عندما تحكم النفس بالسجن المؤبد!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
ترددت كثيرا قبل أن أكتب إليكم، ولكني أريد أن أشارككم في حيرتي، بعد ذهابي للطبيب النفسي أشار إلى أن جزءًا كبيرا من معاناتي النفسية هي "حبس" نفسي في الغرفة وعدم الخروج إلى "العالم". نعم فهذا صحيح إلى حد كبير، وبالمناسبة أعجبتني كلمة الدكتور أحمد في إحدى استشاراته: "والتشدد الأبله الأعمى الذي ينعق، ويردد ما يسمع دون فقه ولا تمحيص، ولا يهدأ إلا بتفريغ الحياة من كل نشاط إنساني فيتحول الناس إلى قطعان بائسة، فاقدة الإنسانية من باب الأخذ بالأحوط، وسد الذرائع، واجتنابا للفتن... ما ظهر منها، وما بطن!!!" هذه هي مشكلتي، فحرصي على عدم الخطأ وتجنب الذنوب، أقعداني في خطأ أكبر وهو تجنب فعل أي شيء، وتجنب مخالطة الناس.
جربت مرارا أن أخرج من هذا الوضع في السابق قبل البدء بالتعليم الجامعي، وتحديدا في العمل، ولكني انزلقت في الذنوب، وخصوصا في إطلاق البصر، مما أثر على إيماني وروحانياتي. فحبس نفسي في الغرفة جاء بناءا على عدة أسباب:
أولها: أني في الوسط التعليمي أعيش في مجتمع إسرائيلي "منفتح" ولا حدود بين الجنسين تقريبا، وكوني لست متزوجا، ولست على علاقة بأي فتاة، فإني أتقطع من الداخل عندما أرى الفساد أمامي، وتتأجج شهوتي ولا أستطيع السيطرة عليها، وفقط يقتصر خروجي من الغرفة على الذهاب للدروس لأتجنب جو الفساد.
ثانيهما: الصراع المستمر داخل نفسي، بين الاندماج في هذا المجتمع، أو الانزواء عنه والانطواء على نفسي، مع أن مستقبلي المهني في داخل هذا المجتمع!، إنه الصراع القائم دوما بين المبادئ والمصالح، فالوضع في الداخل عندنا يحتم علينا التعامل مع المجتمع الإسرائيلي، ولكن مبادئي تسبب لي المزيد من العذاب وتصورني كأني خائن.
ثالثا: في الخارج جميع المجالات مفتوحة، والكل متاح أمامي، ولكني أخاف من الاختيار، وأخاف أن أخطئ، لذلك أفضل عدم المغامرة.
رابعا: أني بغض النظر عن المجتمع الذي أعيش فيه، فان علاقاتي الاجتماعية شبه معدومة، وأتجنب أي علاقات متينة مع الآخرين، ربما يعود هذا إلى تجارب أليمة في الماضي، والى عدم التحلي بالشجاعة الكافية للبدء من جديد، لذلك أعيش وحيدا في هذا العالم، وأنتظر الموت لعلي ألقى ألأحبة بعدها.
خامسا: امتلاك لبعض سمات الشخصية التجنبية التي تجعلني أتجنب كل شيء، من أجل هذا حكمت على نفسي حكما قاسيا، وهو الحبس في الغرفة، والخروج منها فقط من أجل التعليم. ومع أن نفسي تمردت كثيرا على هذا الحكم "الجائر"، وظهر هذا جليا في تدني علاماتي بشكل ملحوظ مؤخرا، إلا أني لم أغير الحكم، ربما خوفا من "المجهول"، مع أني وصلت إلى القاع في "المعلوم"!
هذا وحبس نفسي، ساهم في تدهور صحتي النفسية، فالكآبة والحزن مسيطران علي، مع أني أقرأ القرآن الكريم، وأواظب على الصلاة، إلا أني أغرق بالكآبة، وحسب رأي الطبيب النفسي أن الكآبة جاءتني بسبب حبس نفسي في الغرفة.
الشيء الرئيسي الذي أتخوف منه إن خرجت من سجني، هو الانسلاخ عن مبادئي، لأن أغلب زملائي الذين أعرفهم، وقعوا في هذا الفخ، وكي أتجنب هذا الفخ وقعت في فخ آخر هو الكآبة والحزن والنظرة السوداوية. صرت أنفر من الدراسة، ولا أطيقها، لأني كنت أظنها سوف تسهم في تطوير جوانب في شخصيتي، ولكن ما حدث هو أنها قادتني إلى الانغلاق على نفسي أكثر.
فهل سجني لنفسي قرار في محله، وكيف أخرج تدريجيا من سجني دون أن تتأثر مبادئي؟
والقضية الأخرى التي أخبرني عنها الطبيب النفسي، هي أني أقسو على نفسي كثيرا ولا أرحمها، وهو فعلا ما كتبته لكم في الاستشارات السابقة، وفي سبيل التخلص من قسوة النفس، ذهبت إلى "تدليل" النفس، والتساهل في أداء الواجبات، فإني أجد صعوبة بالغة في تحقيق التوازن بين القسوة والتساهل. فكيف أحقق هذا التوازن؟.
وآخر قضية، هي أن ظروف تربيتي من قسوة الأب ودلال الأم، أنتجت شخصية تنفر من الرجال واعتبارهم كلهم قساة، وتميل إلى جنس النساء، حاولت الاختلاط بالرجال، ولكني لا أنجح، وأتخيل قسوة أبي......، فمع أني أبدو للآخرين قاسيا، إلا أني من الداخل هش وضعيف فكيف أكتسب خشونة الرجال الحقيقية؟
اتبعت إرشاداتكم في الاستشارات السابقة، والعقبة الرئيسية التي تواجهني، هي تركيزي في حياتي على الناس، أي أني لا أستطيع أن أركز في تصرفاتي وحركاتي كي أصقل شخصيتي، وكذلك حاولت أن أعبر عن مشاعري، فلم أنجح وأجد ألأمر في غاية الصعوبة.
شكرا لكم وأعانكم الله علي.
19/04/2012
رد المستشار
تعرف يا أخي السائل أننا لا نقدم هنا تشخيصا، ولا علاجا كما هو المتعارف عليه مهنيا وعلميا، إنما هي ملاحظات وتعليقات نرد بها على ما يصلنا منكم من سطور!!!
تذكر أنك ذهبت إلى طبيب نفساني متخصص، وهذه مبادرة طيبة تستحق الإشادة والتشجيع، ويبدو أن في حالتك مكونا مرضيا واضحا، قد يحتاج استعمال العقاقير، فهل وصف لك بعضا منها؟!! قرأت رسالتك، ومنذ أن قرأتها وأنا غارق في التأملات حول هذا الوضع الذي تعاني منه، وسألت نفسي: كم من العرب والمسلمين والمسلمات يعيشون مثلك في هذه المعاناة، وربما يحسبون أن هذه الآلام والتخبطات هي القبض على الجمر... الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشهير؟!!!
تجنب مخالفة الناس، والخروج إلى الحياة العامة، وتفضيل الانزواء والانطواء، وتحاشي إقامة علاقات اجتماعية متينة، وبالتالي الخوف من الحياة الاجتماعية، وانتظار الموت، وأعراض الكآبة والحزن، وسيطرة حزمة من المعتقدات والسلوكيات والمشاعر التي تنحبس أنت فيها مثل شبكة صياد لا يفلتك!!!
كم منا يعيش هذه الحياة؟! كم منا تعيش هذا الشقاء، وهو أو هي يعتقدان أن هذه هي الحياة الطيبة التي أرادها الله لعباده المؤمنين الصالحين؟!!
كم منا يمنعون أنفسهم عن المباحات فيقعون في الحرام؟!!
ملايين من الشباب العربي يعيشون الحرمان الجنسي، وهم بتأثير الخرافات والأساطير المتلبسة بقناع الدين يفرون من الرفث إلى الحرام!!!
يهربون من النظر إلى النساء الساخرات إلى ممارسات أشد شناعة، ولا أريد أن أطيل في هذه الفرعية، لكنني تذكرتها وأنت تقول: في سبيل التخلص من القسوة... ذهبت إلى تدليل النفس، والتساهل في أداء الواجبات!!! هكذا تتصور أنت المسألة، وتعطي الأشياء هذه الأسماء!!!
تعالى نستعرض معا مستويات مشكلتك لنراها أوضح:
- لدينا مستوى البيئة المحيطة بك، اجتماعيا، وفيها أمران هامان.... الاحتلال، والانفتاح... دعنا نسميه هكذا.
أما الاحتلال فهو وضع لا تنفرد به فلسطين تاريخيا، وإن كان في حالتنا قد طال حتى صار شبه مألوف، وواقعا لابد من التأمل بحثا عن إيجابياته؟! نعم!!! هل جربت أنت الحياة في قطر "إسلامي" مثلا يحرم الحياة الاجتماعية العامة، ويدمر كل إمكانيات اللقاء بين الناس سواءً كان هذا اللقاء لأغراض الثقافة أو السياسة، أو الآداب، أو الفنون؟!! وحيث البشر هناك مجرد كائنات محبوسة في صناديق مكيفة تعيش وتموت مختنقة بخواء المعنى والمشاعر؟!!
أيهما تفضل، والاختيار صعب، بين أن تعيش تحت الاحتلال إنسانا يرفضه ويقاومه –بما يستطيع– أو أن تعيش في منافي الروح والإنسانية، ومعسكرات الاعتقال اللطيفة حيث لا نساء سافرات في الشوارع، ولن تسمع صوت المعازف في الأسواق، ولا تجد دور اللهو، ولا حتى دار أوبرا، ولا مسارح ولا منتديات يختلط فيها الرجال بالنساء!!!
بالمناسبة لي صديق عزيز فلسطيني ذكرت له طرفا من قصتك، وهو يعيش طوال عمره في هذا المناخ "المطهر" و"المعقم" من "الفتن"، وهو لم يتردد في أن يعرض عليك المبادلة ليعيش هو حرا تحت الاحتلال، وتعيش أنت بعيدا عن الفتن!!
- على مستوى السلوك أذكرك أن حبسك لنفسك في البيت يبرمج حتى جسدك على أ المنزل هو العالم بالنسبة لك، وربما تجد في خروجك بعض الأعراض الجسمانية التي تحصل لمرضى "رهاب الأماكن المفتوحة" وهو مرض معروف، وله علاجات دوائية، ونفسية معرفية وسلوكية، وفيه لا يشعر الإنسان بالأمان إلا في الأماكن المغلقة التي يعرفها، وهو يرتعب من التعرض لأماكن جديدة، أو التعامل مع بشر لا يعرفهم!!!
- وربما أنك لا تعاني من هذا المرض، لكن تصيبك بعض سماته أنت وملايين ربما لا يعرفون هذا، ويظنون حبس النفس من التقوى والعمل الصالح!!! ويفصل في وصف العقاقير لك طبيبك المعالج.
- على مستوى المهارات والقدرات دعني ألفت انتباهك أن مخالطة الناس لها في الشرع فقه، ولها في العلوم فنون وأساليب/ ومن غاب عنه الفقه والأسلوب سيعتبر التعامل مع الناس، والخروج إلى العالم محض عبء ثقيل، ومجهود منهك، وسيتجنب دائما الدخول في ما يعتقد أنه مواجهات فاشلة!!!
- ولا يمكن اكتساب مهارات المخالطة إلا بالمخالطة، وأذكر الآن رسالة جامعية ناقشتها إحدى مستشارات "مجانين" قريبا عن فقه المخالطة، لعلنا ننشر فصولا منها لتعميم الفائدة.
- مستوى الأفكار والمعتقدات والقيم: يبدو أن لديك فيه التشويش المعتاد، ولا يتسع المقام للتفصيل حول الفتنة التي يعتقد بعضنا أنها تسكن أجساد النساء، أو صورهن، أو الإيحاءات الإغوائية للسلع، والتسوق، أو التعاملات العادية، وبخاصة في مجتمع إفرنجي تتحرر فيه النساء من الملابس، ويتصرفن بعفوية يعتبرها بعضنا عهرا، والمسألة كلها في أدمغتنا فقط!!!
- تأملت بمناسبة رسالتك في الحادثة الشهيرة حين جاء المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا الإذن بالمكوث في المدينة وعدم الخروج للجهاد، والغزو معه، وقالوا معتذرين: لا نصبر عن نساء بني الأصغر (وكان الخروج لملاقاة الروم)... وكانت إشارة القرآن الكريم رائعة وبسيطة، ونافذة موصلة!!!
- "ألا في الفتنة سقطوا"...(راجع الآيات، وأسباب النزول) الفتنة في الدماغ يا أخي... وإنما كان النهي عن إطلاق البصر لتسكين مثيراتها، لا نفيا لأصلها لأن الإثارة الجنسية، والشهوة الجنسية طاقة رائعة وخلاقة، ولا يريد الله كبتها مطلقا، ولكن تشغيلها في إعمار الكون، وإسعاد الإنسان، فمن يفهم هذا منا يا أخي، ويتصرف بمقتضاه؟!! ومن يستجيب للتضليل باسم الدين، وكبت الطاقات "درءا... للفتنة"؟!!
- على مستوى نظرتك إلى نفسك، وتحديك لهويتك يبدو التشويش مستمرا، وأنت ترى نفسك هذا المخلوق الضعيف، وأنت لست كذلك، فاقد السيطرة على نفسك، وشهوتك!! وأنت لست كذلك!! وترى نفسك هشا لأنك لست فظا ولا قاسيا، ومخالطة الناس جميعا هي مساحة التدريب الوحيدة على أن تكون متوازنا بين الحكمة، والشدة في مواضعها، ولين الجانب في المواقف التي تتطلبه... وسيكون الأمر صعبا، ولكنه يسهل بالتدريب المتواصل وحده، لا سواه!!!
- دع عنك الأوهام جميعا، وابحث عن أنشطة مناسبة وممتعة تفيدك، وستجد منها الكثير... حيث جمعيات النفع العام العربية منتشرة، والجهود مطلوبة لدعم العرب اجتماعيا ونفسيا واقتصاديا تحت الاحتلال، مما يستدعي استنفار الجهود والطاقات كلها تشغيلا لا تعطيلا، وهكذا تقوى النفوس والمجتمعات!! والتعامل مع الأمر الواقع تحت الاحتلال لا يعني الرضا به، ولا التطبيع معه، ولا اعتباره قدرا نهائيا، ولكنه أمر واقع يلزمنا التعامل معه، والتضامن إزاء التحديات التي يفرضها علينا كعرب في مواجهة الضغوط اليومية الهادفة لتفريغ فلسطين من أهلها بأساليب يومية ناعمة غير مستفزة للرأي العام العالمي، والتصدي للقتل البطيء، ومحاولات التذويب الهادئة لا يكون بالانحباس والانزواء، ولكن بالتفاعل، والاشتباك اليومي الجماعي في كافة مناحي الحياة، وهذا هو جهادكم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. والسبيل الوحيد للتخلص من الآثار السلبية لنمط التنشئة الأسرية هو الاندماج في خبرات جديدة، وتدريبات على أنماط أخرى، وتجارب أخرى في التعامل مع الناس، والحياة!!!
- إذن مرضك هو في الانعزال، وعلاجك هو مواجهة الجديد كل يوم/ والتعامل معه، والتواصل مع أنشطة الحياة والبشر، وتدريبات التركيز على شئونك، واستمرار المحاولات، حيث عبر هذه المحاولات وحدها يمكن أن تتحسن على المستويات جميعا، وطبيعي أن تستغرق الحياة جهدا، ويستدعي النضج بذل الطاقة، وهي نفسها الطاقة التي تكتبها ويكتبها بعضنا بالانحباس خوفا مما ينبغي لك ولهم ولهن مواجهته!!! وتابعنا بأخبارك.