وسواس وعدم ثقة بالنفس
أنا شاب مصري أعمل صيدلي في إحدى الصيدليات في السعودية.. أود أن أبدأ قصتي من البداية منذ أن كنت صغيرا وأنا كنت متفوقا في دراستي جدا وكنت أخاف أن ينتابني الغرور فكنت دائما ما أقلل من نجاحي وأقول أنه شيء عادي ولم أكن فقط متفوق في دراستي بل كنت متفوق أيضا رياضيا وأتمتع بذكاء جيد والحمد لله ولكن من شدة خوفي أن ينتابني الغرور أو التكبر بدأت أقلل من شأن تفوقي شيئا فشيئا إلى أن بدأت أفقد الثقة في النفس حتى أنني الآن فاقد الثقة في نفسي تماما وأرى نفسي أني إنسان فاشل ولا توجد فائدة من ورائي وأني عالة وعبء على أهلي وأصدقائي والمجتمع
وتلاقت هذه الأفكار من وسواس قديم لدي ولكن شدة هذا الوسواس تزداد وتنقص مع الوقت وطبقا للمواقف التي أمر بها.. عذرا سأسرد بعض المواقف اللي عانيت فيها من الوسواس في مختلف مراحل عمري..
بداية عندما كنت في صف الأطفال كي جي 2 كان ينتابني شعور أن أمي سوف تضعني في المدرسة ولا تأتي لتأخذني وأنني لن أستطيع العودة للبيت مرة أخرى لدرجة أنني في نهاية العام كنت أبكي كثيرا وأنا ذاهب للمدرسة مع أمي ولا أريد أن أتركها فكانت تأخذني معها إلى العمل مرة وتتركني أبكي في المدرسة مرة وظل الحال هكذا إلى أن أخذتني مدرسة للصف الأصغر مني وكنت أظل معها طوال اليوم حتى يأتي ميعاد الانصراف وتأتي أمي وذلك حتى انتهى العام..
وفي الصف الابتدائي ذهب هذا الشعور وتبدل بشعور الخوف أن يحدث لأمي مكروه أثناء عودتها من العمل وأن لا أراها مرة أخرى ويظل معي هذا الشعور بالخوف والتوتر إلى أن تعود من العمل وإذا حدث وتأخرت في يوم ولو حتى ربع ساعة عن ميعادها ينتابني خوف شديد لا يزول إلا بمجيئها (معلومة أبي كان يعمل بالخليج منذ صغري وأمي هي من ربتني ولذلك أنا متعلق بأمي جدا وهذه الأحداث كانت أثناء سفر أبي أما الأحداث القادمة فبعد عودة أبي من السفر)
بعد ذلك عندما التحقت بالمدرسة الثانوية رغم مجموعي الكبير في المدرسة الإعدادية إلا أني كنت أشعر أنني غير قادر على تحقيق النجاح بمجموع كبير والالتحاق بكلية من كليات القمة وكان ما يزيد الضغط علي هو أمل أمي وأبي في تحقيق هذا الحلم لعدم تفوق إخوتي في الدراسة فكنت لا أستطيع النوم وأخشى حتى من المشاركة في إجابة الأسئلة اللي يوجهها الأساتذة في الفصل خوفا من أن تكون الإجابة خاطئة وتهتز صورتي أمام أصدقائي على الرغم من كوني في فصل الفائقين
وبعد الامتحانات كنت أشك في إجاباتي هل هي صحيحة أم خاطئة بل ازاد بي الأمر أنني كنت أشك هل كتبت اسمي على ورقة الإجابة أم لا وأحيانا هل كتبت رقم جلوسي على الورقة صحيحا أم خاطئا لدرجة أنني كنت أخشى أن أحفظ رقم جلوسي كي لا أكتبه من الذاكرة وأخطئ فيه فكنت أنقله من ورقة رقم الجلوس وبعد ذلك كنت أكتب اسمي بخط نسخ خوفا من أن أكتبه بخط رقعة فيقرأه المصحح خطأ.. إلى أن ظهرت النتيجة.
وحصلت على 99% والتحقت بكلية الصيدلة وهناك انتابني وسواس اللغة حيث أن كل الدراسة باللغة الإنجليزية وأنا كل دراستي بالعربية ومرت علي أسوأ سنة في حياتي إلى أن انتهيت من العام الأول في الكلية ثم انتهت مشكلة اللغة ومن العام الثاني بدأت مشكلة شعوري بعدم قدرتي على الاستيعاب ونسياني المستمر للمواد العلمية وأنني لن أستطيع النجاح في الكلية ومرت أربعة سنوات من المعاناة إلى أن تخرجت بتقدير جيد جدا.. لتبدأ حياتي العملية بالبحث عن وظيفة في إحدى شركات الأدوية
فتم قبولي في إحدى الشركات المصرية وكنت أتطلع للعمل بإحدى الشركات الأجنبية التي تسهل السفر للخارج على الرغم من كوني لا أرى نفسي متميزا أو حتى أصلح لهذه الوظيفة ولكنها الوسيلة الوحيدة لكي أكون نفسي لأبدأ حياة زوجية ولكنني قمت بمقابلات في معظم الشركات الأجنبية أكثر من 15 مقابلة خلال عامين وفشلت فيهم جميعا مما زاد من الإحباط واليأس وزاد الشعور بعدم الثقة بالنفس..
إلى أن جاءت لي فرصة العمل في صيدلية في السعودية وعلى الرغم من أن من شروط القبول خبرة عامين في نفس المجال وهو غير متوفر في إلا أنه تم قبولي أخبرني المدير أنه على الرغم من عدم مناسبتي للعمل بدون خبرة إلا أنه يريدني إن علي أن أجتهد وإلا سوف ينهي عقدي..
بالفعل اجتهدت في عملي وأثبت كفاءة على الرغم من أني كان لدي شعور أني سوف أفشل وأعود لبلدي بعد شهر أو اثنين وكانت الأمور تسير على ما يرام حتى 6 أشهر حينما أخطأت في وصفة طبية وأخرجت لوشن بدلا من كريم لمريضة جلدية وعلى الرغم من أن الدواء هو نفسه إلا أن الطبيبة اتصلت بالإدارة واشتكت وأرسلت المريضة لاستبدال الدواء من الصيدلية بعد أن استخدمت بعضه.. وتم تحويلي للتحقيق وخصم ثمن الدواء من راتبي ولكن هذه ليست المشكلة..
المشكلة أن المدير جلس معي وقال لي أن هذا أمر لا يمكن أن يحدث والطبيبة كانت مصرة على أن تبلغ الشرطة ولولا أنه أقنعها ألا تفعل لكنت قد وضعت في السجن إلى أن يتم العفو عني من الطبيبة أو يتم ترحيلي على بلدي..
هذا الموقف كان نقطة التحول في عملي فمن وقتها وأنا كلما تأتيني وصفة طبية من أي مكان لا أستطيع أن أصرفها أقرأها عدة مرات وأتأكد منها ومن الجرع وبعد أن يخرج المريض أشك أني قد صرفت دواء خطأ أو كتبت الجرعة بشكل خاطئ وأظل أفكر مرارا وتكرارا حتى أنني في بعض الأحيان حينما يهم المريض بالانصراف أذهب ورائه عند الباب وآخذ منه الدواء لأتأكد مرة أخرى وأحيانا أخرى لا أصرف الدواء وأتحجج أن الدواء غير متوفر على الرغم من أنه متوفر وأنا واثق أنه هو ولكن لدي بعض الشك..
فكرت كثيرا أن أعود لبلدي وأترك العمل هنا فأنا أعيش في جحيم التفكير والوسوسة ولكن لو عدت سوف أعاني من نفس المشكلة هنا أيضا.. وصل بي الحال أنني أصبحت أشك أن من حولي قد يدبرون أمرا لي ليوقعوا بي حتى وإن كانوا لا يعرفونني مسبقا..
ففي يوم ذهبت لأسجل خط التليفون في شركة الاتصالات فطلب مني الموظف أن أوقع على العقد وصورة الهوية وحدد لي الأماكن التي يجب أن أوقع فيها فوقعت وبعد أن عدت إلى البيت تذكرت أن بين صورة الهوية وتوقيعي مسافة فارغة قد يستغلها الموظف في أن أوقع على شيء ما وظللت طوال هذه الليلة بدون نوم حتى ذهبت للعمل في الصباح..
أنا أعاني وأريد أن أعرض نفسي على طبيب نفسي ولكن هنا صعب والأمر مكلف ولا أستطيع أن أنتظر إلى أن أعود لبلدي بعد عدة أشهر في إجازتي
أرجو المساعدة.. فأنا لا أستطيع مواصلة حياتي بصورة طبيعية ولا أتخيل نفسي متزوج وأعاني من نفس المشكلة بل سوف تزيد عليها مشاكل الزواج المعروفة والموجودة في كل بيت كيف سأتحمل مسئولية بيت وأطفال وأنا عاجز عن تحمل مسئولية نفسي..
ماذا أفعل بالله عليكم..
وآسف على الإطالة
07/09/2012
رد المستشار
الأخ العزيز الدكتور "محمد"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
البذرة المبكرة في شخصيتك كانت ضميرا حيا يحاسبك على كل صغيرة وكبيرة ويجعلك في حالة رعب من الغرور لدرجة أنك كنت تقلل من شأن تفوقك حتى وصلت إلى درجة فقد الثقة بالنفس وهنا نطلق على هذه الحالة "الضمير العنيف Aggressive conscience" وهو الضمير الذي يجلدك دائما ويجعلك في حالة شديدة من القلق تجاه أي شيء تفعله ولذلك تحتاج الإعادة للتأكد حتى تصل إلى درجة عالية من الإتقان، وأصحاب هذا النوع من الضمير لا يستطيعون الشعور بالراحة أو بالرضا لأن الخطأ لديهم غير وارد وغير محتمل.
إضافة إلى ذلك فقد عانيت مما يسمى"قلق الانفصال Separation Anxiety" حيث كنت مرتبطا بوالدتك بشكل قوي، وربما يكون لسفر الوالد دورا في هذا الأمر، لأنك رأيت فيها كل مصادر الأمان والحماية، ولهذا كنت تقلق وتضطرب حين تبتعد عنك أو تتركك في المدرسة، وكانت تساورك أفكار بفقدها.
إذن فوجود ضمير عنيف مدقق، ووجود حالة من قلق الانفصال جعلك تعيش في توتر دائم لأنك تبحث دائما عن اليقين وعن الإتقان الكامل وتبحث أيضا عن الأمان، ولا تحتمل أي نسبة من المغامرة أو الخطأ.
وقد يكون لهذا شيئا إيجابيا انعكس في تفوقك وحصولك على 99% حيث أن من لديهم ميولا وسواسية يتميزون بالدقة ومراعاة التفاصيل والميل للإجادة والإتقان، إلا أن الوجه الآخر للأمر هو المعاناة من متطلبات اليقين والتي تتمثل في الرغبة القهرية في إعادة التأكد من الأشياء.
ثم كانت نقطة التحول حين أخطأت في صرف الدواء وحدثت المشكلة مع الطبيبة وكدت تتعرض لخطر المحاسبة المهنية عندئذ توحش الوسواس بداخلك، وكأنما تأكد لك أن مخاوفك وشكوكك منطقية، وأن الخطأ (مهما كان بسيطا) فهو غير محتمل، بل كارثي، وهنا تشكل الوسواس القهري بوضوح وأصبحت مضطرا لمراجعة كل شيء وإعادة المراجعة حتى تطمئن.
وتفكيرك في العودة إلى بلدك لن يحل المشكلة حيث أن بذور الوسواس موجودة وقد يتغير بشكل الوسواس حين تتغير البيئة ولكنه يظل ملحا ومهددا ما لم يعالج والوضع الطبيعي في العلاج هو أن يسير في خطين متوازيين: الأول هو العلاج الدوائي باستخدام أحد مركبات (مانعات استرداد السيروتونين النوعية SSRIs م.ا.س.ا) بجرعة مناسبة ومتدرجة في الزيادة حتى يضعف الوسواس، والثاني هو العلاج المعرفي السلوكي والذي يساعدك على فهم طبيعة الأفكار الوسواسية ومنع تحويلها إلى طقوس قهرية، وهذا يحتاج إلى جلسات نفسية مع طبيب نفساني (أو أخصائي نفساني) متخصص في ذلك.
أما وأنك ذكرت أنك لا تملك الآن فرصة الذهاب بطبيب نفسي فيمكنك البدء في العلاج الدوائي كالتالي (بشرط تأكدك من عدم وجود مشاكل صحية عضوية تتعلق بأجهزة الجسم المختلفة):
فلوفوكسامين 50 مجم قرص مساءا لمدة 10 أيام
ثم قرص 50 مجم صباحا ومساءا لمدة 10 أيام
ثم قرص 100مجم صباحا ومساءا بعد ذلك ويستحسن مراجعة طبيب نفساني على الأقل مرة كل ثلاث شهور لتقيين الاستجابة للدواء وتقرير الزيادة أو النقصان في الجرعة حسب حالتك.
والعلاج الدوائي لا يعطي تحسنا كاملا للحالة ولكنه يخفف كيرا من الأعراض لحين وجود فرصة لاستكمال العلاج بالعلاج المعرفي السلوكي.
واقرأ على مجانين:
العلاج الذاتي قد لا يكفي
علاج الوسواس بالعقار فقط لا يكفي
وساوس واكتئاب : تحققٌ واجترار وتكرار