كنت أنا المريضة أو أخذ عنها قليلا لأخفف عنها وأحيانا أصل بدرجة القلق إلى أن أتمنى أنها تموت حتى أرتاح وأقول وقوع البلاء خير من انتظاره هذا ليس شرا مني لكن من شدة الضيق الذي أعاني منه وأنا قد تشاءمت من امتحانات آخر العام وكلما اقترب الوقت أقلق أكثر إلى جانب القلق الدراسي في هذه الفترة لكني مع هذا أحمد الله كثيرا على النعم التي أعطانا إياها، وكثير ما أشعر بالذنب لأني أشعر بالقلق وليس عندي يقين كافي يجعلني أشعر بالسكينة والسلام الداخلي, لا أحد من زملائي يعلم بأمر والدتي أحيانا أشعر أني سأنفجر وأقول لهم أني أعاني ليقدروا ما أمر به من كرب لكني لا أتفوه بحرف وأقول الشكوى لغير الله مذلة كما أنهم ليسوا أهلا للحديث في هذا فلن أنال منهم سوى الشفقة.
(إضافة أخيرة لقد كانت والدتي تعاني قبل هذا من تليف في نفس الثدي منذ خمس سنوات وكشفت عند أكثر من طبيب ومتابعة دائما لكن هذا هو قدرها فقالت لي أني طبيبة وسأستوعب هذا أن والدي كان سببا في هذا لأنه في العلاقة الجنسية كان كثير المداعبة لهذا الثدي الذي أصيب بالتليف والمرض وأن طبيبة النساء قد حذرتها في هذا قبل وقت طويل وأنه يسبب التهابا شديدا وغير ذلك ولكنه لم يكن يستجيب لذلك فكانت ولا تزال تلوم عليه وتقول أنت السبب ولقد كان يسيء معاملة والدتي كثيرا بالكلام والصراخ وأنا وأخوتي لكنه تغير بنسبة كبيرة بعد مرض والدتي)
المشكلة أنني متشائمة وأصبحت منذ زمن أحس أنني لا أعيش حياتي كمن في مثل سني ومرض والدتي جزء من المشكلة وليس كلها. كثيرا أفكر في الموت -لا أزال معقودة اللسان وخجولة ولا أملك أصدقاء خائفة دائما من المستقبل أخاف على أختي الصغرى وأحيانا كثيرة أبكي عليها وأبكي على أبي لأنه سيتحمل مسئوليتنا وحده إذا أمي لا قدر الله توفيت فهو رجل في الستين- لم أعد أشعر بالفرح إلا نادرا أمل قصير يعقبه يأس طويل أقرأ كثيرا في كتب مصطفى محمود التي تجعلني أرى الحياة بواقع حقيقي جدا لكنه مرير وعلى فكرة ليس لدي أهداف أشعر أني يجب أن أعيش من أجلها باختصار فقدت الإحساس بالحياة.
أنا آسفة على الإطالة وسرد كل هذه التفاصيل لكنها قد تكون مفيدة وأنا أعلم أن الطبيب لن يضرب بعصاه السحرية فتنحل جميع المشكلة ولكن اعتبروها نوعا من الفضفضة فأنا أعلم أن الجميع يعيش في مشاكل ولكن قوه الاحتمال هي التي تختلف من شخص لآخر.
ملحوظة: أخيرة أنا أشعر دائما أني لن أستطيع أن أمضي في هذه الحياة فأنا إنسانة عاطفية هشة والحياة لا تستوعب أمثالي، والسلام عليكم ورحمة الله.
23/02/2012
رد المستشار
أبدأ من حيث انتهيت أنت في رسالتك الطويلة، ومن قولك: أنا إنسانة عاطفية هشة، والحياة لا تستوعب أمثالي (لم أفهم هذه!!) وقد كتبت كثيرا من قبل عن تلك الهشاشة التي ننشأ عليها، وأحيانا تكون مما يمتدح في البنات (أي تكون ضعيفة، اعتمادية، لا تقوى على معاركة الحياة)!!!
تسلمنا ظروفنا أحيانا إلى نوع من الإجهاض المستمر لإمكانات النمو، والنضج النفسي، وبدلا من إتاحة الفرص للتواصل مع البشر والأشياء، والمعلومات، والخبرات، والتجارب الجديدة، تضع بداخلنا الخوف، والعجز، والرغبة في العزلة، والابتعاد عن الناس، وقد نبالغ حين نسعى إلى تجميل هذا الموت والموات، حين نضع له عناوين كاذبة مثل: الحياء، الشكوى لغير الله مذلة...إلخ!!!
ونحن نعيش فوضى عارمة في المعايير، والمفاهيم، والمصطلحات، مع رواج نوع من التدين المنقوص المغشوش البديل للتدين السليم الذي أطلق الإنسان، وحرره من الأغلال فانطلق مبدعا وهاديا، ومتأملا ومتسائلا، وباحثا ينقب في الكون، والنفس... كما كان الأجداد الأوائل حين فهموا الإسلام على أنه إحياء، وتمدن، وحضارة، ودعوة إلى السير، والسياحة في الأرض لعمارتها، أما التدين الرائج في عصرنا فهو تكريس للعزلة، والقهر، والشلل، والخوف من الجديد، ومن الخبرات، باسم سد الذرائع، والأخذ بالأحوط... حتى ماتت الدنيا، ومات الدين، ومات الإنسان بالحياة!!!
أنت فتاة عربية ـ واحدة من ملايين...ـ خجولة، منطوية، ومفتقدة للثقة بنفسك، معتمدة في مشاعرك على من حولك إذا رضوا، وإذا صحوا أو مرضوا، إذا عاشوا، أو ماتوا!!!
بالمقاييس الشائعة عندنا يمكنك أن تري نفسك ما تزالين صغيرة فأنت طالبة جامعية، وحساسة، وعاطفية، ومن بيئة محافظة، ولا سابق خبرة لك في التعامل مع تجربة الفقد، أدعو الله أن يربت على قلبك، ويخفف عنك. لكن الأغلب الأعم فإنه لدى أغلبنا مشكلة كبيرة في التعامل مع الألم، والتعامل مع الأوضاع الطارئة، أو الجديد بشكل عام!!!
أغلبنا يرفض ويستنكر أن يشعر بالألم، وأن يعبر عن هذه المشاعر!! رغم أن هذا الإحساس، والتعبير عنه هو شيء إنساني بسيط، عادي، ومتوقع، ومن حقنا كبشر!!!
ولأننا لا نقبل الألم بوصفه جزءا من الحياة، ومعلما يعلمنا الدروس الأهم، ولأننا نقاوم الألم، ولا نمرره، يتحول ألمنا من مجرد حالة طارئة يمكن أن يعيشها كل إنسان لبعض الوقت إلى ضيف مقيم مستمر، موجع دائما، كأنه يضغط أكثر، ونحن نرفضه أكثر، فيبقى ويدوم... أكثر وأكثر!!!
وكذلك نفعل تجاه الجديد، بدلا من أن نفكر فيما يمكن أن يكون ميزة في هذا الجديد، وكيف نتعامل، ونتكيف معه؟!! نغرق في الذعر من حصوله، والمعاناة من معايشته، إن اضطررنا لذلك، وكأن هناك وضعا مثاليا، هو وحده يحقق لنا السعادة، وغيره كفيل بمد التعاسة لتغطي كل المساحات، ونبقى بلا أمل، ولا طعم للحياة، معزولين عن العالم، في ضيق وكمد!!! ونحن نختار هكذا الموت فكيف نشعر بطعم الحياة؟!!
وفي غياب النبض الروحي بداخلنا كيف ستكون لنا أهداف، وكيف يمكن أن نستمتع بشيء؟!!
وأين نبحث عن الإيمان وسط قبور اخترنا أن ندفن فيها أنفسنا!!!
قبور المشاعر التي نخطئ في فهمها واحترامها، وفي التعامل معها فتصبح ركاما من القيود والسدود، وتسلمنا لترسانة من التشوهات النفسية، والروحية... بالتدريج، ودون أن نشعر غالبا، ودون أن يشعر بنا أحد... نموت روحيا... في صمت!!!
وأهل القياسات العصبية البيولوجية يرصدون التغيير الكيميائي في النواقل العصبية، ويقدمونه بوصفه "السبب"، أو المشكلة، ويقدمون الحل في العقاقير التي ما من شك أنها قد تساعد في مثل حالتك، لكن الدواء لا يعالج وحده!!!
أقول أن فحصك إكلينيكيا من طبيب متخصص، أو طبيبة، قد يخلص إلى أنك تعانين اضطرابا مرضيا مثل الاكتئاب، وربما تترافق معه بعض أعراض القلق، أو العكس... أي أن يكون الاضطراب الأساسي هو القلق، وهو ما يأتي غالبا مصحوبا بأعراض اكتئابية، ويساعدك عندئذ العلاج بالعقاقير، لكن تعاملك مع ضغوط حياتك المحيطة بك، وتغييرك لمنهاج إدراكك وتصورك لنفسك، وحياتك، وآلامها، وأوضاعها الجديدة المتغيرة دائما، كما في كل حياة، وإدارتك لعلاقاتك بوالديك، وبالأصدقاء الحاليين، والمفتقدين، بحثا عمن يشاركك متعة القراءة، أو الاهتمام بالأفلام الوثائقية، والأجنبية... أي أن تختاري الحياة لا الموت، والتحرر الإنساني من داخلك لا الانحباس في السراديب المعزولة، وحتى تعاملك مع ماضيك بوصفه دروسا وتجاربا علمتك أشياءا ما كان لك أن تتعلميها إلا بالمرور بها... كل هذه تبدو اختيارات قد تختارين أن تأخذي بها، أو أن تظلي ابنة وفية للقهر، والخجل، والهشاشة، والعجز!!!
تابعينا بأخبارك ودمت بخير.
التعليق: أقرأ رسالتك يا أمل وأنا أبكي لأنني أشعر بك تماما.
أنت الآن في مرحلة الدراسة بلا مسؤليات كبيرة.تريدين استمرار الاستقرار وهذا محال فالفقد هو طبيعة الدنيا.الفقد مؤلم والألم منضج وسيعلمك أن الباقي هو الله فقط فلا تتعلقي بأي شخص أو أي شيء زائل.
شفا الله أمك وعافاها ولكن إذا قدر الله موتها فلماذا لا تتحملين مسؤلية نفسك وتشاركين والدك و تحتضنين إخوتك؟
حاولي أن تستجمعي نفسك للدخول إلى الحياة الواقعية بعيدا عن الخجل والضعف والخوف.
تعاملي مع الناس لتنضجي ولا تنغلقي على نفسك. ما أسهل أن تكتئبي وتنغلقي على نفسك فهذا اختيار إلا أنه يمكنك أن تستعيني بالله و تساعدي أمك وأبيك معنويآ ووالله يا أمل عندها ستشعرين بقوة هائلة يمدك الله بها.
أتذكر فترة مرض أبي كنت بالعام الأخير بالكلية كنت أقضي أغلب وقتي معه أو عند الأطباء وكنت أذاكر ساعتين من بعد صلاة الفجر إلى ميعاد الكلية وكان في الوقت بركة عظيمة